تكاد تكون شجرة الميلاد هي الصورة الوحيدة الجميلة في جملة ما خلّف هذا العام من أحزان. ومن الصعب، بل من المؤلم، أن نتخيّل عاماً لا شجرة ميلاد فيه ولا قرع أجراس، فكيف إذا كنّا نعيش واقعاً يتهدد الوجود المسيحي بكليّته على الضفة الشرقية للمتوسط، وعلى تخوم صحراء تتأهب لتُكمل زحفها على ما تبقى من ربيع في هذا الشرق؟ وهناك من لا يزال يتساءل، ببلاهة أو بخبث، عن جواز أو لا جواز مشاركة المسيحيين أعيادهم، وعن العادات الشركية التي قد يقع فيها المسلمون من جراء تقليد النصارى في مراسم العيد، والعياذ بالله!
إنّ قراءة للتراث الإسلامي تختلف باختلاف القرّاء، والموقف من مشاركة النصارى أعيادهم أو عدمه يختلف باختلاف الفقهاء وتعدّد المذاهب. ولئن كان الفكر الصوفيّ هو الأكثر تسامحاً وتجليّاً في حوار دار بين جلال الدين الرومي وراهبة دير حين سألها: هل لديكم مكان طاهر أصلي به؟ فأجابته: طهّر قلبك وصلّ حيث شئت. أو في التراث «الرافضي» حين سُئل الإمام الصادق عن جواز الصلاة في كنيسة ؟ فكان أن أجاب: لقد رأيتها، ما أنظفها. فإنّ نزعات متشددة تُسيء لجمالية الترابط الإنساني عبر استعادة الجدل الفقهي عن طهارة أو نجاسة اليهودي والنصراني، وتحيل الموضوع إلى مجلدات موبوءة بالتكفير وكره الآخر، باعتبار هذا الآخر كافراً مشركاً نجساً أو عابد صليب. وهذا يؤدي إلى اختلاط الأمور وضبابية في التعامل مع الموضوع، ليكون موضع خلاف فقهي جديد في جملة ملايين الإختلافات الفقهية التي تحفل بها التشريعات الإسلامية. وهذا واضح في الفروقات التي تتعامل بها الدول الإسلامية مع مواطنيها المسيحيين. فبينما يُنكر المذهب الوهابي أي حق للمسيحيين على أرضه، يُمارس الإيرانيون شيئاً يتخطى حتى أبسط قواعد التشريع الإسلامي، فلا يلحظ الدستور الإيراني أي ذكر للجزية، ويسمح لمواطنيه المسيحيين بكافة أنواع الوظائف والدرجات حتى العسكرية منها من دون تمييز، فضلا عن حق ممارسة الشعائر وما يتطلبه من أطعمة وشراب خاص بهم. بمعنى آخر، تنتفي أحكام الذميّة عملياً رغم وجود نظام إسلامي في طبيعته، بل ويصل الأمر إلى زيارة مقابر اليهود ضحايا الحرب العراقية ــــ الإيرانية من قبل رجال دين ومسؤولين في النظام وتقديم أكاليل الورد، وهذا مثير للجدل في دولة أساسها الإسلام وهو دين يقبل التعايش مع الآخر شرط إخضاع هذا الآخر وإرغامه على دفع الجزيّة.
ما نستخلصه أنّ المشكلة ليست في الإسلام بحدّ ذاته، بل في الرؤى الفقهية المتعددة. فمن الممكن إرساء أسس لإسلام ليس في مواجهة مع المدنية، بل في تعايش سلمي معها. فالآيات القرآنية تحتمل التأويل، ولطالما كانت موضع تأويل، فضلاً عن إمكانية إنتقائية الحديث المناسب للنهج المرجو، وهذا شائع لدى المذاهب الإسلامية. وهي ضرورات حتمية كي يبقى الإسلام في تناسق مع العصر وضمن سياق الحقوق المدنية وشرعة حقوق الإنسان. فلا شك أنّ الإستناد إلى نصوص متحجّرة وأحاديث لا تليق بالزمان هي من ركائز الداعشية المتدحرجة، والتي لا تختص بمذهب إسلامي واحد، بل هي عابرة للمذاهب. فنصوص الفقه الإسلامي على اختلاف مدارسه تنضح بالكثير من الأحكام التي تسفّه الآخر المختلف وتدنّسه وتعيد ترتيبه في منزلة الحيوان «كالكلب والخنزير»، وهذا معيب. ولا يتناسب مع المبادىء الإنسانية الساميّة الطامحة لتعايش البشرية في إخاء وسلام. وهو ما يطرح على متنوّري السلك الديني مسؤولية كبرى في مواجهة المدّ المتصاعد للتيارات اللادينية والتي من أسبابها تقديم الإسلام في صورته المحنّطة.
إنّ إطلاق الحريّة وعدم إلقاء الحُرم على حريّة التفكير والإبداع، ورفع سيف التكفير عن رقاب الناس هي البداية الصحيحة لتصحيح صورة صارت بائسة من كثرة ما لحقها من تشويه.
ميلاد مجيد وعام سعيد وقرع أجراس وشجرة ميلاد وكنائس وصلبان والله واحد وهو للجميع.