لم تعد من قيمة لوهم كثير من العرب بأن كل ما يريده الكيان الصهيوني هو الاعتراف الرسمي بهذا الكيان. ورغم انّ الكيان يسعى بكل جهد وإلى جانبه حلفائه من الثلاثي الإمبريالي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واليابان) للوصول إلى اختراق جبهة الشعب العربي بعد اختراق جبهة الحكام والكثير من جبهة القوى السياسية في الوطن العربي، إلا أن الكيان لن يكتفي بهذا حتى لو حصل.
يبحث الكيان الصهيوني عملياً عن دور مهيمن على الوطن العربي وعن دور ضروري على الصعيد العالمي وخصوصاً مع اوروبا وعن وظيفة لصالح الثورة المضادة لمواجهة القطبية الجديدة وبخاصة روسيا. فهو يرى أن لا بد من عش ما للكيان في كل بنية من بنى النظام العالمي تماماً كما فعل في مستوى التكنولوجيا، لا سيما تكنولوجيا السلاح سواء عبر إنتاج فئة من الأسلحة وتطوير اسلحة مستوردة، وبالطبع التخصص في بيع الأسلحة للدول التي تفضل اميركا ألا تبيعها مباشرة.
يمكننا اعتبار حرب الغاز إحدى آليات تسويق الكيان لدوره في هذه المستويات جميعاً. هذا ما تبين من اقتراح وزير البنية التحتية والماء، سلفان شالوم (يهودي تونسي)، بأن يُمد انبوب غاز طبيعي من الكيان الصهيوني عبر قبرص وصولاً إلى إيطاليا. المشروع المقدم إلى اجتماع في روما لوزراء الطاقة لبلدان الشرق الأوسط حضره وزراء أوروبيون وأتراك ومن دول عربية تعترف بالكيان (مصر والأردن) وكذلك لبنان. واعرب شالوم عن استعداده بأن يطير إلى بروكسيل خلال ثلاثة اسابيع من يوم الاجتماع لمناقشة مشروعه مع ممثلي البلدان المعنية.
وردد شالوم المعزوفة المألوفة بأن اوروبا مضطرة للاعتماد على الغاز الروسي الذي يغطي 30 بالمئة من حاجتها ما يبقيها تحت رحمة روسيا، مشيراً إلى التأثير الجاري على إمداد أوروبا بالغاز بسبب الأزمة الأوكرانية.
وأضاف أن هذا الغاز يمكن ان يصل من إيطاليا إلى بلدان أوروبية أخرى ما يقلل اعتمادها على الغاز الروسي. ويخدم الكيان بتصدير جزء من الغاز حيث لديه مخزون يقدر بـ 1000 بليون متر مكعب، وبأن هذا الأنبوب يمكنه نقل 10 بليون متر مكعب سنوياً.
وذكر كذلك بأن هناك صعوبات في طريق المشروع منها المسافة الطويلة إذ تبلغ 1250 كم وداخل عمق مائي يصل إلى 300 متر، وسيكون الأطول عالمياً وتقدر تكلفته بـ 15 بليون دولار.
وبحسب Globes (Online) Israel Business فإن هذا الاقتراح الصهيوني جاء في أعقاب إعلان اوروبا استعدادها للمساهمة بمبلغ 1.32 مليون يورو لمد كابل كهربائي بين الكيان وقبرص. والكابل هو جزء من خطة تسهيل الربط الأوروبي Connecting Europe Facility CEF ما يسهل نقل الكهرباء في الاتجاهين كليهما وتبلغ طاقته 2000 ميغاواط لمسافة تمتد إلى 1518 كلم، وهي 329 كلم من الكيان إلى قبرص و879 كلم من قبرص إلى كريت، و1310 كلم من كريت إلى أثينا. وكانت وزارة الطاقة الصهيونية قد قدرت كلفة المشروع بـ1.5 بليون يورو بما فيها 500 مليون يورو للجزء ما بين الكيان وقبرص. وقدرت تلك الوزارة بأن عائدات المشروع لكل من الكيان وكريت وقبرص تقدر بـ 17.5 بليون يورو، وبأنه سيرد تكلفة الاستثمار فيه خلال أربع سنوات.
معروف بأن معظم التبادل التجاري للكيان هو مع دول الاتحاد الأوروبي وخصوصاً أوروبا الغربية، وما تمكن قرائته من المشروعين أعلاه هو حرص الكيان على بقاء وتعميق هذه العلاقة. ومن أجل هذا، ونظراً إلى بعد الكيان عن أوروبا مقارنة بصغر مساحة اوروبا وتلاصق دولها، فلا بد للكيان من إدخال الدول الوسيطة في المتوسط ضمن المشروعين أي قبرص وكريت وبالطبع وصولاً إلى جنوب اوروبا، أي اليونان وإيطاليا. وبهذا يضمن الكيان نفسه كشريك في البنية التحتية للاتحاد الأوروبي ما يخفف عنه وطأة الدعم الأوروبي له أو منحه الأفضلية لأهداف سياسية واستراتيجية. اي ليكون الكيان جزءاً من البنية التحتية للاتحاد الأوروبي.
