هناك مستويان أساسيان لمقاربة موضوع حالة التنوع المذهبي الموجودة في المجتمعات. المستوى الأول يعمل على مقاربة الموضوع في الإطار اللاهوتي أو المذهبي المحض للجماعات البشرية، بحيث يعمل هذا المستوى على مناقشة الموضوع في إطاره العقدي الخاص. وكأنه يقول في دائرة الاختلاف المذهبي إن المطلوب للرضا عنك أو نيلك حقوقك التي تطالب بها، هو أن تغير أو تزحزح أو تتنازل عن بعض ما هو موجود في بنائك العقدي أو منظوماتك المذهبية. ولكون هذا دونه خرط القتاد كما يقولون لأنه لا يمكن أن تتحقق تحولات عقدية أو فكرية جماعية في سياق الضغط أو المطلب الخارجي. لأن الحقائق الفكرية والمذهبية لدى كل الجماعات البشرية هي حقائق عنيدة، ولا تقبل أن تقدم تنازلات في ما تعتقده ضرورياً أو ثابتاً من ثوابت منظومتها المذهبية.

وهذا المستوى من مقاربة المسألة المذهبية في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لا تفضي إلا إلى المزيد من تمسك كل طرف بما يعتقد به، كما أنها تزيد في حالة الاحتقان المذهبي. بمعنى أن معالجة الانقسام المذهبي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لا يمكن أن يتحقق أو ينجز على ذات الأرض المذهبية سواء للطرف الأول أو الثاني. أو بتعبير أكثر دقة أن الأرضية المذهبية سواء للطرف الأكثري أو للطرف الأقلي، لا يمكنها أن توفر معالجة حقيقية لحالة الانقسام المذهبي السائدة في مجتمعاتنا اليوم. ومن يبحث عن معالجة فعلية لحالة الانقسام بإطلاق حوار بين مشايخ هذا الطرف أو ذاك، فإنه لن يحصل في سياق النجاح الأقصى لعملية الحوار إلا على التسالم بوقف النزاع أو التوتر الدائم بين أتباع المذاهب الموجودة في المجتمع. لهذا فإننا نعتقد أن الانقسامات المذهبية في المجتمعات المعاصرة، لا يمكن أن تعالج إلا في سياق مؤسسة الدولة، بحيث تكون على مسافة واحدة من كل الافرقاء، وتصيغ قانوناً ثابتاً يضمن خصوصيات الجميع وعلاقتهم الإيجابية في سياق متحد اجتماعي – وطني منضبط بضوابط القانون الموحد الذي يطبق على الجميع، ويسهر على ضمان حق المواطنة المتساوية. لهذا فإن المقاربة المذهبية البحتة، لموضوع الانقسام المذهبي، غير قادرة على معالجة هذا الانقسام من جذوره، وإن أقصى ما تتمكن من تحقيقه هو تبريد الانقسام وإدارته برهان المناقبيات الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الجميع. وهذا يمكن أن يتحقق في عالم الأفراد، أما عالم الجماعات والمجتمعات، لا يمكن أن ينضبط إلا بدولة قادرة ومسيطرة ومحايدة في الوقت ذاته، أي أنها ليست جزءاً من حالة الانقسام، وتعمل على قاعدة قانونية، لجعل الانتماء الوطني هو معيار الحقوق والواجبات، وليس شيئاً آخر. وفي مقابل هذا المستوى في مقاربة المسألة المذهبية، ثمة مقاربة أخرى نتبناها ونعتبرها إذا أحسنا التزام بنودها قادرة على معالجة الانقسام المذهبي الموجود في مجتمعاتنا.
لا يمكن لأي مجموعة بشرية
أن تعيش فقط من خلال إشباع
دائرة انتمائها المذهبية

وجوهر هذه المقاربة هو الانتقال من المستوى العقدي ـ اللاهوتي إلى المستوى الاجتماعي الثقافي ـ السياسي. بمعنى أننا نتعامل مع حالة التمذهب ليس بعنوان المنظومة العقدية أو المذهبية، وإنما بعنوان أنها تشكل مجموعة بشرية ذات خصائص ثقافية محددة، وتطالب بتحسين أوضاعها بوصفها جماعة أساسية في التكوين الوطني. أي لا يجرى الدخول في جدال مذهبي ـ تفصيلي بوصفه هو مدخل معالجة المشاكل أو نيل الحقوق أو نيل الثقة بهذه المجموعة بفعل متبنياتها المذهبية الخاصة. وإنما نقل الموضوع إلى الدائرة الأخرى، التي تقارب الموضوع في الدائرة الاجتماعية ـ الوطنية.
