بالقياس إلى ما يحدث في مصر أو تونس، تبدو التجربة السورية مزرية للغاية. لا يتعلّق الأمر بحجم التضحيات ولا بالاستماتة في مواجهة النظام، بل بالقدرة على صياغة جملة تقطع قليلاً أو كثيراً مع مرجعية الشعار. كان واضحاً منذ البداية أنّ تلك الخلاصة لم تصلنا من مصر وتونس بالقدر الكافي، أو أنّها وصلت مشوّهة بفعل عوامل عديدة، من بينها عامل الزمن الذي ظهر تأثيره لاحقاً. وهذه ليست مشكلة إذا ما كان المعيار هو الصيرورة. فالأولويات دائماً متغيّرة، وتغيّرها يخضع لفعل التطوّر التاريخي الذي نقل الاحتجاجات العربية في غضون أقلّ من عامين من ضفّة إلى أخرى. المشكلة إذاً ليست في الوقائع ذاتها، بل في الوعي بها وبإمكانية الربط بين الأمرين. مثلاً كانت الأولوية الوحيدة في مصر كما في سوريا هي إسقاط الديكتاتورية. وهو شعار غير قابل للتطبيق إلا في حالة واحدة هي حالة ربطه بالواقع. والواقع في البلدين كان يحتمل أكثر من قراءة: طبقية و«طائفية». في مصر توارت الطائفية لأنها نتاج سياسي بالأساس، فيما قوربت الحالة الطبقية على نحو سطحي جعل من انفجارها لاحقاً أمرا حتمياً. أما في سوريا فلم يحصل لا هذا ولا ذاك. لقد التهمت سلطة الشعار هنا كلّ شيء. لم ينتبه السوريون إلى أنّ الشعارات التي رفعت هنا وهناك قد طويت بمجرد انقضاء الظروف التي حتّمت رفعها. في تونس مثلاً بقي الشعب يصوّب ضد النظام، لكن تصويبه غدا أنضج وأكثر قدرة على الربط بين السياسة والطبقة. ثمّة إدراك متزايد هناك للعلاقة العضوية بين مزاولة السياسة والانحياز الاجتماعي. بهذا المعنى يرتدي اليوم النضال ضد حركة «النهضة» بعداً جديداً. فالذي ينحاز اليوم ضدّها لا يفعل ذلك انطلاقاً من تموضعات سبق أن جربتها المعارضة أيّام بن علي. ومن يعاود التجريب مجدداً سيحكم على ذاته بالعطالة السياسية، لأنّه لا يعرف ماهية المخاض الذي تمرّ به تونس منذ عامين، أو كيف ينحكم الشعار الثوري لديناميات الواقع وتحوّلاته. وهذه الديناميات تقول بإنّ مروحة القوى المؤتلفة ضد «النهضة» تتّسع باستمرار، وكلّما اتسعت أكثر ازداد انخراط المهمّشين في الصراع. وهؤلاء اليوم موجودون على امتداد تونس كلّها، لأنّ «النهضة» لم تترك أحداً إلا همّشته سواء سياسياً أو اقتصادياً. حتى حلفاؤها داخل اليمين الحاكم (حزبا المؤتمر والتكتل) بدؤوا بالانفضاض عنها. وهذه علامة من علامات التفسّخ المصاحب لمزاولة السياسة من موقع طبقي. وأيّ سلطة تجرّب فعل ذلك مجدداً ستجد ذاتها في موقع مماثل لموقع «النهضة»، أي في مواجهة مجتمع نضج طبقياً، وطوّر شعاراته بما يتناسب مع مصالحه ومكتسباته وانحيازاته. وهذا ما لم يحصل في سوريا حتى الآن. فهنا لا يجد المرء هذا الوعي في كثير من الشعارات التي رفعت ضدّ السلطة، مع العلم أنّها سلطة طبقية ونهّابة «مثلها في ذلك مثل حركة النهضة». ظلّت الشعارات عندنا محكومة بوعي مفارق تجاوزه الواقع. صحيح أنّ طول أمد التجربة قد فوّت على السوريين اختبار تحوّلات