«من يقدر أن يفرّق بين تلك الصرخات البعيدة أهو عالم يولد أم مستقبل يموت؟فكلّ كائن من لحم ودمّ يطلق الصرخة ذاتها عند الممات وعند الولادة» (لويس أراغون)

لم أستطع إلا أن استعيد هذ الكلمات للويس أراغون حين سمعت قرار المحكمة المصرية التي برّأت حسني مبارك، ثمّ حين قال المشير عبد الفتاح السيسي إنه حان الوقت لقلب الصفحة. فهل مات المستقبل في مصر وفي باقي العالم العربي؟ هل الربيع العربي ما هو إلا حدث لا غد له، أو بالأحرى مؤامرة أميركية أو غربية، كما يحلو أن يذكّر، بمجموع مؤثّر، كلّ من السيسي وبشار الأسد ووسائل الإعلام السعودية؟
يمكننا أو بالأحرى يتوجّب علينا أن ننقل سخط مواطنة مصرية عبرت عن استيائها لقلب الصفحة من دون إدانة أي مسؤول عن مقتل المئات في كانون الثاني وشباط 2011، ومن دون معاقبة أي شخص بتهمة الإثراء غير المشروع، ومن دون ملاحقة أي مرتكب لأعمال تعذيب.

أمّا بالنسبة إلى أولئك الذين أثنوا على أداء القضاء المصري لوقوفه في وجه الرئيس محمد مرسي، ها هي الأحكام التي صدرت أخيراً تأتي لتذكّر أن كثيرين من المدّعين العامين هم رجال شرطة سابقون فيما يشارك القضاة في نظام يشوبه الفساد. وكما يقول إيتش. أي. هيليير في مقال على موقع «العربية. نت» في 1 كانون الأول تحت عنوان «مبارك والفلتان من العقاب: «في المرّة المقبلة، كلّنا سنأسف»، إنه لا يمكن لأي إصلاح حقيقي أن يستثني إصلاح نظام الشرطة والقضاء.
وكان تقرير نشر أخيراً قد أظهر أن مصر كانت من أكثر الدول فساداً في العالم (قراءة ابراهيم الصحاري، «تقرير: القطاع الخاص في مصر الأكثر فساداً في العالم» صحيفة «إيجبت إندبنديت»، الأول من كانون الأول).
ويقف رجال الأعمال اليوم خلف السلطة القائمة، وهم عينهم الذين موّلوا الحملة التي أدّت إلى إحداث حالة لا استقرار خلال عهد الرئيس مرسي (مع الإقرار أن مرسي يتحمّل المسؤولية أيضاً بسبب عدم كفاءته والأخطاء الكثيرة التي ارتكبها).
«من قتل المتظاهرين؟»، كان العنوان المشترك لعدد من الصحف الصادرة في 30 تشرين الثاني، في حين لا يشكّ أحد أنه بعد بضعة أسابيع أو ربما شهر، سنكتشف أن الإخوان المسلمين هم من أطلقوا النار على الشبان الذين احتشدوا في ميدان التحرير (وهو أمر بدأ جزء من الإعلام يروّج له بالفعل).
ورغم إعلان المشير السيسي ولاءه لثورة يناير، إلا أن النظام يبدو مصمماً على إغلاق صفحة فتحها الشعب المصري عام 2011.
ومن اللافت أنه في اليوم التالي لقرار تبرئة مبارك، أصدرت محكمة مصرية حكماً قاسياً بحق محمد مرسي بتهمة الفرار من السجن خلال الانتفاضة الشعبية التي اندلعت بين كانون الثاني وشباط 2011.
النظام يبدو مصمماً على إغلاق صفحة فتحها الشعب المصري عام 2011

