ساهم الفكر الماركسي في سياق سيرورته التاريخية في ظهور أشكال متباينة من الوعي الفلسفي والسياسي المخالف للنظام الرأسمالي ومنظومته المعرفية. لكن انفصال كثير من الماركسيين عن الجذر الديمقراطي للماركسية، حوّلها في البلدان المتخلفة تحديداً، إلى عقيدة صماء.
لذلك فإن الماركسيين مطالبون في اللحظة الراهنة بإخضاع النص الماركسي للنقد، ذلك من أجل تجاوز هيمنة الوعي العقائدي والاستبداد الإيديولوجي، وإعادة الاعتبار لدور الفرد، والربط بين المهمات الوطنية والديمقراطية ودراسة أسباب الميول الليبرالية في الأحزاب الشيوعية وكيفية تجاوزها في سياق التأصيل الفلسفي. وقد أثبتت تجارب الشعوب عجز وفشل المنظومات المعرفية الأحادية ذات الميول الشمولية عن استغراق الواقع المتنوع وتحديد ميوله التطورية وصيرورته التاريخية. وهذا يُحمّل القوى اليسارية مسؤولية تهديم العقل الأحادي ديمقراطياً، والعمل على صياغة مشروع وطني ديمقراطي يحفظ التمايز والاختلاف في سياق العمل المشترك. وهذا يقودنا إلى التأكيد على أن المنظومة المعرفية الماركسية وقبل أن تدخل في طور الجمود العقائدي، كانت تخضع لقوانين التطور المادي للتاريخ الذي صاغت مقدماته الأولى من منظور الديالكتيك القائم على استغراق التطور العلمي والحضارة الإنسانية في سياق النقد والنقد الذاتي. ومن يدّعي غير ذلك، فإنه يساهم في تحويل الفكر الماركسي إلى وعي إيديولوجي مزيف. وهذا يعني أن تجديد وتطوير الفكر الماركسي يفترض نقد بنائه المفاهيمي لإعادته إلى جذره الديمقراطي. وما أحوجنا إلى هذا المستوى من التفكير في سياق معالجتنا الأزمة السورية التي تحولت إلى كارثة وطنية على المستويات الإنسانية كافة.
لقد عانى السوريون في العقد المنصرم من أزمة عامة ومركبة على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبناءً على تحليلنا لمعطياتها الاقتصادية والسياسية المتداخلة والمتراكبة، توقعنا حدوث تغيّراً في الواقع السوري، لكن ما كنا نتوقعه لم يكن بالمستوى والشكل الكارثي الذي يحدث في اللحظة الراهنة.
العقل السياسي السائد لم يزل يقوم على ذهنية الهدم والقطع الأحادي

وبالرغم من أننا كنا نرى أن التأزم السوري وانسداد أفق التغيير الديمقراطي، سوف يفضي إلى تحولات لم نكن حينها قادرين على تحديد شكلها أو مستواها. لكن المناخ السياسي العام وطبيعة وواقع القوى السياسية، كان يدلل على عجزها عن القيام بمهماتها الوطنية. ما يعني ولادة أشكال سياسية جديدة وقادة ميدانيين من رحم الأزمة، وهذا بالتأكيد ستكون له انعكاساته المتباينة والمختلفة. فالتناقض الاجتماعي والفوات السياسي وأشكال الوعي السائد، كان يعني أن الأشكال السياسية التي ستفرزها الأزمة سوف تقود المجتمع إلى أزمات أكثر خطورة. ما يعني أن مستقبل سوريا سوف يدخل في مجاهيل التناقض والتعقيد، وعدم وضوح مآلات التغيير. في المقابل فإن تحوّل الأزمة السياسية إلى صراع مسلّح وتوظيف الأطراف الدولية والإقليمية للمتغير السوري بما يتناسب مع مصالحها، وتحويل سوريا إلى ساحة للجهاد العالمي، ساهم في تعقيد الأزمة وإطالة أمدها وتفاقم الأزمة الاقتصادية والإنسانية وتناقضات القوى الوطنية.
