منذ انبثاق الحركة الصهيونية، قدّم المفكرون الصهاينة مشروعهم الاستعماري القومي بوصفه ردّاً على اللاسامية. وفي حين رأى الصهاينة أنّ اللاسامية هي عَرَض من أعراض، إن لم تكن تشخيصا للمسألة اليهودية، فقد قدمت الصهيونية نفسها على أنّها الترياق الشافي، الذي من شأنه القضاء على اللاسامية في أوروبا مرة واحدة وإلى الأبد. وقد أصرّ تيودور هرتزل وأتباعه على إلقاء تبعة اللاسامية على وجود اليهود في المجتمعات غير اليهودية.
ففي كتيّبه المؤسس للحركة الصهيونية «دولة اليهود»، وصف هرتزل الحال الراهن كالتالي: «ها هم اليهود البائسون يقومون اليوم بنقل بذور اللاسامية إلى إنكلترا؛ بعد أن كانوا قد نقلوها من قبل إلى أميركا». وبما أنّ الصهاينة كانوا يشاطرون اللاساميين هذا التشخيص، فقد قاموا، مثلهم مثل اللاساميين، بمطالبة اليهود بالرحيل عن المجتمعات غير اليهودية، من أجل تحويل وضعهم «غير السوي» إلى وضع «سوي»، وتحويلهم إلى قوم وأمة مثل باقي الأمم.
ولما كان من غير الممكن لأهداف الصهيونية أن تتحقق إلا عبر مشروع استعماري استيطاني، فقد أيقن مؤسسوها ضرورة التحالف مع القوى الاستعمارية لإنجاز هذه الأهداف. وعلى الرغم من أنّ استعمار فلسطين كان قد بدأ في وقت متأخر، عشية انحسار الاستعمار الأوروبي، فقد كانت الصهيونية في سنواتها الأولى، أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، على وجه التحديد، تعيش أزهى أيامها في ظلّ ازدهار اللاسامية والاستعمار في أوروبا. وقد قامت الصهيونية اليهودية ورعاتها المسيحيون الأوروبيون في سنواتها الأولى باستدعاء التأكيد البروتستانتي المتعصّب على ارتباط يهود أوروبا بأرض فلسطين تاريخياً وجغرافياً، ووجوب أن «يعودوا» إليها، وهو ما جعلهم يَصمون المعارضة الفلسطينية للاستعمار اليهودي آنذاك بالتعصب البدائي للسكان الأصليين إزاء الحكم الأوروبي، وبأنها إهانة وتحدّ للادعاءات اليهودية والمسيحية، التي تؤكد أنّ فلسطين هي «الوطن القومي» ليهود أوروبا.

الدول المعادية للسامية

لقد شكّلت الدول التي ترعى اللاسامية رسمياً مصدراً رئيساً لدعم ومساعدة الحركة الصهيونية. وبالفعل، فقد أقرّ القادة الصهاينة، بوعي تام، أنّ وجود دول راعية لللاسامية هو أمر ضروري لنجاح مشروعهم الاستعماري. وكان كلام هرتزل واضحاً في هذه المسألة، حيث أعلن في كتيّبه أنّ «حكومات جميع البلدان التي تستشري فيها اللاسامية ستكون مهتمة بمساعدتنا على الحصول على السيادة التي نرنو إليها»، وليس «اليهود الفقراء فقط هم من سيسهمون في صندوق لهجرة يهود أوروبا، إنما سيكون للمسيحيين، الذين يريدون التخلص منهم، اسهام كذلك». ويخلص هرتزل في مذكراته إلى أنّه «سوف يكون اللاساميون في مقدمة أصدقائنا الذين يمكننا الاعتماد عليهم، وستصبح البلدان المعادية للسامية حليفتنا». لم تكن هذه التصريحات التي خطّها هرتزل بيده مجرّد زلات قلم أو هفوات لسان غابت عن ذهن قائلها، بل كانت تعبّر في الواقع عن استراتيجية طويلة الأمد ما زالت الصهيونية وإسرائيل يتبعانها حتى يومنا هذا.
