من حقّ إسرائيل، لا بلْ من واجبها، اعتماداً على معتقداتها الصهيونيّة ــ التوراتيّة، أنْ تُطالب الغرب والعرب وتحديداً الفلسطينيين، بالاعتراف بأنّها دولة الشعب اليهوديّ. ومن حقّنا ومن واجبنا الوطنيّ والأخلاقيّ، أنْ نرفض هذا المطلب جملة وتفصيلاً، قلباً وقالباً، وأكثر من ذلك، يتحتّم على الناطقين بالضاد من محيطهم إلى خليجهم، ونحن نتكلّم عن الشعوب لا عن النُظُم الحاكمة والمتواطئة مع أميركا، أنْ يعلنوا موقفهم الرافض لهذا المطلب.
وليس عن طريق الغوغائية والعبثيّة، أو من باب بيانات الشجب والاستنكار والتعبير عن الامتعاض، بلْ من منطلقات علميةٍ وعمليةٍ، ترتكز فيما ترتكز إلى الأدلّة والوثائق والقرائن التي تُثبت بما لا يدعو مجالاً للشك، بأنّ الرواية الصهيونيّة، التي سوقّتها إسرائيل منذ زرعها هنا في الشرق الأوسط، هي رواية كاذبة ومزيفّة ومزورّة، قائمة على الأكاذيب، مثل المقولة أنّ فلسطين هي أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرضٍ.

■ ■ ■


المُطالبة الإسرائيليّة بالاعتراف بيهودية الدولة تخدم أقطاب تل أبيب على الصعيدين الاستراتيجيّ والتكتيكيّ، فإذا أخذنا الجانب الثاني، أيْ التكتيكيّ، فإنّ الحكومات الإسرائيليّة المُتعاقبة، وبهدف التملّص مما يُسّمى بعملية السلام، استخدمت هذه الحجّة، أيْ رفض الفلسطينيين الاعتراف بيهوديتها، بهدف التملّص من استحقاقات ما يُطلق عليها بالعمليّة السلميّة. وهي بالأحرى عملية مفاوضات عسيرة، لا تُسمن ولا تُغني عن جوع، ولن تُحقق أيّ شيء على الأرض.
وللدلالة على ذلك، يكفينا الإشارة في هذه العُجالة إلى أنّه بعد 21 عاماً من التوقيع على اتفاق أوسلو التعيس والمنكود بين حكومة إسرائيل وبين منظمة التحرير الفلسطينيّة، وصلت أعدل قضية في العالم، إلى الدرك الأسفل، أوْ أكثر من ذلك إلى حضيض الحضيض. وباتت تحتّل مرتبة متأخرةً جداً في الأجندة الإقليميّة والدوليّة، الأمر الذي لا يُبشّر خيراً، ولا يبعث على الطمأنينة.
العدو لن يتنازل
قيد أنملة عن المُخططات التي وضعها ويفرضها
على أرض الواقع
ولا نعتقد أننّا نتجنّى على أحد إذا قُلنا، ولم نفصل، إنّ القوى الإقليميّة المتصارعة في الشرق الأوسط، باتت مُتسارعة جداً في حلّ معضلة التنظيم الإرهابيّ، «الدولة الإسلاميّة»، الذي أقامته رأس حربة الإمبرياليّة في العالم، الولايات المتحدّة الأميركيّة، لتجد نفسها بعد مرور أشهر عدة في مواجهة «لايت» معه، لأنّ الحركات الدينيّة الأصوليّة، إنْ كانت مسيحيّة أو إسلاميّة أو يهوديّة، تتخذ من الدين حجة لتنفيذ مآربها، والحروب الصليبيّة أكبر دليل على ذلك.
فالأزمة الاقتصادية التي اندلعت آنذاك في القارّة العجوز أوروبا، دفعت بالمسيحيين إلى رفع راية الصليب، زوراً وبهتاناً، طمعاً في السيطرة على موارد المنطقة هنا، أي إنّه في حالتنا هذه، فإنّ الغاية تُبرر الوسيلة، وتجيير الدين، أيّ دين، ما هو إلّا وسيلة لتبرير الغاية، أي تحقيق الأطماع الماديّة، علاوة على ذرّ الرماد في العيون.

