لم يسرف اللبنانيون في توقعاتهم بشأن العام الجديد. حتى تمنياتهم جاءت مشوبة بالحذر والتحفظ. على شاشات التلفزة شاهدنا وسمعنا من حَمَدَ وشكر لأن الخسائر كانت محدودة، أملاً، في الوقت عينه، بأن تبقى في هذه الحدود ولا تتحول إلى مصائب أو كوارث.الحكومة لا تفوّت فرصة استثمار «الخسائر المحدودة» تلك، فتولّى رئيسها تمنين اللبنانيين بأنّ ذلك قد كان ثمرة نهجه ووجوده في الحكم. سياسة «النأي بالنفس» هي المفتاح السحري لهذا الإنجاز الخطير. الواقع أنّ تخفيف الخسائر قد نجم عن عملية (أي مجرد) إزاحة الحكومة السابقة التي كانت مرشحة لتورط أكبر (وتوريط لبنان) في الأزمة السورية. كان ذلك يدخل، يومها، في نطاق الصراع على السلطة، وعلى مواقع ومواقف السلطة بالطبع. بيد أنّ التورط، الحتمي الوقوع، من قبل الحكومة السابقة، «والنأي بالنفس»، النسبي التنفيذ من قبل الحكومة الحالية، ليسا هما من حدّد (أو كان من الممكن أن يحدّد) حجم التورط للأولى وحجم «النأي بالنفس» للثانية.
لقد اقتضت أولوية التركيز على الأزمة السورية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها عدم فتح جبهات أخرى يمكن أن تصرف الأنظار والاهتمام عن تلك الأزمة. وهي اقتضت، خصوصاً، عدم فتح جبهة لبنان لأنّ السلطة السورية ذات نفوذ حقيقي في بلدنا، ولأنّها ستتحول تلقائياً إلى لاعب رئيس في التأثير على مسار الأحداث في لبنان. هذا سيوفّر لها فرصة مزدوجة: التخفيف من وطأة أزمتها من جهة، وممارسة دور لا يستغنى عنه لمعالجة أزمة أخرى، من جهة ثانية.
قرار «تحييد» لبنان اتُّخذ، إذن، من خارج لبنان، أساساً، قبل أن تتخذه الحكومة اللبنانية. القرارات، عموماً، بشأن لبنان ومصائره لا يتخذها اللبنانيون. هي تتخذ في الخارج ومن الخارج. أما القوى السياسية التي تتصدر واجهة مؤسسات القرار، فلا تفعل، في الغالب الأعمّ، سوى الانصياع والتنفيذ مقرونين، من قبيل تأكيد الولاء، بالحمد والتسبيح عملاً بالمبدأ الذي تأمر به الآية الكريمة: «لئن شكرتم لأزيدنّكم»!
إنّ الكلام عن السيادة شيء (والكلام الفارغ أيضاً عن مؤسسات ووزارات سيادية...) وممارسة ذلك شيء آخر تماماً. ولعلّ هنا أحد أكبر أشكال تجلّي الخلل في الوضع اللبناني، أي في النظام السياسي اللبناني، أي في «الصيغة» اللبنانية التي يردد بعض المسؤولين أخيراً أنّها أعظم صيغة ديموقراطية في العالم: ما شاء الله مع دعوته، سبحانه وتعالى، لردّ الضربات عنها وعنا، خصوصاً إذا كانت على شاكلة الحرب الأهلية الأخيرة التي استمرت خمس عشرة سنة بالتمام والكمال، وتركت مئات آلاف الضحايا والمشردين والمفقودين، فضلاً عن خسائر لا تقدّر بثمن، وعن وصاية مباشرة استمرت، هي الأخرى، حوالى خمس عشرة سنة أيضاً!
الخلل في علاقاتنا مع الخارج هو الوجه الآخر للخلل في علاقتنا الداخلية. والمعالجة بالإصلاح الحقيقي تبدأ من الداخل تحديداً. والإصلاح في الداخل ومن الداخل هو العقدة التي يدور حولها الصراع تاريخياً، بين قوى التغيير من جهة، والقوى المتوسلة للطائفية والمذهبية، سبيلاً لإمرار سياساتها وبناء مواقعها وأدوارها، من جهة ثانية.