فالشيعة في المملكة العربية السعودية، لا يمكن فهم مسألتهم الحقيقية إلا في سياق التعامل معهم بوصفهم جماعة وطنية ذات خصائص ثقافية محددة، لا تمنعهم من الانفتاح والتواصل مع المكونات الوطنية الأخرى، ولا تمنعهم هذه الخصائص من الوفاء بكل متطلبات المواطنة الحقيقية.
وإن الانتماء إلى دائرة مذهبية محددة، لا يحول دون التفاعل التام مع كل متطلبات انتمائهم الوطني في أبعاده المختلفة. فالانتماء المذهبي ليس بديلاً من الانتماء الوطني، ولا يمكن لأي مجموعة بشرية أن تعيش فقط من خلال إشباع دائرة انتمائها المذهبية، فهي بحاجة إلى انتمائها الوطني، ولا تمكن المقايضة بين هذه الانتماءات. فكل جماعة بشرية تعتز بانتمائها الثقافي ـ المذهبي، كما تعتز بانتمائها الوطني، ويتحمل الجميع أي جميع الأطراف المشاركة في الدائرة الوطنية في بناء توافق عميق بين الانتماءين. بحيث لا تكون هناك حالة تضاد بين هذا الانتماء أو ذاك. من هنا فإنني أدعو جميع المشتغلين بهموم الانقسام المذهبي في مجتمعاتنا، إلى الالتفات إلى أهمية أن نقارب هذه المسألة بعيداً من حالة الجدل المذهبي البحت، التي لا تعالج المشاكل الحقيقية، بل تزيدها تعقيداً وارتباكاً. وإننا بحاجة إلى أرضية الدولة ومؤسساتها المختلفة لمعالجة حالة الانقسام. وبلغة أكثر تكثيفاً ودقة، حينما تكون الدولة للجميع، والوطن للجميع، يمكننا أن نعالج كل حالات الانقسام الأفقية والعمودية الموجودة في مجتمعاتنا. وحادثة الأحساء الأليمة أكدت بشكل لا لبث فيه استعداد الشيعة السعوديين النفسي والعملي للانسجام التام مع شركائهم في الوطن. وسجلت النخبة الدينية والاجتماعية للشيعة موقفاً رائعاً، إذ تعالت على الجراح، وانسجمت مع رؤية واستراتيجية الدولة في التعامل مع الحادثة الأليمة وآثارها المختلفة. وأرى أن اللحظة مؤاتية في ظل هذه الظروف، للقيام بمبادرة تستهدف تطوير حالة الاندماج الوطني بين مختلف المكونات، بعيداً من النزعات المذهبية المقيتة. وفي سياق ضرورة الخروج من حالة الانقسام المذهبي والطائفي الحاد، التي تشهدها المنطقة، ثمة ضرورة للعمل على حماية وطننا وتعزيز انسجامه الوطني، حتى نتمكن جميعاً من حماية وطننا من كل الأخطار المحدقة. وفي هذا الإطار نود تأكيد النقاط التالية:
1ـ ليس شرطاً لوطنية أي مواطن، أن يشترك مع بقية المواطنين في الانتماء المذهبي. لأننا نجد في جميع المجتمعات حالة التنوع الأفقي والعمودي، وهذا التنوع بكل مستلزماته، ليس مانعاً أو كابحاً من إنجاز مفهوم المواطنة. ولعل من أهم الإشكاليات التي نواجهها في المجتمع السعودي، هو خلق حالة من المساوقة بين الانتماء المذهبي والانتماء الوطني، لأن هذه المساوقة تفضي إلى بروز حالة من التوترات المذهبية التي لا تنفع مؤسسة الدولة في أي شيء، كما أنها تضر بحقيقة الاستقرار الاجتماعي. فمن حق أي مواطن أن ينتمي مذهبياً لأية مدرسة فقهية أو عقدية، ولا يحق لأي احد أن يجعل من هذا الحق بالانتماء حائلاًً ومانعاً دون حقوقه كمواطن بصرف النظر عن قناعاته المذهبية أو الدينية.