ولم يكن تقرّب الصهاينة من آرثر بلفور، البروتستانتي المعادي للسامية، والذي رعى عام ١٩٠٥ مشروع قانون الأجانب الذي يمنع اليهود الفارين من مذابح أوروبا الشرقية من الهجرة إلى إنكلترا، مجرد مصادفة. كما لم تكن لاساميته هذه منبتة الصلة عن دعمه للمشروع الصهيوني من خلال «وعد بلفور» سيئ الذكر، الذي كان من شأنه إعادة توجيه اليهود بعيداً عن إنكلترا. فعندما تولى النازيون السلطة في ألمانيا، كانت الصهيونية، التابعة لحكمة هرتزل بأنّ اللاسامية هي حليفة الصهيونية، المجموعة اليهودية الوحيدة التي تعاونت معهم. وفي الواقع، على النقيض من كل اليهود الألمان الآخرين (ومعظم الناس داخل وخارج ألمانيا) الذين اعتبروا النازية ألد أعداء اليهود، رأت الصهيونية في النازية فرصة لتعزيز استعمارها لفلسطين. ففي عام ١٩٣٣، وقّعت الصهيونية اتفاق النقل «هعَبَره» مع النازيين، وكسرت من خلاله المقاطعة الدولية للنظام النازي: وبموجب هذا الاتفاق قامت ألمانيا النازية بتعويض اليهود الألمان الذين يفقدون ممتلكاتهم نتيجة هجرتهم إلى فلسطين من خلال تصدير سلع ألمانية للصهاينة في فلسطين بنفس قيمة الممتلكات المفقودة، وكسرت بالتالي المقاطعة. هكذا غدت النازية بمثابة هدية للصهيونية في عقد الثلاثينيات، حيث كان ستون في المئة من مجمل رأس المال المستثمر في القطاع اليهودي في فلسطين، بين عامي ١٩٣٣ و١٩٣٩، قد تدفق من المال اليهودي الألماني نتيجة «اتفاق النقل».
في عام ١٩٣٥، كان فرع الصهيونية الألماني القوة السياسية الوحيدة التي أيّدت قوانين نورمبرغ النازية، التي مأسست التمييز العرقي ضد اليهود في ألمانيا، كما كانت الحركة الصهيونية الجهة الوحيدة المسموح لها بنشر صحيفة خاصة بها («رُندتشاو»)، والتي استمرت بالصدور حتى مذبحة «ليلة الزجاج» في عام ١٩٣٨. وتأكيداً على متانة العلاقات التي ربطت الصهاينة والنازيين في تلك الفترة فقد حلّ مسؤولون نازيون ضيوفاً على الصهاينة عندما قاموا بزيارة فلسطين في عامي ١٩٣٤ و١٩٣٧. وقد وصل كلّ من أدولف آيخمان وهربرت هاغن إلى فلسطين في عام ١٩٣٧ لتفقد الإنجازات الصهيونية، وقام المبعوث الصهيوني فايفل بولكس باصطحابهما في جولة على جبل الكرمل لزيارة إحدى المستعمرات اليهودية هناك. أما وصول آيخمان إلى البلاد في مطلع الستينيات، عندما تمت محاكمته وإعدامه، فقد كانت زيارته الثانية لفلسطين. وتغفل الدعاية الإسرائيلية عادة ذكر زيارته الأولى.
