منذ عدّة أشهر، حين اشتدّت الأزمة بين الروس والغرب حول اوكرانيا، طلبت صحيفة «نيويورك تايمز» تعليقاً من مجموعة من الأكاديميين والباحثين، روساً وأوروبيين وأميركيين، عن أسباب الأزمة وسبل التعامل معها. كتب أكاديميّ روسيّ وقتها رأياً فريداً مفاده أنّ الغرب «يسيء فهم» بوتين، وأن لا سبب حقيقياً له للاصطدام مع روسيا، ومن الأفضل للغرب أن يتوقف عن تصوير رئيس الكرملين كمصدر للتهديد والخطر، وأن يفهم أنّ بوتين ــــ اذا اخذنا في الاعتبار المزاج الشعبي في روسيا ــــ هو أفضل ما يمكن أن يأمل به الغرب حالياً.
بوتين حليف طبيعي للغرب، حاجج الكاتب، فلماذا شيطنته؟ هو لا يرى روسيا الا جزءاً من النظام المالي العالمي. هو ونخبته يريدون أن يرسلوا أولادهم للدراسة في بريطانيا وأميركا، وأن يستثمروا رساميلهم في لندن ونيويورك. بمعنى آخر، هم يريدون أن يكونوا شركاء للغرب وأن يتطوروا على شاكلته، ويسعون بجهد للانضمام الى منظمة التجارة العالمية؛ فيما أكثرية من الشعب الروسي، اذا ما استُطلعت، تحمل نظرةً الى الغرب أكثر سلبية بكثير من سياسة الحكومة.
روسيا بوتين لا تختلف مع الغرب على أساس ايديولوجي، ولا تطمح الى تغيير نظام الهيمنة أو قلبه. هي تسعى، ببساطة، الى تحقيق مصالحها الوطنية ضمن المفهوم الغربي الكلاسيكي للدولة ــــ الأمّة، كأي نظام رأسمالي عقلاني في الساحة الدولية اليوم. فيستفظع الاعلام العالمي حين يردّ بوتين، بارتباك، على هجمات وتمدّدات في محيطه الحيوي تستهدفه مباشرة. فما الذي يتوقعه الغرب فعلاً من بوتين حتى لا يراه عدوّاً ومعتدياً؟ أن يقبل باذلال نفسه وبلاده؟ أن يعمل ضد مصلحة وطنه؟
سعي روسيا خلف مصالحها الوطنية، بحسب المذهب الغربي، هو ما دفع بعض المعلقين العرب الى الاستنتاج بأن ... روسيا اليوم امبريالية (تماماً كأميركا)، وهو ما يلقي شكوكاً عميقة حول فهم هؤلاء الناس للامبريالية والعلاقات الدولية ومفهوم القوة في آن. مشكلة بوتين، في الحقيقة، ليست انّه قويّ وطموحٌ ومتجبّر، بل انّه ليس قوياً كفاية ليردع الغرب عن التمدد في جواره، وليس مستقلّاً كفاية حتّى يكون حصيناً من العقوبات، وليس امبريالياً كفاية ليكون جزءاً اصيلاً من منظومة الهيمنة والاستغلال العالمية. الاكتشاف المفزع لبوتين اليوم، وما يدفعه لترديد بعض العبارات الحانقة في خطابه (التصالحي عموماً)، هو أنّ التخلي عن العداء الايديولوجي والمبدئي مع الامبراطورية ليس كافياً للشراكة، وأن الغرب لا يريد لروسيا أن تكون مثله، ولا يرتاح، فعلاً، الا لرئيسٍ من طراز يلتسين، لا يضيره التفريط بمصالح بلاده ومستقبلها، بل وتركها نهباً للفساد والعصابات.