2ـ ثمة نقاش محموم وإثارة للكثير من الشبهات مع كل حدث أو انعطافة سياسية أو اجتماعية كبرى سواء على مستوى الداخل الوطني أو في دول المحيط والفضاء الإسلامي. ولعل النقطة المركزية في هذا النقاش وتوابعه حول ولاء الشيعة في المملكة هل هو لوطنهم أم لدولة مذهبية بجوارهم وهي إيران. ونحن هنا لا نريد أن نقارن بين الأطراف الوطنية، ومدى التزام كل طرف مقتضيات الوطنية وهل هو يقدم انتماءه الوطني على بقية الانتماءات.
ولكننا نود أن نوضح الرؤية التالية:
لعل باعث هذه الشبهة هو التعامل مع حقيقة الانتماء لأية دائرة من دوائر الانتماء وكأنها مساوقة ومترادفة لحقيقة الولاء السياسي والوطني. مع العلم ثمة فروق جوهرية بين الانتماء والولاء. فغالب أشكال الانتماء لدى الإنسان لا كسب له فيها، فهو ينتمي إلى عائلة أو عشيرة أو قبيلة أو مذهب أو دين لا كسب حقيقياً له في هذه الانتماءات. فهو لكونه مولود لأبوين مسلمين أصبح مسلماً ـ شيعياً أو سنياً. وهكذا بقية دوائر الانتماء... أما حالة الولاء فهي نتاج كسب الإنسان وقراره وقصده الواعي. وعلى ضوء هذه الحقيقة نقول: إنّ الشيعة في المملكة كغيرهم، يعتزون بانتمائهم المذهبي كما أنهم في الوقت ذاته يعتزون بولائهم الوطني، وليس ثمة مفارقة حقيقية بين الانتماء المذهبي والولاء الوطني.
ووجود دول ومجتمعات شيعية في الجوار، لا يعني أن ولاء شيعة الوطن إلى مجتمعات الجوار، لأن مصلحة الشيعة بكل ما تعني مقولة المصلحة، هي في انتمائهم وولائهم الوطنيين. ولا يمكن التضحية بمصالح الوطن، لمصلحة أية مجموعة بشرية أخرى مهما كانت عناصر الاشتراك معها.
ومن الضروري في هذا السياق أيضاً، الالتفات إلى هذه المسألة، وهي حينما يختلف وطننا أو حكومتنا سياسياً مع أي طرف شيعي في المحيط المطلوب دائماً عدم الخلط بين الاختلاف السياسي والاستراتيجي وبين التشنيع على المذهب الشيعي. لذلك نحن نطالب لكي نعالج بصدق جدلية الانتماء والولاء، إلى تحييد المذاهب والمدارس الفقهية من ظاهرة الاختلافات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.
لأن عملية الخلط هي التي تفضي إلى حالة من الاحتقان الطائفي والتوتر المذهبي، لأن إدارة الاختلاف السياسي استخدمت فيها الأدوات المذهبية التي تلامس مشاعر مكون أصيل من مكونات الوطن. 3ـ الشيعة في المملكة مكون أصيل من مكونات المجتمع السعودي، ويعتزون كغيرهم من أبناء الوطن، بوطنهم، ويتطلعون إلى أن تسود العلاقة الإيجابية والمستقرة مع شركائهم في الوطن. وهم في هذا لا يزايدون على أحد، ويرفضون في الوقت ذاته أن يزايد عليهم أحد. فالوطن لنا جميعاً، ومن واجبنا جميعاً أن نحمي وندافع عن هذا الوطن بكل الإمكانات والطاقات.
فتعالوا جميعاً نخرج من خنادقنا المذهبية، ونحمي وطننا من كل الأخطار يداً بيد وكتفاً بكتف.
* كاتب سعودي