لأنَّنا نعيش مرحلة، غير مسبوقة، من الكسل في التعاطي مع الظواهر الاجتماعية والسياسية، ساعدت في بروزها قنوات الدعاية السياسية ووسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة كالفطريات، فقد ظهرت قراءات تنضح بمحتوى استشراقي عن المجتمع السعودي؛ لكونه مجتمعاً «وهابياً» منغمساً في محافظته. وقد جعلته تلك الدعاية، ليس فقط متعاطفاً مع الجماعات الجهادية، بل «مفرخة للدواعش» في المشرق العربي.
لا نشكّ لوهلة، أنّ اعتماد الدولة السعودية على الإيديولوجيا الدينية لتحصيل المزيد من المشروعية، واتكاءها على مؤسسة دينية ضخمة لتثبيت أركان النظام، وتوطيد دعائمه، من خلال علاقات أفراد تلك المؤسسة، المباشرة، مع الجمهور، قد عزز من مكانة الدعوة الوهابية في المجتمع، ورفع من حظوتها لدى السلطة، كما لدى شرائح اجتماعية كبيرة في المنطقة الحاضنة للسلطة المركزية وللعقيدة الوهابية، ليس بالضرورة عن قناعة تامة بها، أو للقوة المادية التي استخدمت عند تأسيس الدولة، لكن قد تكون لأسباب نفعية صرفة. فهناك الكثير من الأشخاص لا تربطهم باللحية الكثيفة والثوب القصير سوى الوظيفة.
أحيانًا، تبدو تلاوة البديهيات هي أهم ما يجب التركيز عليه، لذا نودّ تذكير بعض المُنساقين خلف السرديات الاستشراقية عن الوهابية، بأنه لم تعد هناك وهابية صافية كما كانت عليه عند نشأة الدولة السعودية الأولى، وأن الوهابية، بسبب تحديث الدولة السعودية، مرت بمراحل جعلتها تتحوّل إلى سلفيات متعددة، ومتنافسة، وأحياناً كثيرة متصارعة.
ففي العقود الثلاثة الأخيرة حدثت الكثير من الصراعات داخل الحالة الدينية في السعودية، تمخضت عنها «الصحوة الإسلامية» بكل تفرعاتها (السلفية الجامية، والسلفية السرورية، والسلفية الجهادية، وأخيراً السلفية الإصلاحية)، وقد تعزز انقسام هذه الكتلة، مع كل أزمة كبرى تمر بها المملكة، وليس هناك أوضح من المعركة الإعلامية التي خاضتها «السرورية» ضد «السلفية الجهادية» حول سورية؛ فكل تيار سلفي دعم فصيلاً جهادياً مختلفاً عن الآخر، وتقاتل الجهاديون السعوديون في أرض الشام. إذأ من الخطأ النظر إلى المجتمع السعودي كمجتمع وهابي، أو للسلفية ككتلة صمّاء، فضلاً عن وجود شرائح اجتماعية واسعة مناهضة للوهابية على امتداد ربوع السعودية.
المجتمع السعودي ليس مجتمعاً وهابياً، وهو بالتأكيد ليس مجتمعاً عنيفاً، بمعنى أنه لم يعتد حمل السلاح وخوض المعارك، منذ استقرار النظام السعودي وتوحيد الجزيرة العربية، إلا أن حدثاً تاريخياً مهماً قد غيّر وجهة هذا المجتمع. إنها تجربة المجاهدين العرب في أفغانستان، التي انخرط فيها آلاف الشبان السعوديين، والذين شكلوا، فيما بعد، عصباً رئيساً لتنظيم «القاعدة»، إذ كان من أبرز قياداته التاريخية الشيخ أسامة بن لادن.
أعادت هذه الحرب إلى الساحة السعودية أدبيات طواها النسيان منذ اندثار حقبة «إخوان من طاع الله»، كمفهوم «الهجرة» و«أرض الجهاد»، وقد تمت الاستفادة من هذه التعبئة الشعبية الواسعة، لخدمة أجندات سياسية لا علاقة لها لا بالدين ولا بالوطن؛ بسبب وجود التحالف الوطيد بين المملكة والولايات المتحدة، وبعيداً من أهداف المجتمع السعودي، التي كان أهمها مساعدة شعب مسلم يتعرض للقتل على يد قوات غازية، وفق الرواية المتداولة آنذاك. هنا تجدر الإشارة لمفارقة غريبة، حيث جرى تجاهل احتلال فلسطين، رغم أنها ذات قداسة إسلامية، وهي أقرب جغرافياً ووجدانياً وقومياً من أفغانستان، التي لا نرتبط معها بما يدعو إلى إرسال شبابنا للقتال دفاعاً عن ترابها.