هذا الأخير ــ أي الواقع ــ كما عاشها شعبا تونس ومصر، إلا أنّ التذرّع بذلك في كلّ مرة يطرح فيها سؤال القطيعة مع النيوليبرالية، سيجعلنا نعتقد أننا لم نفعل ما فعلناه إلا لنتلوّن مجدداً على الطريقتين الجورجية أو الليبية (أيهما أنسب لوضعنا يا ترى؟). وربّما أيضاً يصبح السؤال حول القوى التي تموّل عمل المعارضة المسلحة وغير المسلحة هو سؤال المرحلة على اعتبار أنّ جهد هؤلاء لم يعد منصبّاً على الأغنياء وحدهم. وكذا الأمر مع النظام ومموّليه. فتصيّد الفقراء هنا بات الشغل الشاغل للطرفين. وفي سبيل ذلك، لا يتورعون عن استخدام أسوأ أنواع الدعاية. والدعاية لا تنفصل عن الشعار، ومن يستخدمها اليوم لتبرير العنف الممارس ضد المدنيين الفقراء هو ذاته من استخدمها ضدّ النظام ومجرميه بالأمس. لا غرابة في الأمر. فالشعار عندما لا يجد حامله الاجتماعي قد يصبح عرضة لتدخّلات لا يهمّها كثيراً من يقود الثورة أو كيف يقودها. وهذان سؤالان لا يزالان مطروحين بقوة على الحراك في الداخل رغم كلّ ما حدث، ورغم انعدام إمكانية التأثير في ما سيحدث لاحقاً. بإمكان هؤلاء على الأقلّ إن لم يكونوا راغبين في مراجعة سلوكياتهم تجاه الآخرين أن يعاودوا موضعة الشعار من جديد، وخصوصاً أنّ النظام يقدّم لهم اليوم فرصة جديدة لفعل ذلك. فهو يقصف الآن على نحو متكرّر الطوابير المتحلّقة حول الأفران. لا يهمّ هنا إن كان المصطفون بحثاً عن رغيف الخبز مسلحين أو مدنيين، فالمسلّح لا يذهب لشراء الخبز بعدّته القتالية، وحتى لو فعل لا يعتبر ذلك مبرّراً لاستهدافه هو ومن معه. النظام يعرف ذلك، ويعرف أيضاً أنّ من بين من يشتري الخبز مدنيين، ومع ذلك يقصفهم بالطيران «تماماً كما تفعل» المعارضة المسلّحة عندما تختطف موالين وتطالب أهلهم بالفدية رغم علمها المسبق بفقرهم وعوزهم. بالفعل هذه لحظة فارقة. فالنظام ومعارضوه المسلحون التقيا أخيراً على وجوب ممارسة نسق «ردعي» من العنف ضدّ طبقة بعينها من السوريين. طبقة يمكنها وحدها تغيير المعادلة. النظام يعي ذلك جيداً وكذا المعارضة المسلحة من موقعهما كمستخدمين للعنف الوظيفي. وهو عنف معنيّ قبل أيّ شيء آخر بمواجهة الطبقة تلك وبتحطيم وحدتها إن أمكن. لا سبيل إلى إبقاء جذوة الحرب الأهلية قائمة هنا إلا بفعل ذلك. لنلاحظ أنّ الطبقة كتعبير عن انحياز كتلة من البشر لمصالحهم هي المفردة الوحيدة الغائبة عن النقاش في سوريا. وغيابها مرتبط بغياب الفهم للدينامية المعكوسة التي تجعل من صاحب الامتيازات والفقير المعدم طرفاً واحداً، بدل أن يكونا طرفين متناقضين. صاحب الامتياز ذاك عدو لدود للطبقات العاملة والشعبية في أيّ صراع ينشب بينهما، لكنهما هنا ــ ويا للعجب ــ متفقان على إسقاط الأسد أو إبقائه إلى الأبد! ليس غريباً والحال كذلك ألّا يتحدث أحد تقريباً في هذا البلد عن الملامح المشتركة التي تميّز عمل المافيات السورية. وهذه الأخيرة متوزّعة بالتساوي على الطرفين، أي النظام والمعارضة. ومن