خلال ثلاث سنوات وثمانية أشهر من بدء الأزمة السورية مع درعا (18 آذار2011) طرأت على المشهد المعارض السوري تحوّلات كبيرة يجدر استعراضها للوقوف على ما وصلت إليه اليوم.
المشهد خلال عامي 2011 - 2012

بعد فترة استغرقت الأشهر الثلاثة الأولى من بدء الأزمة، وأمام حراك عفويّ قويّ في الشّارع، ارتبكت القوى السياسية المعارضة، المنظّمة، وهي الخارجة من السجون والمعتقلات والعمل السرّي والمنافي، لتعود هذه القوى وتمتلك زمام مبادرة «العمل المعارض السوري» من خلال تأسيس «هيئة التنسيق الوطنية» (25 حزيران 2011) ذات التركيبة اليسارية العروبية والماركسية والكردية، و«المجلس الوطني» (2 تشرين أول2011) الذي غلب عليه تنظيما «الإخوان المسلمون»، و«حزب الشعب» ذوالطابع الليبرالي.

وقد غلبت الأحزاب وسادت على القوى الشبابية والمستقلين، في هذين التجمعين المعارضين، برغم ما رافق أيّام سقوط بن علي، ومبارك من تضخيم لدور «الشباب» و«قوّة الشّارع العفويّ» عبر مقولات «موت الأحزاب» و«موت الأيديولوجيات» التي تبنّت الفضائيات وبخاصة (العربية، والجزيرة) ترويجها.
وبينما ترافق سقوط القذافي في باب العزيزية (23 آب) مع دعوة أوباما إلى تنحي الرئيس السوري في 18 آب 2011 أتى إنشاء «المجلس الوطني» في اسطنبول ليوحي بأنّه ثمّة تكرارٌ سوريّ لما جرى في ليبيا، عبر غطاء أميركي، لتدخل عسكري خارجي، تتولّى خلاله تركية في سورية، ما تكفلت تنفيذه فرنسا في ليبيا، وبذلك يكون (المجلس) تكراراً لمجلس مصطفى عبد الجليل، من خلال تركيبة مماثلة، يسود فيها الاسلاميون والليبراليون. وكان السبب في ذلك هو عدم قدرة الحراك السوري المعارض على محاكاة الحالة التونسية والمصرية، ما خلق شعبيّة لـ«المجلس» في اسطنبول عند الكثير من المعارضين آنذاك، رغبةً بتكرار السيناريو الليبي، عبر (مجلس) ضمّ قوىً سبق أن هيمنت (عام 2005) على «إعلان دمشق» الذي أراد الرهان على الرياح الغربية، التي أطاحت صدام حسين (عام 2003) ثمّ امتدّت إلى بيروت في (ربيع 2005).
اتخذ (الاخوان المسلمون) في خريف2011، قراراً ببدء العمل المسلّح المنظّم، وانجرّت معهم كلّ قوى «مجلس إسطنبول» وكان الرهان، شبيهاً بالحالة الليبية،
أتى إنشاء «المجلس الوطني» في إسطنبول ليوحي بأنّه ثمّة تكرارٌ سوريّ لما جرى في ليبيا

أن يقود العنف المعارض ليكون رديفاً ومكملاً للسيناريوهات المطروحة، المنطوية على التدخل العسكري الخارجي. فشلت رهانات «المجلس»، وخليفته «الائتلاف»، الذي أُنشئ في11\11\2012، ودخلت «الأزمة» السورية، كأزمة بمعناها الاصطلاحي، التي تعني صراعاً لا يستطيع طرفاه المحليان حسمه لمصلحة أحدهما، كما لا يستطيعان، وحدهما، التسوية والتوصّل إلى حل وسط، كما أنها، كأزمة محلية، تراكبت عليها القوى الدولية والإقليمية، وأصبحت المتحكمة في مسارها من دون القوى المحلية، دخلت في الاستنقاع، وفي وضعية الجرح المفتوح.