دأبت الصهيونية على الادعاء بأنّ تعاونها مع اللاسامية كان استراتيجية لإنقاذ اليهود، إلا أنّ الوقائع تنفي ذلك، فقد قامت الصهيونية، خلال الحكم النازي، بمنح يهود بريطانيا والولايات المتحدة الأولوية على حساب اليهود الألمان في أحقية الهجرة إلى فلسطين. كما رفضت القيادة الصهيونية، في واقع الأمر، ثلثي المتقدمين للهجرة إلى فلسطين من اليهود الألمان لعدم انطباق معايير المهاجر المثالي المفروضة صهيونياً عليهم، والتي تتضمن حسب الصهاينة الالتزام بالصهيونية، وأن يكون المهاجر في سن الشباب، وبصحة جيدة وحاصلاً على التدريب، ويمتلك ثروة، ويملك المهارات اللازمة، ويعرف العبرية.

عالم بعد الحرب العالمية الثانية

سعى الصهاينة، اثر اندثار الدول الراعية للاسامية التي تلاشت بعد هزيمة النازيين وما تبعها من كشف لأهوال وفظائع المحرقة النازية، إلى طمس الكثير من تاريخ تعاونهم مع الحركات والأنظمة المعادية للسامية. وشكّل اختفاء الدول الراعية للاسامية، وما تلاه من رفض عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية لمعاداة السامية وشجبه واستنكاره للاستعمار والاستيطان، معضلة حقيقية للمشروع الصهيوني. فقد أصبحت علة وجود الصهيونية، التي كانت تعتبر نفسها رداً على التهديدات المعادية للسامية ضد اليهود، في خطر، إذ لن يقتنع اليهود بضرورة تهجيرهم إلى دولة إسرائيل الجديدة. فبانتهاء عصر الاستعمار وانبثاق عالم ما بعد الاستعمار ونشوء الدول المستقلة فَقَدَ الاستعمار واللاسامية شرعيتهما في الخطاب والعلاقات الدولية والأوروبية.
لقد وضعت هذه التحولات الصهيونية في مأزق، فلم يعد بمقدورها المضي قدماً إلا من خلال تعزيز استعمارها للأرض الفلسطينية. ولكنها قررت، في سبيل مواجهة تنامي العداء للاستعمار، إعادة تأطير مشروعها على أنّه صراع ضد الاستعمار. ووجد اليمين الصهيوني في تراجع بريطانيا، راعية الصهيونية الرئيسة، عن دعمها للمشروع الصهيوني منذ بداية الحرب العالمية الثانية، فرصة مواتية لتصويب سهامه ضدها. وبحجة أنّ بريطانيا خانتهم، قام المستوطنون اليهود بشنّ هجمات إرهابية ضد القوات البريطانية في فلسطين. وعلى النقيض من الصراعات الأخرى المناهضة للاستعمار، التي تكون نسبة عدد الضحايا فيها من المناهضين فلكية مقابل ضحايا القوى الاستعمارية، أدّى الإرهاب اليهودي والردّ البريطاني عليه في الفترة ما بين عامي ١٩٤٤ و١٩٤٨ إلى قتل ٤٤ إرهابياً يهودياً و١٧٠ جندياً ومدنياً بريطانياً، أيّ بما نسبته ١ إلى ٤ لصالح الإرهابيين. ومع ذلك، وفي سبيل تأكيد كونها حركة مناهضة للاستعمار، راحت الصهيونية تطلق اسم «حرب الاستقلال» على حربها الإرهابية ضد بريطانيا.
مع بدء الصهاينة، في ذلك الحين، بإعادة طرح مشروعهم الاستعماري على أنّه «معاد للاستعمار» ليواكب مواصلة استعمارهم واستيطانهم الأرض الفلسطينية، فقد تنبهوا لإمكان الاستفادة من استنكار اللاسامية حديث العهد في الرأي العام الأوروبي في مواجهة المقاومة التي خاضها الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار اليهودي سنة بعد سنة وعقداً بعد عقد، من خلال وصمه باللاسامية. وشرعت إسرائيل منذ تلك اللحظة بمواجهة أيّ مطالبة بإنهاء الاستعمار الصهيوني بالزعم بأنها مطالبة لاسامية. وقرّرت إسرائيل بعد ذلك أنّه إن لم يعد يتبقى دول ترعى اللاسامية، فيجب استحضارها، وإن اختفت الاعتداءات على اليهود لكونهم يهوداً فيجب تنظيمها من جديد، وكلما أمكن استشفاف موقف معاد للسامية يجب تعظيمه وتعميمه والمبالغة فيه، حيث إنّ الدفاع الوحيد الممكن عن إسرائيل في عالم جديد يعارض كلاً من الاستعمار واللاسامية يكون باستخدام أحدهما في الدفاع عن الآخر.
