الأحداث التي جرت في اوكرانيا السنة الماضية، والمفاعيل الاستراتيجية للإنقسام الداخلي التي جعلت من البلد ساحة مواجهة عالمية، سهّلت التفسيرات الاختزالية للحركات الشعبية التي شهدتها ساحات اوكرانيا ومدنها، فتصير مظاهرات الـ «ميدان» اليمينية تمثيلية بتمويل اوروبي وغربي، فيما توصف الحركة الشعبية المسلحة في المحافظات الشرقية كمجرد تعبير عن مجموعات «تؤيد روسيا».يطرح الباحث الروسي بوريس كاغارليتسكي (وهو منظّر ماركسي عارض النظام السوفياتي كما النظام الروسي الحالي) رؤية مختلفة لما جرى في ساحة «ميدان» وفي المحافظات الشرقية، موضحاً أنّ التمويل الخارجي كان، بالفعل، حاضراً في الحالتين، ولكنه لا يكفي لتفسير انضمام آلاف الناس، من الطبقات الشعبية غير المسيسة، الى حركات ايديولوجية تشكّلت في قلب الأزمة – سواء المنظمات الفاشية في الغرب أو «الجمهوريات الشعبية» في الدونباس.

الحركة المسلّحة في الشرق، تحديداً، تمثّل بالنسبة الى كاغارليتسي أولى الحركات الشعبية المسلحة في أوروبا منذ الحرب العالمية الأولى؛ مريدوها هم ما تبقى من المجتمع العمالي الصناعي في الشرق: أناس عاديون، مواطنون كانت علاقتهم بالسياسة تقتصر على الشكوى من حال السير والخدمات، فصاروا يحملون السلاح في وجه الطوابير المدرعة للجيش الأوكراني. الحركة في الشرق ليست ماركسية أو بروليتارية بوضوح، بل هي عبارة عن تحالف لفئات متنوعة وبشعارات متناقضة (بعضها يريد الحماية من نظامٍ يهدد باضطهاد المتكلمين بالروسية، بعضها الاخر يدافع عن مكتسبات فئات أفقرتها سياسات الاوليغارشيا الاوكرانية والاتحاد الأوروبي، وبعضها الاخر يغني نشيد الأممية ويتحمّس لفكرة الوحدة مع روسيا).
هذا النوع من الحركات الذي لا يحمل ايديولوجيا ثابتة ولا تقوده انتليجنتسيا مكرسة ويخرج من يد الطبقة الوسطى هو، بالضبط، صنف الثورات العمالية الذي عرفته اوروبا في القرن التاسع عشر، وهو يعبّر عن دينامية «ثورية» حقيقية، ليس من منظور المفهوم النخبوي الساذج الذي راج مؤخراً في بلادنا، والذي يفترض «نصاً ثورياً» محدداً يرضى عنه المثقّف، بل بالمعنى الحقيقي للثورية: ادخال فئاتٍ جديدة وشعبية الى ميدان السياسة، بعد أن كانت تقليدياً خارجه.
بعد جولة من «ثورات الطبقة الوسطى» مرّت على مختلف أرجاء العالم، بما فيها بلادنا، في العقدين الماضيين، وحظيت بتأييد غير مشروط من مثقفي الليبرالية ونخبها، شكّلت اوكرانيا حالة رعب لمثقفي الطبقة الوسطى داخل البلاد كما لليبراليين واليساريين في اوروبا، الذين قصروا سردياتهم على روايات «الغزو الروسي» و»الفاشية الاوروبية» – فأي تفسير آخر كان سيجبرهم على النظر عن قرب الى الصراع الاجتماعي القائم وطبيعته.
يقول كاغارليستي إن احتجاجات الطبقة الوسطى في دول المركز الغربي تميل لرفع شعارات تقدمية، بينما ذلك لا ينطبق على دول الأطراف؛ فحيث تكون الطبقة الوسطى واسعة وكبيرة، يعيش أفرادها في وعيٍ كامل لموقعهم الاجتماعي كأجراء ولمحدودية نفوذهم وسلطتهم مقابل الفئة المهيمنة في المجتمع. امّا في دول الأطراف، فتكتسي هذه الطبقة ــــ الأقلوية والصغرى ــــ بأوهام عن قوّتها وفعاليتها، يرفدها خوفٌ مستمرّ، لا من النيوليبرالية وسياسات النظام العالمي، بل من مطالبات الفئات الشعبية «المتخلفة»، وخطرها المفترض على امتيازاتها وامنها وأسلوب حياتها. وكلّما ازدادت طرفية البلد، يقول الكاتب، يزداد منسوب هذه الأوهام.
مهمّة المثقف عادةً تكون في خلق تحالف واسع، يجمع الطبقات الوسطى والشعبية، ويعزز وعيها بمصالحها المشتركة. امّا في اوكرانيا، كما في مصر وغيرها من دول الجنوب، فقد لعب المثقّف الدور المعاكس تماماً، فانسلّت الجماهير في اوكرانيا خارج نطاق الأحزاب التقليدية، وانضمت الى حركات فاشية في الغرب ومتمرّدة في الشرق، وسط تجاهل المفكرين الذين دعموا مظاهرات «الميدان» و»الثورة البرتقالية» لما يحصل. السبب، يقول كاغارليتسي، بسيط، فالمواطن العادي قد يسير في مظاهرة، ثمّ يعدّل موقفه ويبدّله حين تتغير الظروف، امّا المثقّف، فليس من السهل عليه تغيير رأيه. المواطن يستطيع أن يقول، ببساطة، «لقد تمّ خداعي»، امّا المثقّف، فسيكون مجبراً في هكذا حالة على الاعتراف بأنّه، هو، قد شارك في خداع الناس.