ستون عاماً مرّت على واحدة من أعظم الثورات في التاريخ المعاصر. يوم قرّرت ثلُّة من الرجال في أول يوم من شهر نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1954، أن ترفع عن شعبها ظلم 130 عاماً من الاستعمار.ذلك الاستعمار الذي هضم الشعب الجزائري حقه في العيش سيداً على أرضه وحقه في الكرامة الإنسانية، فجلب مستوطنيه ليستعبدوا أصحاب الأرض وينعموا ببلد واسع الأرجاء، مساحته تعادل نحو خمس مرات مساحة الدولة المحتلة.

ولم يبخل الشعب بالتضحيات في سبيل الاستقلال، دفع بخيرة أبنائه إلى ميادين الشرف، أملاً في أن تنعم الأجيال الآتية بالعيش حرّة كريمة وباستغلال خيرات البلاد الوافرة التي اصطفاها المستوطنون لأنفسهم فيما كان الجزائري يتخبط في براثن الفقر والجهل والمرض.
وكانت ضريبة الحرية مليونا ونصف مليون شهيد في سبع سنين فقط. ناهيك عن مئات الآلاف من الضحايا الذين سقطوا منذ أن وطئت جحافل فرنسا وسفنها أرض ومياه الجزائر في الخامس من تموز (يوليو) عام 1832. وانتصر الشعب الأعزل على القوة الأطلسية بالإرادة والإيمان بعدالة قضيته وبالدعم العربي الذي كانت مصرُ عبد الناصر رأس حربته.
الآن وبعد ستين عاماً من هذه الملحمة الأسطورية التي مرّغت وجه فرنسا الاستعمارية في الوحل، وهي لم تكد بعْدُ تستردّ وعْيها الذي أفقدها إياه ثوار ديان بيان فو في المعركة التي شهدتها السنة ذاتها وكانت إيذاناً بانتهاء عهد الوجود الفرنسي في الهند الصينية، بعد كل هذا العطاء وبعد أكثر من 52 عاماً من الاستقلال، كيف يحلّ عيد الثورة الستون على الجزائر وشعبها؟

التهديدات والأخطار الاقليمية

تحلّ الذكرى والبلاد تعيش ظرفاً دقيقاً على المستوى الخارجي. فرأس الدولة شبه غائب بسبب ظروفه الصحية وأصبحت وسيلة التواصل بينه وبين الشعب تتم بالمراسلة!
حيث أن العلاقة الوحيدة التي تربط الحاكم بمحكوميه هو تلك الرسائل التي ترِدُ في نشرات الثامنة أو بعض الصور الشحيحة التي يمنّ بها التلفزيون الرسمي على الناس حين يبثّ لقطات قصيرة عن الرئيس الذي التقى قائد الأركان أو هذا المسؤول الأجنبي أو ذاك. ما أدى إلى تعالي بعض الأصوات داخل الطبقة السياسة تنديداً بما أسموه الشغور الرئاسي.
ثمة من يحاول أن يجرّ «رِجْلَ» الجزائر إلى صراع على أرض مشاع اسمها ليبيا

وفي ظل الأخطار التي تترصد بالبلد، اكتسى هذا الوضع الشاذّ أهمية حيوية لأن الوضع الإقليمي يستدعي وجود حاكم حاضر في كل محفل وفي كل حدث يخاطب شعبه وناخبيه.
فإذا نظرنا جنوباً، وتحديداً إلى دولة مالي المجاورة، نجد أن الاستقرار الذي سوّقه لنا الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بتدخله العسكري هناك لا يزال غائباً برغم الانتخابات التي نُظمت بمباركة اقليمية ودولية وبرغم جهود الوساطة التي تبذلها الجزائر باحتضانها اجتماعات الفرقاء السياسيين الماليين أملا في التوصل إلى حل.
وقد زادت الأمور سوء في الآونة الأخيرة حين شهدت المنطقة المتاخمة للحدود مع الجزائر (30 كم) معارك بين الطوارق والعرب ما يثير الخشية من انتقال العدوى إلى الجنوب الجزائري نظراً إلى التداخل الجغرافي والإثني في تلك المنطقة.
أمّا ليبيا، تلك الجارة الشرقية التي تتقاسم أكثر من 900 كم من الحدود فحدث عن الفوضى فيها ولا حرج. وما كان للجزائر إلا أن تضرر من عدم وجود سلطة مركزية تضبط الحدود وتمنع تهريب السلاح وانتقال الجماعات الارهابية مع كل ما يعنيه هذا من خطر على البلد.
من لا يتذكر مثلاً، حادثة قصف طائرات حربية مجهولة مواقع في العاصمة الليبية طرابلس دعماً للواء خليفة حفتر ومحاولة البعض إلصاق التهمة بالجزائر بعد أن وُجّهت أصابع الاتهام الغربية إلى دولة الإمارات عبر الأراضي والأجواء المصرية. وكأنّ ثمة من يحاول أن يجرّ «رِجْلَ» الجزائر إلى صراع خليجي عثماني على أرض مشاع اسمها ليبيا!
ورغم نفي الجيش الجزائري أية علاقة له بما جرى خصوصاً أن دستور البلاد يمنعه من القيام بأية عملية خارج حدوده، فإن تلك الحادثة زادت من الشعور بغياب من يقود السفينة وإن على مستوى الشكل، في زمن التكالب على خيرات الوطن العربي وشعوبه على يد القوى العظمى وأذرعها التكفيرية.