شرعت الصهيونية بإعادة كتابة النضال الفلسطيني ضد الاستعمار اليهودي على أنّه ليس صراعاً ضد الاستعمار بل مشروع معادٍ للسامية. وغدت حكاية المفتي أمين الحسيني الدليل الرئيس في النسخة الصهيونية من التاريخ الفلسطيني. كان الحسيني زعيماً نخبوياً ومحافظاً عارض ثورة الفلاحين الفلسطينيين عام ١٩٣٦ ضد الاستعمار الصهيوني والاحتلال البريطاني، واعتبرها خطراً على الأغنياء وأصحاب الأراضي. كما شعر المفتي، بعد أن يئس من إقناع بريطانيا بوقف دعمها للمشروع الاستعماري الصهيوني، برعب من نتائج التعاون الصهيوني ــ النازي، الذي عزّز سرقة الصهيونية لفلسطين، فسعى إلى بناء علاقات مع النازيين لإقناعهم بوقف دعمهم للهجرة اليهودية إلى فلسطين، التي كانت قد راجت من خلال اتفاق «النقل» مع الصهاينة منذ عام ١٩٣٣. وبينما اقتصر دور الحسيني، في واقع الأمر، على القيام بالدعاية لترويج الدعم للنازيين بين مسلمي شرق أوروبا والاتحاد السوفياتي عبر الإذاعة، قام المتعاونون الصهاينة مع النازيين فيما بعد، بدءاً من الخمسينيات وحتى الوقت الحالي، بالتشهير به على أنه هتلري سعى إلى الإبادة الجماعية لليهود.
تمثّل الردّ الصهيوني على كل محاولة فلسطينية لإثارة مسألة الاستعمار اليهودي بالإصرار المستمرّ على أنّ الاستعمار الاستيطاني اليهودي هو السبيل الوحيد لإنهاء معاداة السامية وحماية اليهود، وأنّ أيّ معارضة للاستعمار اليهودي لفلسطين إنما تقع تحت طائلة معاداة السامية. كما راحت إسرائيل تؤكد أنّ أيّ كلام عن استعمار الأراضي الفلسطينية واستيطانها ليس سوى محاولة لإلهاء العالم عن معاناة اليهود من اللاسامية التي تستهدفهم دون توقف.
وفي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي شهدت نهاية الدول الراعية للاسامية، شرع الصهاينة بمهاجمة اليهود في عدد من البلدان واستحضار شبح العداء للسامية في الدول التي تعارض الصهيونية. ففي العراق، قام الموساد الإسرائيلي بزرع القنابل في المعابد اليهودية والمكتبات والمقاهي في بداية الخمسينيات، التي قتلت وجرحت يهوداً عراقيين وأثارت بينهم حالة من الفزع، والشعور بأنهم مستهدفون من قبل المسلمين والمسيحيين العراقيين. تلا ذلك تعاون إسرائيل مع النظام العراقي القائم آنذاك تحت السيطرة البريطانية لتهجير اليهود العراقيين إلى إسرائيل. وعندما رفض يهود مصر الذهاب إلى إسرائيل، كلّف الموساد جواسيس مصريين يهوداً بزرع القنابل في دور السينما المصرية، ومحطات القطار، ومكاتب البريد معرضة وضع الطائفة اليهودية للخطر. وشنّت إسرائيل حرباً إعلامية على السلطات المصرية بعدما كشفت الأخيرة الخلية الإرهابية وتفاصيل عمليتها التي عرفت باسم «فضيحة لافون»، واعتقلت مرتكبيها من اليهود المصريين وحاكمتهم. ونتيجة ذلك، وصفت الحملة الدعائية الإسرائيلية جمال عبد الناصر بأنه «هتلر على النيل».
