لا يمكن لكل نظريات التحليل الاجتماعي ولباحثي علم الاجتماع أن يجدوا الذرائع والمفسرات المنطقية الدقيقة التي أودت بحياة السوريين إلى هذا الدرك غير المسبوق في انخفاض المتطلبات الإنسانية.لا يمكن تغطية الآثار الكارثية التي انتهكت السوريين في حيواتهم وأرزاقهم وبُناهم التحتية بتلك الشعارات الكبيرة الواسعة، مثل تحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية ومحاربة الاستبداد والديكتاتورية، وأغلبها شعارات تخضع لمفهوم الحقُّ الذي ساقه الباطل إلى حيث يريد.

فإذا ما اعتبرنا أن متطلبات السوريين [مثل كل البشر] كانت تنحصر وفق ما يعرف بهرم ماسلو في الاحتياجات الاجتماعية في ثلاث طبقات متداخلة العناصر تشبه الهرم، تشكّل الطبقة الكبيرة المؤلفة لقاعدة الهرم من عموم الناس التي تطالب بالاحتياجات الفيزيولوجية للإنسان من تأمين الطعام والزواج ومستلزمات الحياة، بينما تشكل الطبقة الوسطى جموع المواطنين التي تبحث عن الانجاز والنجاح الشخصي من تأمين العمل والبروز والتميز فيه، أما اهتمامات الطبقة العليا فتشمل الأهداف الكبرى والغايات السامية والمشاريع الإنسانية التي تكون من صلب اهتمام النخبة من أفراد المجتمع.
هؤلاء يبغون العمل على تحقيق رسالة إنسانية أو أهداف نبيلة حقيقية أو واهمة من مثل تحقيق مشروع كبير (إسلامي أو مقاوم) أو إنشاء نظام وفق رؤية ما (العمل على تحقيق دولة أو خلافة أو تحرير أجزاء مغتصبة).
لا شكّ في أن التداخل بين هذه الطبقات وفق هذه الصيغة يشكّل عنصراً منطقياً، إذ قد يكون الشخص حاضراً في الطبقات الثلاث لكنها قد تختلف بالأهمية بالنسبة له. وقد يكون المسار التاريخي والزمني للانجاز أو الهدف هو الذي يحدد الطبقة التي يؤول إليها الشخص.
فمثلاً قد يحقق الفرد المعني المتطلبات الفيزيولوجية لحياته من مسكن وطعام ومستلزمات حياة ويتمكن من بناء مشروع نجاحه الذاتي، وبعد كل ذلك يبحث عن مشروعه الإنساني الذي يدافع عنه. وقد يكون الأشخاص المنتمون لهذه الطبقات برغبات منفصلة، فيبقى معظم الناس في الطبقة الدنيا بينما قد تقتصر الطبقة العليا على أعداد أقل من المجتمع.
كان لا بد من هذه المقدمة لتفسير ذلك الانزياح الرهيب الذي أصاب المجتمع السوري بكل طبقاته السالفة الذكر، والذي يرصد تغير اهتمام المواطن السوري والهبوط والسقوط «الحر» لاهتماماته ورغباته وأهدافه الكبرى، بحيث يتحول الهرم بطبقاته الثلاث إلى أرضية شبه مسطحة باحثةٍ عن الحياة هاربةٍ من الموت.
حدث هذا التغير بمدة زمنية قياسية لا تتعدى السنوات الثلاث،
تحولت سورية فجأة
من أكبر مضافة للاجئين العرب لأكبر دولة مصدرة لسكان الخيام


بل لعلها كانت فرديةً شخصيةً أسقطت الأفرادَ من الاهتمامات بالقضايا الكبرى إلى اقتصار هذا الاهتمام على تأمين المسكن والطعام في وقت قصير جداً جاء في غفلة من الزمن، ليتحولوا إلى جموع مليونية من اللاجئين أو إلى أشخاص تعوزهم مقومات الحياة الأساسية، وينتظرون المعونات الاجتماعية والغذائية التي تزودهم بها الدولة السورية وبعض المنظمات الدولية.
إن المتفحص المتحقق في مطالب وأهداف الشعوب العربية الراغبة في التغيير يجد أن ما سُميت «الثورات العربية» خرجت تنادي بإسقاط الديكتاتورية ومحاربة الظلم الاجتماعي وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، بينما كانت محاربة التبعية والخضوع للإرادة الغربية تأتي في مرتبة متأخرة (ربما لطمأنة الرأي العام الدولي الذي يعتبر هو الممر الإجباري لتظهير هذه الثورات على شاشاته وصحافته). إذ كان من الملاحظ أن الثورات العربية كانت داخلية الأهداف وداخلية الشعارات عدا تلك التي خاطبت الغرب مطالبة بنجدة الناتو في ليبيا وبعدها في سوريا، اختفى العداء لإسرائيل (العدو الخارجي للأمة أو كما يفترض) وتحرير الأراضي المغتصبة من شعارات الثورات. وباتت حالة الالتباس والإبهام المقصود من أهم ما أصاب بعض الثورات العربية في مقتل، بخاصة مع علاقات غزل مكشوفة في مساعدة الثوار والتمهيد لهم أو مؤازرتهم أو التغطية عليهم وتأمين السند اللوجيستي لهم.