مصلحة كلّ طرف أن لا يأتي ذكرها في الحديث عن الأزمة، فبمجرّد الإشارة إلى وحدة الحال تلك نصبح إزاء تعريف مختلف للسياسة ولمن يزاولها. كلمة الانحياز الاجتماعي هنا هي المفتاح، والوعي بها هو صندوق باندورا الذي لا يريد أحد فتحه. ومن حاول فعل ذلك في البداية وجد نفسه وحيداً. لقد اقترح كثيرون في بدايات الحراك أن لا يكون التصويب على عائلتي الأسد ومخلوف وحدهما. فالنّهب هنا كان عاماً إلى درجة لا يمكن معها حصره أو خصخصته. وعموميته تجاوزت حدود سوريا إلى أن وصلت إلى الحلفاء السابقين في قطر والسعودية وتركيا. عندما يراجع المرء اليوم بعض الاقتراحات الخاصة بوضع رامي مخلوف والوليد بن طلال جنباً إلى جنب في مرمى التصويب الأيديولوجي يكتشف أن أصحابها لم يكونوا سذجاً. كان بالإمكان حينها البناء على اقتراحهم لولا التدخّلات التي أدركنا لاحقاً مدى ولعها بتحطيم الوحدة الاجتماعية للسوريين. ليس بالضرورة أن تأخذ الوحدة تلك شكل الانحياز الاجتماعي من موقع طبقي. قد تكون مبنية على أسس توافقية بين السوريين بوصفهم جماعات هذه المرة لا كتلاً اجتماعية. ولكن حتى الرابطة العصبوية الآن باتت مستهدفة رغم رجعيتها وفواتها التاريخي. في الماضي كانت مطلوبة جدّاً من النظام وبعض أفراده الذين انشقّوا عنه لاحقاً لوراثة امتيازاته بعد أن يسقط. أما حالياً فلم تعد تمتلك الجاذبية نفسها بعدما أدّت دورها في قوننة أوضاع استثنائية لها علاقة بالطوائف أو بالتوزيع الاجتماعي للعمل على أساس الطائفة. لقد بات الدور ذاك مختلفاً اليوم مع انتهاء العمل بالصيغة التعاقدية المشوّهة التي أرساها النظام. جلّ ما تفعله الآن ــ أيّ الرابطة العصبوية ــ هو الحفاظ ما أمكن على التماسك الاجتماعي في الأماكن المختلطة التي لم يحصل فيها بعد فرز طائفي حادّ. لكن من يقوم بذلك يفعله على مسؤوليته الخاصة، لأن التقريب بين المختلفين سياسياً في هذه المرحلة بات عملاً يستأهل العقاب أكثر من أيّ وقت مضى. يعاقب هنا الموالي الذي يحاول التواصل مع المعارضين في حيّه أو مدينته بالقدر ذاته الذي يعاقب به المعارض. أيّ محاولة للجمع بين السوريين اليوم باتت ممنوعة، حتى لو كانت مبنية على أعراف نرفضها من موقعنا كمزاولين للسياسة على أساس الانحياز لطبقة ضدّ أخرى. في السياسة، أيضاً، يسمّى ذلك بالعنف الوظيفي، ومن يقوم به طرف واحد لا طرفان. ثمّة مشكلة لدى البعض في تقبّل فكرة مماثلة. والمشكلة هنا تكمن في فهم الواقع لا في التعامل معه. هم يتعاملون ــ فحسب ــ بمنطق الممكن، وعندما يجرّبون الفهم يصطدمون بمنطق الصيرورة. وبين المنطقين يستمرّ البلد في التحلّل اجتماعياً، وفي اسلاس القيادة لأطراف مافياوية لا تعرف كيف تشتبك سياسياً (وكذا عسكرياً)، أو كيف تنظّم حرب الأهل والإخوة بعضهم ضد بعض. ومع ذلك ثمّة من لا يزال يراهن على الاستفادة من دروس الآخرين ليبقّ ما يعتبرها بحصته: الطبقات الاجتماعية أيّها السفلة... الطبقات الاجتماعية.
* كاتب سوري