في الحالات التي درسها الباحث تشارلز تيلي، كانت القاعدة أن الحدود تصنعها الحرب. والحرب هنا بمعنيين: الحروب الخارجية بين الدول المتنافسة، والحرب الداخلية حيث تفرض الحكومة هيمنتها ومركزيتها وحصريتها على مجتمعها ذاته. تاريخ بلاد الجنوب والشمال يعجّ بأمثلة عن عملية «الاحتلال الداخلي» التي خاضتها المؤسسة السياسية حتى تصير «دولة حديثة»: تفكيك الكيانات المسلحة القائمة تقليدياً في المجتمع، انتزاع السيطرة على الجغرافيا والطرق الرئيسية، اضعاف القبائل والقوى المحلية ومنعها من تطبيق قوانينها الخاصة.
قصّة تحويل السلطة الاسمية الى سلطة عسكرية مباشرة تمثّل جزءاً اساسياً من التاريخ القريب لدول مثل روسيا وتركيا وفرنسا، وهذه المرحلة هي التي جعلت الحكومات تنظر الى أرضها بشكلٍ مختلف، كساحة حربٍ وتحديات، ونقاط استراتيجية تلزم السيطرة عليها، ومجموعات سكانية موثوقة واخرى يجب التوجس منها (في مناطق غرب اميركا التي تم استيطانها بعد القرن التاسع عشر، لا تزال الكثير من المدن تحمل اسماء حصون وقلاع، مثّلت يوماً حدود التوسّع العسكري للدولة، ثمّ نشأت حولها التجمعات السكانية والمراكز الاقتصادية).
بلادنا في المشرق لم تمرّ بعملية «الاخضاع الداخلي» هذه، بل انتقلت، بشكلٍ شبه مباشر، من المرحلة الامبراطورية الى دولٍ وحدودٍ وطنية خلقتها الوثائق والمعاهدات، بدلاً من جهد الدولة وحروبها. حتى الحملات التي شنتها القوى الاستعمارية ضد المقاومات المحلية كانت تقوم على الردع والمنع، ولم تهدف لارساء سلطة راسخة تربط المناطق بمؤسسات الدولة وقوانينها وثقافتها.
الحروب التي فرضت علينا اليوم تنفث الحياة في هذه الدينامية، وتجبر من يريد بناء دولة على اعادة الاعتبار لـ «الخريطة العسكرية» لبلاده. ومع تقدّم المعارك، يتمّ بناء هيمنة من نوعٍ جديد، أو تفشل السلطة وتتفتت الدول وتندثر. المعارك التي تدور بين عشائر عراقية (كالجبور والبونمر) داعمة للحكومة، وبين «داعش» وحلفائها تمثّل جانباً من هذه العملية - والحرب الداخلية التي تكتنفها. البونمر، مثلاً، هي التي طلبت تدخّل قوات «الحشد الشعبي» لاستعادة هيت وانقاذ أبناء العشيرة.
وحلفاء «الدولة» الذين قتلوا رجال البونمر، بالمئات، لم يجيئوا من افغانستان أو سوريا أو من كوكب آخر، بل هم في غالبيتهم ابناء عشائر جارة اختاروا طريقهم، وضحاياهم يريدون لهم أن يدفعوا الثمن.
كلّ تحدي ينتج استجابة، وكلّ قرار سياسي له كلفة. هذه هي القواعد التي تحكم السياسة، ولا يغفل عنها الا من يوجّه الأمور من بعيد، ثمّ يترك الناس لمصيرهم. يهمّه أن يسقط عدوّه (المالكي مثلا)، ولا يكترث لما يحصل بعد ذلك. كمن ابتهج باجتياح «داعش» وسماه انتفاضة شعبية، وتكلّم عن فرح الناس في الموصل، بينما «داعش» ترتكب المجازر وتمحو معالم الحضارة. هذا أرشيفٌ موجود قد سجّل عليهم، ومواقف لن تُنسى في زمنٍ قريب.