■ ■ ■


يهودية إسرائيل تحمل في طيّاتها الكثير من المخاطر على الأمّة العربيّة وعلى الفلسطينيين بشكلٍ خاصٍ، لأنّ هذا الطلب غالٍ ونحن، للأسف الشديد، بتنا من أرخص المُنتجات على وجه هذه المعمورة. الصهيونيّة، خلافاً لنا، وضعت الخطط الخبيثة، التي لا تقتصر على فلسطين التاريخيّة فقط، بل أبعد من ذلك بكثير، وبالتالي المُطالبة بيهودية هذه الدولة تخدم الصهيونيّة في الترويج للعالم برّمته مقولة رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأسبق، إسحاق شامير بأنّ العرب هم نفس العرب والبحر هو نفس البحر، أيْ أنّهم يرفضون السلام مع دولة الاحتلال، ولا يُفوّتون فرصة لتفويت فرص السلام المنشود مع الإسرائيليين. وعلى الرغم من أنّ الحديث الإسرائيليّ هو خرافة وهراء، إلّا أنّ العالم، ونقصد الحكومات لا الشعوب، تتقبلّه وكأنّه منزل من السماء، ليس لأنّ إسرائيل قويّة، بل لأننّا ضعفاء. وفي هذا المكان والزمان تستحضرنا مقولة حكيم الثورة وضميرها، المغفور له جورج حبش، الذي أرسى مقولته المأثورة بأنّ إسرائيل ليست أقوى من أميركا، والشعب الفلسطينيّ ليس أضعف من الشعب الفييتنامي. كما أنّه لا يُمكننا القفز عن البديهيّة التاريخيّة، وهي أنّ هذه الدولة تتحكّم بدوائر صنع القرار في واشنطن، عبر اللوبيات الصهيونيّة واليهوديّة، الأمر الذي يجعل أيّ صراع معها، بما في ذلك المُسلّح، حرباً ضدّ أميركا. ولا غضاضة في هذا السياق من التذكير بما كان رئيس الوزراء الأسبق وجزّار صبرا وشاتيلا أرييل شارون، قد تميزّ به، بحسب رواية أصدقائه، كما أوردت صحيفة «معاريف» العبريّة، بُعيد وفاته: كان يتقزّزّ عندما يرى الزعماء العرب بالتلفاز وأَمَر في كثيرٍ من الأحيان بإلقاء جثث الفلسطينيين بالنفايات. وأكثر من ذلك، أتخيّل شارون، ومن قبله باراك ورابين، ومن بعده بنيامين نتنياهو، يقولون: أنا إسرائيل، لديّ القوة للسيطرة على السياسة الأميركيّة، ولجنة الشؤون العامة الأميركيّة الإسرائيليّة (إيباك) يُمكنها كسر أوْ صنع أيّ سياسيّ كما تشاء، وكما ترون، إنّهم جميعاً يتنافسون لإرضائي، أما القوى في العالم فتكون عاجزة في وجهي، بما في ذلك الأمم المتحدّة، لأنّ الفيتو الأميركيّ يمنع أيّ إدانة لبلدي ضدّ جرائم الحرب.