وفي 3 كانون الأول 2014، أصدر قاض حكماً بالإعدام بحق 188 شخصاً دفعةً واحدةً (ولكنه بالطبع لم يحطّم الرقم القياسي الذي كان قد حققه قاض آخر حين حكم على 529 متهماً بالإعدام في غضون دقائق قليلة). (قراءة وردة محمد: حين يحكم قاض مصري على 529 شخصاً بالإعدام دفعة واحدة» OrientXXI، 28 أيار 2014).
خلال وجودي في القاهرة أخيراً، لمست شخصياً أن الوشاية باتت ممارسةً طبيعيةً لـ»المواطنين الصالحين» تشجع عليها السلطة. ومن ناحية أخرى، لم تكن وسائل الإعلام قطّ بيد السلطة كما هي عليه الآن (ففي الواقع، يتولّى العسكريون في القصر الرئاسي مسؤولية السيطرة على وسائل الإعلام)، أمّا حرية التعبير فلم تتقلّص إلى هذا الحدّ إلا في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، حتى أن الاعتقالات وأعمال التعذيب باتت أمراً شائعاً جداً لا يستهدف عشرات الآلاف (نعم عشرات الآلاف) من الإخوان المسلمين فحسب، بل أيضاً شبّان الثورة وغيرهم من آلاف الأشخاص الذين باتوا يخضعون مجدداً إلى الشرطة التي تسعى للانتقام (قراءة سامويل فوري «في مصر، الشرطة تنتقم» OrientXXI، 25 أيلول 2014).
ويبدو حديث السلطة عن «الحرب على الإرهاب» كمبرر للخطوات التي تقوم بها، رغم حملة القمع التي بدأتها في 3 تموز 2013 سبقت حصول أي عمل يمكن تصنيفه على أنه «إرهابي».
ففي مصر، كما في كلّ مكان آخر في العالم يسهم هذا الحديث في تظهير القمع الداخلي على أنه دفاع عن «التحضر» في وجه «البربرية».
وربما لهذا السبب استقُبل المشير السيسي بحفاوة في قصر الإليزيه من دون التطرق إلى المسألة الشائكة المتعلقة بحقوق الإنسان (قراءة افتتاحية في «لو موند» في 29 تشرين الثاني «باريس ــ القاهرة: علاقة غير واضحة»). وقد ذكّرت الصور التي التقطت خلال اللقاء بلقاءات مبارك مع جاك شيراك أو نيكولا ساركوزي.
إذاً سُرعان ما نُسي الانتقاد الذاتي الذي قام به آلان جوبيه في ربيع 211 حين تعهّد أن تستخلص فرنسا الدروس من دعمها للحكام الديكتاتوريين العرب، فاليوم عاد ملك المغرب والرئيس الجزائري ونظيره المصري ليصبحوا «حلفاءنا» من جديد.
ما هي آثار تبرئة مبارك؟ ضمن الخلاصات الجيدة للصحف المصرية والتي تنشر بشكل دوري باللغة الفرنسية («أكتو إيجبت»، 30 تشرين الثاني)، كتبت ماتيلد دو براديل قائلةً: «يبدو أن هذا الحكم حرّك بعض الأسطر (أو أنه عزّز نزعة ما) ضمن بعض مؤيدي النظام الحالي الذين كانوا مقتنعين بأن نظام السيسي مكمّل لثورة 2011. ومن الأمثلة على ذلك، محمد عطايا، الناطق باسم حملة «تحيا مصر» (وهي الحملة التي انطلقت لدعم حملة السيسي الانتخابية ولا تزال مستمرة) والذي نزل إلى الشارع ليتظاهر مساء أمس، داعياً إلى ثورة ثالثة». أمّا على قناة «أون تي في» التي يملكها رجل الأعمال المليونير نجيب ساويرس والذي كان من داعمي المشير السيسي، سمح مقدم البرامج أحمد خيرالدين لنفسه في 30 تشرين الثاني بالإشادة بشابين قتلا خلال استنكارهما الحكم. وكان آلاف الطلاب قد تظاهروا في ذلك اليوم.
حتى أن بعض أحزاب المعارضة التي أيدت النظام الجديد تأييداً مطلقاً أعربت عن تحفظّها. فهل لهذا السبب قرر النائب العام أخيراً الطعن بالحكم رغم السيسي كان قد أعرب في وقت سابق عن قبوله به؟
وإن جاءت ردّة الفعل محدودةً، فلا بدّ من التذكير بالقمع والعنف الممارسين، ويشمل ذلك استخدام رصاص الكاوتشوك، والضرب العنيف، وعودة ظهور الميلشيات، إذ إن الأمور كلّها لا تساعد في حصول أيّ تحرّك.
ولكن بعد زيارتي لمصر ومقابلتي شباناً وبعض المراقبين الذين لم يغرقوا في بحر البروباغندا هناك، أرى أن ثمّة إجماع بأن الشباب، وليس فقط أولئك الذين شاركوا في الثورة، لا يزالون محصنين تجاه خطاب السلطة، فهم يرفضون العودة إلى جيل أغرق مصر في الأزمات. لذا نحن نأمل أنه في مصر: المستقبل لم يمت، وسيولد عالم جديد.
(ترجمة هنادي مزبودي)
* رئيس التحرير المساعد
في «لو موند ديبلوماتيك» (فرنسا)