إن هذه الأدلة أصبحت أوضح من أن تغطى بأية مبررات: الدور العملياتي والتنظيري الذي قامت به كثير من أجهزة الإعلام النفطية المشبوهة الارتباط في التحريض والتلفيق والتضليل في مسارات الثورات العربية. السند القوي الذي أمنته قوات الاحتلال الصهيوني لجموع المسلحين على تخوم الجولان السوري، ومعالجة مرضاهم بمشافي الاحتلال، وما أمنه هذا الاحتلال من دعم عسكري مباشر لقطعان المسلحين بضرب بعض القواعد العسكرية السورية، وغيرها من الخافيات في الغزل والسفاح المحرم بين «الثورة» السورية وإسرائيل.
لقد انعكست الانجازات الحضارية والإنسانية للدولة السورية بتاريخها المعاصر بعد الاستقلال الوطني في 1946 على حياة السوريين، وتطورت مع ترقي الاحتياجات المجتمعية لعموم السوريين. واستطاع السوريون بما يملكونه من قدرة على العمل والتطوير ومراكمة الانجاز تحسين صعودهم على هرمية ماسلو، وباتت الطبقة الوسطى طبقة واسعة معتبرة راضية عن الانجازات الفردية بعد أن استكملت جموع السوريين معظم الاحتياجات الفيزيولوجية لقاعدة الهرم.
إن الانجازات المهمة للدولة السورية العميقة خصوصاً بعد القوانين الثورية في بدايات الستينيات من استصلاح زراعي وملكية عامة لوسائل الإنتاج وتأميم قطاعات مهمة بالإضافة لجعل خدمات التعليم والاستشفاء مجانية، كما أن الدعم الحكومي لمواد الطاقة والتغذية قد أمن لجموع السوريين احتياجاتهم الأساسية، وسهل عليهم النجاحات على المستوى الشخصي. كانت سوريا تغصُّ بالكفاءات وتستطيع الدولة أن تفرز أعداداً معتبرةً منهم في كل عام وأصبحت عملية استيعابهم في وظائف حكومية داخل البلد أمراً متعذراً، وفاضت الكوادر عن احتياجات الدولة، وصدّرت وهُجّرت إلى الدول العربية ولبقية أنحاء العالم.
أثبتت العقليات السورية في الخارج تمكنها وقدرتها العالية على التميز والجدية والبروز في كافة المهن، ما يدل على الكفاءة والفعالية التي تزودها الجامعات السورية في التدريب والتأهيل المناسبين.
استطاعت الصناعة الخاصة أن تقدم فرص عمل في العشرية الأخيرة، وبدت هذه الصناعة واعدةً منطلقة. وهنا تجب دراسة الدور التركي في ضرب المعامل السورية وإخراج أعداد كبيرة من العاملين، خصوصاً من ريفي حلب ودمشق وتحويلهم لعاطلين عن العمل، وضم جزء منهم في كتائب المسلحين إضافة لفائدة تركيا من سرقة المعامل وبيعها في أسواقها، ولضرب صناعة منافسة في المنطقة، يجب العلم أن ذلك كله جرى بعد دراسةٍ دقيقةٍ عبر الانفتاح الكبير الذي حدث في السنوات التي حاولت به أميركا احتواء الدور السوري عبر الثلاثي الفرنسي التركي القطري.
فدخل الأتراك إلى كل مفاصل الحياة السورية بكل هياكلها الصناعية والزراعية والسياحية وغيرها. الحقيقة أن الاندفاع السوري لكسب تركيا إلى حلفها المقاوم في المنطقة يفسر قدرة الأخيرة على التأثير الكبير في التخريب في البنية التحتية وإدخال عوامل تفجيرية متعددة إلى الأزمة السورية.
إن قوافل السوريين التي اتجهت بخياراتها المختلفة، الهجرة بظروفها الغامضة، واللجوء إلى المخيمات، كانت تصطدم بحياة قسرية جديدة لم تعهدها على الإطلاق. وأصبح فيها تحقيق الاحتياجات الفيزيولوجية والمتطلبات الأساسية أمراً بمنتهى الصعوبة. وبات المسكن اللائق والطعام وتزويج الأبناء وتحقيق الأجواء الإنسانية الآمنة حلماً تقتاته مخيلات السوريين في ليالي النزوح الطويلة. وصار التعليم ترفاً افتقدته جموع كبيرة من اللاجئين في الدول المجاورة، وتحولت سورية فجأة من أكبر مضافة للاجئين العرب لأكبر دولة مصدرة لسكان الخيام في العالم.
تحولت الدولة السورية من دولة باقتصادٍ واعدٍ وغيرَ مديون، وبنية تحتية جيدة وموارد أولية متنوعة ودولة بكفاءات متدربة إلى دولة تشاركت إرادات فاسدة في المنطقة والإقليم وجهل بعض أبنائها وسعيهم وراء أوهام زائفة بشعارات كبيرة مفخخة، ليضعوا بلدهم بأيديهم في قلب العاصفة ومراكز التحولات الكبرى في العالم، تنطلق منها زلازل تغيرُ العالمَ القديم وتتشعب فوالقها في الدول المحيطة والبعيدة، وتنفرز منها أقطاب جديدة للعالم.
دفعت وتدفع سورية ثمناً باهظاً لذلك، ويجب على السوريين الذين ارتضوا أن يدخلوا لعبة الأمم، أن يفهموا ولو متأخرين أنهم يخضعون لدرسٍ مكررٍ في الهدم والتخريب حدث كثيراً في المنطقة.
درس يجلبه الأغبياء والحمقى والطائفيون أصحاب الأحقاد القديمة، ويدفع ثمنه سوادُ الشعب السوري والبنية الحضارية المدنية بمكوناتها المختلفة ومكتسباتها الثمينة التي تحققت للفقراء والطبقات الوسطى بالجهد والعرق والنضال الطويل.
* كاتب سوري