أما في الاتحاد السوفياتي ما بعد ستالين، والذي كان على النقيض من الحقبة الستالينية، مناوئاً لإسرائيل، حيث لم يكن مسموحاً لجميع المواطنين السوفيات بالهجرة، أصرت حملة دعائية إسرائيلية وأميركية ضخمة في سياق الحرب الباردة على أنّ السوفيات كانوا معادين للسامية. وقام الأميركيون والإسرائيليون بالترتيب لمنح اليهود السوفيات امتيازات خاصة غير متاحة للمواطنين السوفيات من غير اليهود عبر إجبار الحكومة السوفياتية على منحهم تأشيرات هجرة. إلا أنّ هؤلاء اليهود السوفيات الذين هاجروا (والذين أرادوا الهجرة لأسباب اقتصادية) قد آثروا التوجه إلى الولايات المتحدة مما أثار حنق إسرائيل، وأجبرها في وقت لاحق على التعاون مع الديكتاتور الروماني نيكولاي تشاوشيسكو لإعادة توجيههم إلى إسرائيل قسراً. وقد حاولت إسرائيل بالفعل، لاحقاً، تمرير تشريعات في الولايات المتحدة لمنع هجرتهم إليها، حيث أغلقت الأخيرة حدودها في وجوههم بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي، وهو ما أجبر العديد من اليهود السوفيات (تبيّن في ما بعد أن معظمهم من غير اليهود الذين تظاهروا بأنهم يهود) على التوجه إلى إسرائيل كلاجئين اقتصاديين في التسعينيات.

عالم بعد انهيار الاتحاد السوفياتي

خيّم على إسرائيل والصهيونية حزن عميق لوفاة الأنظمة المعادية للسامية القائمة والأنظمة التي يمكن أن تلعب هذا الدور جزافاً نتيجة الادعاءات الصهيونية الكاذبة، إذ إن هذه الأنظمة وفرت لهما قدرة دعائية كبيرة لتبرير مشروعها الاستعماري. لكن الحجج الصهيونية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي نفدت، كما «نفقت» الأنظمة التي يمكن أن تتهمها إسرائيل بـ«معاداة السامية». وقد أصيبت الدعاية الإسرائيلية نتيجة هذا الوضع الجديد بحالة هستيرية جامحة. ولم يعد أمام إسرائيل من أمل سوى محاولتها الحديثة عبر وصم تصريحات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد المعادية للصهيونية بأنها «لاسامية»، وبأنها تدعو إلى «إبادة اليهود الجماعية»، علها تستطيع أن تغطّي استعمارها الاستيطاني المستمرّ للضفة الغربية والقدس الشرقية. وفي حال لم تكلّل هذه المحاولة بالنجاح، استدعت السفارة الإسرائيلية في العاصمة الإيرلندية دبلن مؤخراً قوى يسوع المسيح الخارقة للطبيعة للمساعدة في التستر على الاستعمار الصهيوني المتواصل. ففي رسالة تهنئة بمناسبة عيد الميلاد بعثتها السفارة للشعب الايرلندي، عبر صفحتها الرسمية على الفايسبوك، أعلنت السفارة: لو أنّ يسوع وأمه مريم كانا على قيد الحياة اليوم لقام الفلسطينيون بإعدامهما «شنقاً» في بيت لحم، حيث سيكونان «يهوديان بدون أمن». ومن هنا تبرز حاجة إسرائيل إلى مواصلة استعمار الأراضي الفلسطينية كي تضمن أمن المستعمرين اليهود.