■ ■ ■


هذه الدولة المُعربدة بامتياز، والمارقة مع علامة الجودة فوق البنفسجيّة، باعتقادنا المُتواضع جداً، لن تتنازل قيد أنملة عن المُخططات التي وضعتها، وتقوم بفرضها على أرض الواقع، مستغلةً التخاذل العربيّ والهوان الفلسطينيّ.
إنّها بسذاجة تُريد أنْ تكون دولة نقيةً من العرب، ولكن بما أنّ الترحيل الجماعيّ (الترانسفير)، لم يَعُد عملياً، كما فعلت في النكبة المشؤومة، فإنّها تلجأ لاستخدام القوانين العنصريّة التي يشّرعها البرلمان الصهيونيّ، لتضييق الحيّز، الضيٌّق أصلاً، على الفلسطينيين في الداخل، بهدف دفعهم إلى الهجرة أو التهجير الطوعيّ. أمّا بالنسبة إلى حلّ الدولتين لشعبين، فالدولة العبريّة تُريد تطبيق الحلّ على أرض الواقع، ولكن مع تعديلٍ «طفيفٍ للغاية»، الوطن البديل، أيْ أنْ تكون المملكة الأردنيّة الهاشميّة هي دولة فلسطين، وهكذا تتخلّص إسرائيل من الفلسطينيين في الضفّة الغربيّة المحتلّة، أمّا بالنسبة لقطاع غزّة، فهناك خطة الجنرال غيورا آيلاند، رئيس مجلس الأمن القوميّ الإسرائيليّ السابق، والتي تتحدّث عن إقامة دولة غزّة الكبرى، عبر قيام مصر بمنح الفلسطينيين مساحات من الأرض في شبه جزيرة سيناء تعويضاً لهم عن الأراضي التي ستأخذها إسرائيل. وبما أنّ الجنرال آيلاند، هو بطل أبطال الأخلاقيّة في العالم، فإنّه يشرح في خطّته الشيطانية أنّه بإمكان الفلسطينيين تطبيق حقّ العودة إلى غزّة الكبرى. وبالمناسبة، قبل أسابيع عدة أطلقت إسرائيل بالوناً إعلامياً جاء فيه أنّ الرئيس المصريّ، المُشير عبد الفتّاح السيسي، وافق على هذه الخطّة، الأمر الذي نفته القاهرة جملةً وتفصيلاً. ولكن ما لمْ تنفه بلاد الكنانة، هو المصادر الإسرائيليّة، التي تحدثت يوم 23 تشرين الأول عن أنّ التنسيق الأمنيّ بين الجيشين المصريّ والإسرائيليّ وصل إلى ذروته، مؤكدةً أنّ العلاقات بين البلدين تمُرّ في شهر عسلٍ لم يسبق له مثيل منذ توقيع اتفاقية الذلّ والعار، كامب ديفيد.

■ ■ ■


الأزمة السوريّة، تداعياتها وتبعاتها وإرهاصاتها تدخل هي الأخرى في إطار المطامع الصهيونيّة ليهودية الدولة. فالجولان العربيّ السوريّ المُحتّل منذ عام 1967، يمُرّ في عملية تهويد لم يسبق لها مثيل. ونميل للاعتقاد بأنّ القضاء على الدولة السوريّة وتدمير هذا البلد العربيّ المُمانع والداعم للمقاومة اللبنانيّة والفلسطينيّة على حدٍ سواء، يندرج في تموضع الخطة، التي يُشارك في إخراجها إلى حيّز التنفيذ الثالوث غير المُقدّس: الإمبرياليّة، الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة. ليس لضمان أمن إسرائيل فقط، بل توطئة للقضاء نهائياً على قضية الشعب العربيّ الفلسطينيّ، لأنّه، وهذا أيضاً وارد جداً، القضاء على سوريّة، يُحقق حُلم مَنْ يُطلقون عليه في الدولة العبريّة لقب مؤسس إسرائيل. حلم بن غوريون كان «مُتواضعاً» للغاية، ولا مجال لسبر غوره في هذا السياق، ولكن مع ذلك، نكتفي بالاستشهاد بمقولته المشهورة، الخبيثة واللئيمة والتي قال فيها: إنّ عظمة إسرائيل لا تكمن في ترسانتها النوويّة، ولا ترسانتها المسلحّة، ولكنّها تكمن في انهيار ثلاث دول، مصر والعراق وسوريّة: مصر أُخرجت من المعادلة عام 1979، العراق أُبعد لدى الغزو الأميركيّ عام 2003، وسوريّة ما زالت تُحارب من أجل الذود عمّا تبقّى، هذا إذا تبقّى كرامة للأمّة العربيّة، أوْ كما قال الفنّان العربيّ السوريّ الرائع، دريد لحّام (غوار) في مسرحية «كأسك يا وطن 1979»: «مو ناقصنا غير شوية كرامة»، آسف يا أختي العربيّة، عُذراً يا أخي العربيّ، بتنا نبحث عن شوية كرامة!
* كاتب فلسطيني