وقد بات واضحاً أن الشكل الأحادي للسلطة السياسية يحتاج على الدوام إلى تعزيز دور الأجهزة الأمنية لتحجيم دور القوى السياسية المعارضة يسارية كانت أو غير يسارية، وتقاطع هذا مع تمكين التزاوج بين النقابات والسلطة، في وقت كانت الحكومة تتخلى عن دورها الاجتماعي وتذهب بعيداً في تطبيق وصفة اقتصاد السوق الحرة. وقد تخلت النقابات والمنظمات الشعبية عن دورها في الدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية المهمّشة والمفقّرة، عندما اعتبرت نفسها والحكومة فريق عمل واحد. إن اندماج النقابات في السلطة، ساهم في تجريد الفئات الفقيرة والمهمشة من أهم أدواتهم النضالية. أما اندماج بعض القوى السياسية «المعارضة» بأجهزة السلطة، وانقسامها على ذاتها، إضافة إلى الضعف والتشتت والنخبوية وانعدام القدرة التمثيلية، وتمثّلها لذات التناقضات والسلبيات السلطوية. فإنه ساهم في انحسار دورها السياسي، وتراجع فاعليتها في القاع الاجتماعي المعني في تحويل الفكر السياسي إلى قوة مادية للتغيير. وإذا كان تموضع هذه القوى في كنف السلطة جرّدها من أهم أدواتها النضالية وافقدها المصداقية السياسية وزاد من عزلتها، فإن ارتهان بعض الأطراف التي تدّعي المعارضة لإرادة بعض القوى الدولية والإقليمية، وكذلك ملاحقة الناشطين وأصحاب الرأي المستقل وتعميم ثقافة الخوف ساهم في انكفاء غالبية السوريين عن الاشتغال في الحقل السياسي. إن عزوف السوريين عن النشاط السياسي المؤطّر يدلل على رفضها لهذه الأحزاب ولآليات عملها السياسي.
إن التناقض الذي تعاني منه قوى اليسار يفترض منّا توضيح مفهوم اليسار. فمن وجهة نظرنا نرى أنه يتحدد على مستويين: الأول اقتصادي اجتماعي أما الثاني، فإنه سياسي ديمقراطي. وكلاهما يستند إلى مقدمات ماركسية معنية بالدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية المتضررة من تناقضات الاقتصاد الحر. وهذا يعني أن البرنامج التنموي يجب أن يتموضع في سياق مشروع اقتصادي استراتيجي يهدف إلى إنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية في سياق تحقيق العدالة الاجتماعية. وعلى هذا فإن الهوية المعرفية تتحدد انطلاقاً من التموضع الطبقي الذي يحدّد الميل السياسي بحدوده العامة والفردية. وهذا يعني أن الهوية الفكرية والسياسية اليسارية تتحدّد وتتعين على الفهم المادي للتاريخ. وهذا يدلل على أن الوعي الاجتماعي نتاج واقع اجتماعي موضوعي، وبذات اللحظة نتاج تحليل ونقد واقع موضوعي محدد تاريخياً، أي إن الوعي لا يمكن أن يكون نتاج عقل مجرّد. وإذا كان كذلك، فإنه يعتبر وعياً ذاتياً منفصلاً عن سياق التطور الموضوعي. وفي هذا السياق يجب التأكيد أن الوعي العقلاني يعبّر عن الواقع في سياق تطوره الموضوعي، ويجسّد في آليات اشتغاله التطور الاجتماعي في سياق علاقة جدلية. ويتطور في سياق التطور الموضوعي العام والكلي. وعندما لا نمتلك منظومة معرفية قادرة على تحليل مستويات الواقع البنيوية العامة والمركبة، فإننا سنكون عاجزين عن قراءة الواقع وضبط آليات التغيير الديمقراطي واستشراف آفاق تطوره. وهذا يعني أن توفر الشروط الموضوعية للتغيير وغياب العوامل المعرفية والسياسية الذاتية، يُدخل المجتمع في حالة من الاستنقاع وفي حالات أخرى يجعله رهينة بيد جماعات طارئة ومن الممكن في لحظات أخرى أن يُدخل المجتمع في سياق تحولات مفاجئة غير القابلة للضبط السياسي. وهذا بالضبط ما يحصل في سوريا الآن.
إن تنوع الواقع الاجتماعي وأشكال تطوره وتباين تموضعاته المجتمعية السياسية والاقتصادية، يحدّ من إمكانية استغراقه في منظومة معرفية واحدة تصادر ميوله التطورية. ومع هذا تبقى إمكانية تحديد ميوله العامة، بغض النظر عن مسارات التغيير الجزئية، أمر ممكن. فالوعي الديمقراطي يرى في التنوع الاجتماعي أحد مصادر الغنى والثراء الإنساني (الحياة في التنوع والموت في التوحد والتطابق)، وهذا يعني بداهة ضرورة الاعتراف بالآخر، وحقه في التعبير. وعليه فإن التأسيس لوعي جديد يجب أن ينطلق من هذا المنظور.