وبالفعل، أكد بنيامين نتنياهو، في كلمته أمام الأمم المتحدة عام ٢٠١١، أنّ المقاومة الفلسطينية للاستيطان الاستعماري اليهودي في الضفة الغربية والقدس الشرقية هي في حدّ ذاتها معاداة للسامية. وقارن نتنياهو قوانين السلطة الفلسطينية، التي تجرم التعاون مع الاستيطان اليهودي بقوانين نورمبرغ النازية، قائلاً: «هناك قوانين اليوم في رام الله تجعل من بيع الأراضي لليهود جريمة يعاقب عليها بالإعدام. هذه عنصرية. وهذا يذكرنا بقوانين نعرفها جيداً». يبدو أنّ نتنياهو قد نسي أنّ الصهاينة وليس الفلسطينيون، هم الذين دعموا النازيين عام ١٩٣٥، عندما أيدوا قوانين نورمبرغ العنصرية.
لقد استوعب الفلسطينيون جيداً هذه الحجج وما انفكوا يصرّون على أن نضالهم يستهدف الاستعمار اليهودي لأراضيهم وليس اليهود كيهود. أما تأكيد خالد مشعل، عند وصوله إلى غزة قبل أسابيع، في خطابه: «نحن لا نقاتل اليهود لأنهم يهود إنما نقاتل الصهاينة المحتلين وسنقاتل كل من يحتل أرضنا، نقاتل من يقاتلنا ويعتدي علينا ويحاصرنا ويعتدي على مقدساتنا»، فقد أساءت جريدة «الأوبزرفر» البريطانية ترجمته لتجعله: «نحن لا نقتل اليهود لأنهم يهود. نحن نقتل الصهاينة لأنهم غزاة وسوف نستمر في قتل أيّ شخص يأخذ أرضنا ومقدساتنا». ومع أن جريدة «الأوبزرفر» نشرت في وقت لاحق تصحيحاً للترجمة نتيجة العمل الدؤوب لعلي أبو نعمة الذي فضح تلاعبها بالترجمة، إلا أن ترجمتها المحرّفة الأولى كانت متماشية مع الدعاية الصهيونية.
لا تزال استراتيجية هرتزل هي ذاتها استراتيجية الصهيونية واستراتيجية دولة إسرائيل. فبينما لم يعد للدول الراعية للاسامية من وجود، تصرّ إسرائيل على اختلاقها واستحضارها من جديد، لأنّ هذا هو خط دفاعها الرئيس ضد الانتقادات الدولية لاستعمارها المستمر لفلسطين. وفي حين أنّ الأعضاء الأربعة الدائمين في مجلس الأمن الدولي وجّهوا اللوم لإسرائيل بعد أسبوعين على خططها لتوسيع المستوطنات الاستعمارية في الضفة الغربية والقدس الشرقية مرة أخرى، إلاّ أنّ الولايات المتحدة ستستخدم حق النقض ضدّ أي قرار مقترح في مجلس الأمن الدولي لإدانة هذه الأنشطة الاستعمارية. وإن حدث ذلك، فسوف نسمع على الفور موال إسرائيل المعهود والجوقة المساندة لإسرائيل بإدانة مجلس الأمن بـ«معاداة السامية» مرة أخرى.
لقد أدى انتهاء مفعول هذه الاستراتيجية، حيث لم تعد تخيف الجهات الدولية الفاعلة، إلى حالة من الذعر في الدوائر الصهيونية. وباتت إسرائيل والصهيونية تفهمان جيداً اليوم بأنّ العالم، بما فيه الولايات المتحدة (باستثناء باراك أوباما)، عندما يسمع تعبير «معاداة السامية» كحجة للدفاع عن إسرائيل، يفهم على الفور أنها تكتيك لصرف الأنظار وإلهاء العالم عن الاستعمار الاستيطاني اليهودي الإسرائيلي، وعن المستوطنات على الأراضي الفلسطينية.
* أستاذ السياسة والفكر العربي الحديث
في جامعة كولومبيا في نيويورك