التعاطف السعودي مع
«داعش» ليس نابعاً بالضرورة
من عقيدة وهابية

التعاطف السعودي مع «داعش» ليس نابعاً بالضرورة من عقيدة وهابية، بقدر ماهو حالة غرائزية ثأرية تجاه صعود القوى الشيعية في الإقليم، وكذلك تضخّم شعور «المظلومية» الذي كان خصوصية «شيعية» يوماً ما، فإذا به ينتقل خلال عقد واحد ليصبح أداة «السُنية السياسية» المفضلة في التعبئة والتحشيد ضد إيران وحلفائها، والذي انعكس، بلا شك، على بيئتها الاجتماعية المتوثّبة أصلاً. هذا التعاطف في بدايته كان نتاجاً «لوعي مزور»، مردّه لكون «داعش» ينتقم لهؤلاء من تغوّل العدو التاريخي «الشيعة» في مناطق طالما اعتبرها غالب السعوديين مناطق نفوذ «سُنية»، كالعراق وسورية ولبنان، في حين أن «داعش» أوّل ما يدمّره هو التنوع الاجتماعي «السُني». وفي حالة انفلات المشاعر من عقالها، بسبب الحرب الطائفية في المشرق العربي وانخراط ايران وحلفائها في قلب المعركة، يرتفع منسوب خطاب الكراهية والعداء أكثر، ولا يمكن حينها التمييز بين موقف الوهابي المتطرّف والإسلامي المعتدل.
هل يعني هذا الكلام أن «داعش» كنظام اجتماعي وسياسي يحظى بقبول السعوديين؟ لا طبعاً، بل أكثر من ذلك، لو فكر «داعش» بالمساس بأمن السعودية سيجد نفسه محاصراً، بل وفي مواجهة مباشرة مع المجتمع السعودي، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، فكثير من محاولات السلفيين، بمختلف توجهاتهم الفكرية، للتحرك في الشارع مُنيت بالفشل الذريع، وقد سبق وأن جرّبت «القاعدة» مهاجمة السعودية عام 2003، حين شرعت بالقيام بعمليات تفجير المجمّعات السكنية في الرياض والخبر، وقد استقبلت برفض اجتماعي حازم، تسبب في ضرر كبير لصورة الجهاديين السعوديين بين الناس.
من لا يفهم طبيعة المجتمع السعودي يتجاهل تاريخاً طويلاً من عدم حماسة هذا المجتمع لأيّ حراك في الشارع، وتحت أي شعار كان، رغبةً في الحفاظ على الاستقرار، فمنذ حرب الخليج الثانية 1991. وهذا المجتمع لديه ممانعة شديدة لتحويل المطالب الإصلاحية، مهما كان مصدرها، لحراك على الأرض قد يهزّ استقرار النظام، ما يظهر أن العقل الجمعي لهذا المجتمع يُثمن الاستقرار، والرخاء النسبي، الذي وفّره انتعاش أسعار النفط، ما يجعله راغباً برؤية إصلاح من داخل النظام لا من خارجه. فعلى الرغم من حالات التذمر الشعبي على مواقع «التواصل الاجتماعي» والدعوات التي يقوم بها ناشطون من حين لآخر، لتذكير الحكومة بسوء الخدمات، وضرورة الإصلاح، فإنّ أياً من هذه الدعوات، للنزول إلى الشارع، لم تحظ بدعم شعبي كبير، وتجربة «الصحوة الإسلامية»، إبان حرب الخليج، لم تنجح في تنظيم تظاهرة، إلا في مدينة بريدة، ولم يشارك فيها سوى بضعة آلاف، ولم تستمر لأكثر من أيام معدودة. وأخيراً، الفشل الذريع للدعوة لـ«ثورة حنين» آذار 2011، رغم مشاركة الآلاف على صفحة «الفايسبوك» إلّا أنها لم تلقَ استجابة شعبية. مشكلة من يتحدثون عن وجود بيئة حاضنة لـ«داعش» داخل السعودية، هو تصورهم أن شرط وجود هذه البيئة هو شرط ديني/ ثقافي، يتمثل في وجود مناهج التعليم الوهابية، وتربية السعوديين على الأفكار الوهابية، ولذا يفشلون في فهم سبب وجود حاضنة شعبية لـ«داعش» في العراق وسوريا، حيث لم يخضع سكان هذه المناطق لتربية وهابية.
الحاضنة الشعبية تنتجها الظروف السياسية والاقتصادية، وفي حالة «داعش»، تتوافر ظروف سياسية واقتصادية تساعدها في تكوين حاضنة لها في العراق وسوريا، لأسباب متعلقة بانهيار سلطة الدولة المركزية، والانقسام الطائفي والأهلي الحاد، وحلول جماعات خارج الدولة محل الدولة في رعاية مجموعات سكانية معينة، وهذا ما يسمح لـ«داعش» وغيرها بتمثيل جماعات أهلية في الصراع السياسي ضد جماعات أخرى، أما في الحالة السعودية، فسلطة الدولة المركزية متينة، والأوضاع الاقتصادية مستقرة أكثر من دول «الهلال الخصيب»، والحاضنة الشعبية قد تكون موجودة في بعض المناطق بشكل محدود، لكن الغالبية ستفضل الاستقرار على استقبال «داعش»، حفاظاً على مكاسبها الاقتصادية التي ما زالت قائمة.
إن الإحصاءات الكثيرة التي تقول بأن المجتمع السعودي مؤيد لـ«داعش» أقل ما يقال عنها إنها مُضللة، وحالة التعاطف التي كانت مع «داعش» في بداية دخوله سورية كانت تعكس حالة غرائزية أكثر من كونها إعجاب بالنموذج الداعشي في الحكم. الدعوة الوهابية في حالة انكماش، والمجتمع السعودي، وإن كانت فيه جماعة حاضنة وداعمة للسلفية الجهادية في الخارج، إلا أنه حتماً لن يستقبل «داعش» بالورود لو فكر في مهاجمة السعودية.