وإذا كان التغيير العنفي لا يعبّر عن روح العصر، وبات أمراً مرفوضاً من قبل الغالبية، فإن التغيير التراكمي بأشكاله ومستوياته السياسية الديمقراطية والاقتصادية التنموية، يعتبر اختيار عقلاني. وبقدر ما يكشف التطور الاجتماعي في سياق سيرورته التاريخية عن عمق التنوع والتعدد والتجدد، فإن أشكال ومستويات التغيير تخضع إلى سياق تطور موضوعي يتحدد بناءً على موازين القوى الاجتماعية. وهذا بداهة يفترض وجود قوى اجتماعية تعي ذاتها سياسياً، لكن هذا غير موجود حتى اللحظة. فالبنى والمؤسسات المجتمعية لم تزل رهينة وعي لم يرتقِ إلى فهم سياسي ديمقراطي بنائي. أي إن العقل السياسي السائد لم يزل يقوم على ذهنية الهدم والقطع الأحادي. وهذا يؤكد حاجتنا إلى الجهود الوطنية كافة لتمكين آليات عمل سياسي تشاركي، يتأسس على وعي ديمقراطي وممارسة ديمقراطية عميقة تتجاوز التموضعات الضيقة، والتجاذبات الهامشية والإطلاقيات والتهويمات والتعميمات النظرية. وهذا يعني التخلص من ضغط السلاح والشعارات الشمولية والأحادية، والتمسك بالتنافس السياسي الديمقراطي بعيداً من وهم المدينة الفاضلة وسيطرة قيم الماضي المتخلفة والشعارات الرنانة، والعمل على تأمين الأمن الغذائي والاستقرار والحريات وتعزيز دور المرأة وتوفير فرص العمل وضمان مجانية التعليم والطبابة.
ولنا في تجربة نيكاراغوا مثال: لقد خسر دانيال أورتيغا السلطة بعدما وصل إليها بقوة الكفاح المسلح، لكنه عاد إليها بعد 15 عاماً عن طريق الانتخابات. وها هو اليسار ممثلاً بجبهة «فرباندو مارتي» يفوز بالانتخابات في السلفادور مجدداً. وكذلك فقد فاز اليسار في تشيلي وفنزويلا والاكوادور وبوليفيا والباراغوي والبرازيل. ونتساءل: لماذا تراجعت الحركات التي سمّت نفسها بالثورية في عالمنا العربي بينما اكتسبت أفقاً جديداً وحققت نجاحات كبرى في دول أميركا اللاتينية؟!
لهذا نرى أهمية أن تبادر القوى اليسارية وباقي القوى السياسية الوطنية، إلى إعادة صوغ بنيتها الداخلية من منظور ديمقراطي نقدي يمّكنها من المشاركة في قيادة المرحلة، وإلا فإن الشعب سيرمي بها على مزبلة التاريخ. ولن يكون لها دور في الخريطة السياسية المستقبلية، سواء أعادت السلطة الحالية إنتاج ذاتها أو أمسكت القوى التكفيرية ناصية المجتمعات العربية...
وقد بات واضحاً أن مشاركة الشباب في النشاط السياسي سوف يشكّل اختباراً حقيقياً للبنية السياسية والفكرية للقوى السياسية القائمة على النخبوية وتضخم الأنا الشخصية للقيادات الهرمة، وعلى تغييب الحياة الديمقراطية في أوساطها. ونتساءل: كيف لقوى سياسية يسارية تفتقد للديمقراطية داخل بنيتها السياسية أن تقّدم نفسها بديلاً ديمقراطياً وإنسانياً؟ وعليه فإن اللحظة الراهنة تشكّل اختباراًَ حقيقياً لقدرة قوى اليسار على إجراء هدمٍ ديمقراطيٍ في بنيانها السياسي والفكري. وهذا يعني أن القوى السياسية اليسارية الكلاسيكية أمام اختبارٍ صعب وحقيقي. إما أن تهدم ذاتها ديمقراطياً، وهذا يستوجب منها أن تفتح أبوابها للشباب الذي يريد بناء تجربته السياسية من منظور جديد وثقافة جديدة، وإما فإن الانقراض البيولوجي ينتظرها.
أما في ما يتعلق بدور المرأة، فمن المعلوم بأنها ما زالت تنأى بنفسها عن الممارسة السياسية بسبب غياب مناخ الحريات الأساسية وانعدام الديمقراطية. فالمجتمعات الذكورية تحد من حريتها، وبشكل خاص في ما يتعلق بالنشاط السياسي الحزبي. وهذا يعني بأن شرط تحرر المرأة يكمن في تحرر الرجل وانتقال المجتمع إلى الديمقراطية.
بناءً على ما قدمناه، وبعيداً من مفهوم الإقصاء والتخوين وعلى قاعدة التفاعل المتبادل، يجب تأكيد ضرورة بلورة هوية اليسار الديمقراطي بالمستويين السياسي والاجتماعي. والاشتغال على تطوير المجتمع، وتمكين العقل البنائي بأشكاله السياسية الوطنية الديمقراطية كلها. ذلك في سياق الشروع في وضع الأسس والمقدمات اللازمة لبناء مشروع ثقافي ديمقراطي مدني تنويري يساهم في التخلص من ثقافة الأنا الأحادية التي تمتد جذورها إلى البالي من الوعي الديني وثقافة الاستبداد، ويمهّد الطريق للانتقال إلى مجتمع مدني ودولة مدنية تضمن حقوق المواطنة والمساواة أمام القانون، وتحقق العدالة الاجتماعية.
* باحث وكاتب سوري