وفي هذا الصدد، نتذكر حرص الكيان على الاندماج في البنية التحتية لمصر والأردن عبر قناة البحرين ومشروع حفرة الانهدام الذي اسماه بيريز وادي السلام. وهو مشروع تساهم في تركيزه الدول الغربية، وخصوصاً اليابان عبر منظمة جايكا اليابانية التي تركز على البنية التحتية. معروف ان الولايات المتحدة أصرت على ان تنحصر اليابان في البنية التحتية في مناطق الحكم الذاتي (أوسلو-ستان) والاتحاد الأوروبي في المستوى الفني.
وليس هدف الكيان من تعميق البنية التحتية مع بلدان عربية هو الاقتصاد فقط بل كذلك ربط البنى التحتية مع البلدان العربية ما يجعل أية محاولة نضالية لفك هذا الارتباط بمثابة ضرر على القطاعات الشعبية المستفيدة او المعتمدة على هذه الشبكات بحيث تكون جزءاً من معارضة أي عمل مقاوم.
وفي هذا السياق يندرج ما يدور من نقاش بين الكيان والنظام المصري من تشغيل محطتي تنقية الغاز المصريتين وتصدير الغاز إلى مصر والأردن، ما يحقق للكيان ربط بنية تحتية وربح من استخدام المصافي وتبعية مصرية له وربح من تصدير الغاز! أليست هذه علاقة عجيبة؟
وهنا يحضر السؤال: لماذا لا تستورد الأردن ومصر الغاز من قطر؟ بغض النظر عن طبيعة الحكم في قطر المعادي للعروبة ودوره الإجرامي ضد سوريا؟ طبعاً يمكننا القول أنّ الثروة في قطر لا تذهب للشعب. ولكن في المقابل فإن الكيان الصهيوني أشد خطراً من اي كيان عربي تابع وحتى متصهين. هذا الأمر يفتح على أمرين:
الأول: هو انه من ناحية استراتيجية فإن اية تقوية للكيان أخطر من اية تقوية لنظام عربي تابع.
والثاني: أن انظمة من طراز أنظمة الريع النفطي ليست مؤبدة. والثالث: هذا يذكرنا بالتاريخ الطويل لتحاشي الأنظمة العربية التبادل التجاري البيني ما أعاق خلق سوق عربية مشتركة، لأن هذه الأنظمة تخشى أن الاقتصاد يشكل قاعدة للضغط الشعبي باتجاه الوحدة أو الاتحاد. وهو ما أسميه «تطوير اللاتكافؤ بين القطريات العربية».
قد تكون قطر جاهزة لمرونة ما بعد أكثر من تطور أتى على كثير من أظافرها: أي بعد ان فشل مشروع توريد الغاز القطري عبر حمص إلى تركيا. وبعد صمود سوريا في وجه العدوان، وبعد الضغط الخليجي على قطر لتخفيف احتضانها لإخوان مصر. وبالطبع يبقى القرار الأخير للولايات المتحدة في ما يخص السياسة القطرية وهو قرار لا بد أن يأخذ بالاعتبار مصلحة الكيان الصهيوني أولاً.
وبالعودة إلى الاقتراح الصهيوني، فإن الكيان معني كذلك بعرقلة الدور الروسي في أوروبا لأنه يرى روسيا بوتين عدواً حقيقياً وقوياً. فالكيان على ادراك تام بأن التحالف (إن جاز التعبير) الروسي الإيراني السوري، وإلى حد كبير العراقي، ليس بالإمكان تفكيكه، وبالتالي، يود الكيان أن يسهم في اية ضربة ممكنة ضده، وهذه المرة ضد روسيا.
وفي هذا السياق، يمكننا الاعتقاد بأن زيارة بوتين الأخيرة إلى تركيا وتحويل خط الغاز بعيداً من بلغاريا والمجر ليكون عبر تركيا إلى جزء من أوروبا هما لمواجهة الاقتراح الصهيوني المذكور أعلاه.
بقي أن نشير إلى أن لا أحد يسمع من الضعفاء والمتخلفين، ففي حين كانت قبرص اقرب اصدقاء مصر الناصرية نراها اليوم جزءاً من المعسكر الغربي المعادي للأمة العربية. وربما يصح القول نفسه عن اليونان.
بيت القصيد هو ان الكيان الذي يعاني من قلق وجودي دائم، لا يفتأ يفكر في مختلف الاتجاهات للوصول إلى درجة ما من اليقين. وهذا يشكل تحدياً لنا كعرب.
* كاتب عربي ــ فلسطين