والقوى التقليدية على ضفّتي الحكم والموالاة، رغم صراعهما المرير على الحكم في هذه المرحلة، ورغم ضراوة الخلاف بينهما على الأحجام والأدوار والمواقع، يخوضان، كالعادة، ومن دون هوادة، معركة تجديد «الصيغة» العجيبة ذاتها. قانون الانتخاب هو عنوان التفجّر والتوتر في هذه الأيام، وليس، مثلاً، سلسلة الرتب والرواتب في القطاع العام. ولا يدور الصراع، حتماً، حول قانون يؤمّن صحة التمثيل. إنه صراع حول أيّ قانون يخدم هذا الفريق أو ذاك، في مسعاه من أجل زيادة كتلته وأرجحيّته في المجلس النيابي المقبل. أما تطبيق الدستور لجهة إنشاء مجلس نيابي خارج القيد الطائفي، أو تمكين الشباب والمرأة من المشاركة في الحياة السياسية، أو منع استخدام المال والسلطة في شراء الضمائر والأصوات، كلّ ذلك، لا يؤثر إطلاقاً في «أعظم ديموقراطية في العالم»، والتي هي ديموقراطية التقاسم، والمحاصصة، والمصادرة، وإثارة الغرائز، وتعزيز الولاء للخارج، وبناء الدويلات على حساب الدولة المركزية وعلى حساب الانتماء الوطني والسيادة الوطنية، فضلاً عن الحصانة الداخلية والاستقرار والتقدم والازدهار.
تتفاقم المشكلة وتكبر فواتيرها على وحدة لبنان واستقراره وسيادته، أيضاً بسبب انحسار دور القوى الوطنية الديموقراطية إلى حدود بعض الاعتراضات الاعلامية أو النقابية. ولا بأس من التكرار هنا، أنّ غياب قوى التغيير عن ممارسة دورها هو خلل وطني، قد لا يقلّ خطورة، في مرحلة من المراحل، عن الخلل الأصلي. ثمّة معادلة جدلية ينبغي أن تتبلور: الظلم، والعمل لرفع الظلم. البديل الديموقراطي في مواجهة النظام الطائفي. المشروع الشعبي في مواجهة النظام الاحتكاري، نظام البورجوازية التابعة، والجشعة، والمتوحشة، والمفرطة بكلّ القيم الوطنية والانسانية لمصلحة تعظيم الربح والنفوذ والنهب.
في سياق الحديث عن قوى التغيير يحضرنا ما قاله الدكتور خالد حدادة في آخر مقالة له في صحيفة «السفير» و«النداء» من أنّ سنة 2013 ستكون سنة المؤتمر الحادي عشر للحزب الشيوعي اللبناني. الصحيح حسب النظام الداخلي للحزب، والذي طالَبَنَا به بيان اللجنة المركزية الأخير أيضاً باحترامه (صدر قبل أيام من المقالة المذكورة)، أنّ سنة 2012 هي التي كان ينبغي أن تكون سنة المؤتمر الحادي عشر. ذلك أنّ «المؤتمر العادي يعقد مرة كل أربع سنوات، حسب المادة الـ15 من النظام الداخلي، والمؤتمر العاشر الذي انعقد في مطلع عام 2009. ومعروف أنّ الإعداد للمؤتمر يستغرق سنة على الأقل، لذلك فإنّ انعقاد المؤتمر في موعده مطلع عام 2013 كان يستدعي إعداده طيلة عام 2012. إذاً المسوؤلون في الحزب أولى بالالتزام بهذا المبدأ: لجهة موعد انعقاد المؤتمر، ولجهة احترام عمل الهيئات، ولجهة احترام دور لجان الرقابة، ومنها «الهيئة الدستورية»، ولجهة احترام مبدأ تداول السلطة (تحديد مهل تولّي «المسوؤليات» _ المادة 4 من النظام الداخلي _ البند الخامس)، وكذلك لجهة بتّ المشاكل والنزاعات بطريقة سليمة، ومن دون مماطلة أو تأخير أو تمييع (ما يدفع نحو خطر خروجها عن السيطرة أو إلى الإعلام).
إنّ احترام النظام الداخلي، أيّ دستور الحزب، هو بالنسبة إلى الحزب أو إلى أيّ مؤسسة جدّية، أمر مصيريّ، إذ إنّ الاستنساب أو التعطيل أو التهرب، هو أقرب السبل إلى التفتيت، والشرذمة، وغياب المرجعية، والغياب عن الدور التغييري الوطني. وللحديث
صلة...
* كاتب وسياسي لبناني