المشهد عام 2013

كل الرهانات على التدخل العسكري الخارجي تبخرت وفشلت، كما فشلت رهانات البعض على إسقاط النظام اعتماداً على العمل العسكري. ما أدّى، تدريجياً، إلى بداية ضعف «الإخوان» وحلفائهم الليبراليين، وإلى انحسار وتآكل النفوذ التركي- القطري على المشهد المعارض السوري، بعدما كان هذا النفوذ، برعاية واشنطن، هو الأقوى بين صيفي 2011 و2012. ليبدأ صعود النفوذ السعودي على (الائتلاف) منذ توسّعه، أواخر أيار2013، وعلى التشكيلات العسكرية المعارضة، التي اعتمدتها واشنطن والرياض، في ما سميّ «هيئة الأركان»، منذ أواخر عام 2012.
قاد الاستنقاع في الأزمة السورية إلى تبخّر قوّة «الإخوان المسلمون» ومعهم «الائتلاف»، وإلى تفكك «الأركان» وكل التشكيلات العسكرية المعارضة لمصلحة (السلفية الجهادية) بتعبيراتها في «النصرة» و«داعش» و»أحرار الشام» التي لم تصبح فقط هي الفصائل العسكرية المعارضة الأقوى، وإنّما أيضاً صاحبة النفوذ الاجتماعي الأقوى في الأوساط التي كانت بين خريفي 2011 ـ 2012 ، تابعةً لنفوذ «الإخوان» و«المجلس» و«الائتلاف».

المشهد عام 2014

مع استمرار استنقاع الأزمة السورية، والتكلفة الباهظة، في الأرواح والممتلكات، وازدياد الأعباء المعيشية، إضافةً إلى اصطدام التوقعات بالحسم، لدى طرفي الصراع، بالحائط، زادت الميول نحو التسوية، والحل الوسط، وقد أصبح «التسوويون» هم الغالبية في الجسم الاجتماعي السوري، فيما قوبلت مبادرة الشيخ معاذ الخطيب، في شباط 2013، بالتجاهل من قبل السلطة والمعارضة على حدّ سواء، ولم تثر سوى القليل من الحماسة عند المترددين.
وقد أدّى ذلك إلى إضعاف (الائتلاف) في الوسط الاجتماعي السوري، مع عدم قدرته على مغادرة طروحاته القصووية السابقة، وعدم قدرته حتى على لبس قميص الطرح التسووي، كما أدّى إلى تآكل النفوذ الاجتماعي للمعارضة المسلحة، سواء من سميّت منها «المعتدلة»، أو تلك المتطرفة، وترافق ذلك مع استفحال الفساد والديكتاتورية، والممارسات الاجتماعية السيئة التي أظهرتها المعارضة المسلحة، بكل فصائلها، في المناطق الخاضعة لسيطرتها، ما أدّى لنفور اجتماعي كبير منها.
كلّ ذلك يجعل «هيئة التنسيق» مع لاءاتها الثلاث (لا للتدخل العسكري الخارجي، لا للعنف، لا للطائفيّة) تبدو الأقوى في الوسط الاجتماعي السوري، كما أنّ الاتجاه الدولي - الإقليمي نحو تسوية ما، إن كان عبر (جنيف1) و(جنيف2)، الذي أوقفته الأزمة الأوكرانية، ثم (جنيف 3) الذي توحي، مؤشرات، على أن خطر «داعش» سيضعه على جدول الأعمال الدولي- الإقليمي، يجعل «هيئة التنسيق» في وضعية من المقبولية الدولية تفوق ما لدى «الائتلاف».
خلال الفترة الأخيرة تآكلت قوة الأصولية «الإخوانية» السورية، وكانت إزاحة الثلاثي الحموي (رياض الشقفة، فاروق طيفور، محمد حاتم الطبشي) من الواجهة القيادية، وانتخاب قيادة إخوانية جديدة، في 6 تشرين ثاني 2014، مؤشراً على فشل «الإخوان المسلمين» في أعوام 2011-2014 مثلما فشلوا في أعوام 1979-1982.
غرق الليبراليون السوريون مع غرق المركب الإخواني الذي ركبوه في أعوام 2005و2011.
هناك قرار دولي باستئصال (السلفية الجهادية) بتعبيراتها الثلاث، «داعش» و«النصرة» و«أحرار الشام».
تتشكل الآن كتلة وسطية تسووية أصبحت هي الأقوى في المشهد المعارض السوري الراهن، وهي مؤلفة من «هيئة التنسيق» و(مغادري الائتلاف) أمثال: معاذ الخطيب، ووليد البني، والأكراد بشقيهما «الاتحاد الديموقراطي» و»المجلس الكردي»، والموالون لموسكو في «جبهة التغيير والتحرير»، مع جماعة مؤتمر قرطبة. ومن المرجّح أن تكون هذه الكتلة هي العصب الأكبر للوفد المعارض في (جنيف3) الذي تلوح غيوم أمطاره منذ الآن.
* كاتب سوري