الذكرى الستون والوضع الداخلي

ستون عاماً مرت ولا تزال الجزائر تضمّد جراحها الغائرة التي سببتها سنوات التفرد بالحكم وسوء الإدارة وآفة الإرهاب الأعمى، أكان على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي.
فلا يكاد يمر يوم من دون حركات احتجاجية تشل قطاعات حيوية في البلاد. وأبرز مثال على ذلك، الإضرابات المتكررة لقطاع التربية والتعليم والاعتصامات التي نظمتها قوات الشرطة أخيراً أمام مقر رئاسة الوزراء في سابقة خطيرة من نوعها.
وعلى الرغم من الخيرات التي حُبِيَت الجزائر بها وبسبب التوزيع غير العادل للثروة، فقد استبدّ الشعور بالغُبن بشرائح واسعة من المجتمع نظراً إلى الفساد المستشري الذي جعل البلد تحتل المرتبة الـ94 من أصل 177 دولة بحسب تقرير لمنظمة الشفافية الدولية لعام 2013.
فأين نحن من تلك القيم التي قامت عليها الثورة الخالدة؟ حين وضع الثوار أرواحهم على أكفّهم ولم يرضوا غير الحرية بديلاً، مهما كلفهم ذلك، وكان لسان حالهم يقول نريد استقلال الوطن ونسعى اليه ولو اضطررنا بعد ذلك إلى أن نقتات الخبز والماء.
لقد اصبحت الشرعية الثورية مطيّة لكل فعل، أكان حسناً أو سيئاً. وباسم الثورة يستأثرون بالحكم. وباسم الثورة أصبح البعض يطالب بحقوقه بدل ان يكون باسم المواطنة. فنلاحظ مثلاً وجود ما يسمى بمنظمة أبناء المجاهدين على غرار منظمة أبناء الشهداء الذين تكفلت الدولة بهم بعد الاستقلال واستشهاد ذويهم. وحسناً فعلت. إن من له حق، يجب أن يحصل عليه، أكان ابن مجاهد أو غيره خصوصاً أن الدولة وفرت لمجاهدي الثورة التحريرية مخصصات تضمن لمعظمهم العيش الكريم، وما أولادهم إلا مواطنون لهم حقوق كغيرهم في كنف دولة الحق والقانون التي ننشدها في بلادنا العربية كلها.
إن الجزائر بحاجة إلى من يعيد إشعال جذوة نوفمبر من جديد، ليكون الحاضر والمستقبل بمستوى تضحيات الماضي في سبيل الحرية.
لا ينبغي أن يُنْظَر لبلد المليون ونصف مليون شهيد على أنه بقرة حلوب تعطي ولا تأخذ، لأن النفط ثروة زائلة، طال الزمن أو قصُر.
فما عساهم فاعلون حينئذ، اولئك الذين يرفلون في نعيمه وينسون أن عليهم واجبات أيضاً؟ وفي هذا، الجميع مسؤول أمام التاريخ وأمام الاجيال المقبلة. على اهل الحكم أن يستخلصوا العبر من اخطاء الماضي وما مرّ على البلد من مصائب ليردوا الحقوق لأصحابها ويستثمروا في بناء الانسان لا أن يشتروا سكوت الشعب بدراهم معدودة. كما انه على هذا الشعب مسؤولية كبرى، ان يتعلم هو الآخر من اخطاء الماضي فيشمّر على سواعده لا أن ينتظر مائدة تنزل من السماء. فلقد ولى زمن المعجزات.
* صحافيّة جزائريّة ــ فرنسا