يشهد العراق اليوم تدنياً في منسوب الديموقراطية، وتراجعاً في مستويات الحرية التي كفلها الدستور الجديد. ولا يكفي أن تغرق بلاد الرافدين بطوف من الصحف، والمجلات، والدوريات والفضائيات، والتلفزيونات والإذاعات المحلية للقول إنّ الحرية والديموقراطية بألف خير. فالواقع الاعلامي يلامس الفوضى، ويكاد يتحوّل إلى نوع من البابلية. والأدهى أنّ الطاقم الحاكم بات يضيق ذرعاً بالرأي الآخر، مشيراً إلى أنّ كل تعرّض له يعني التعرّض للوطن والمقدّسات.
ففي وثيقة صادرة عن الدائرة القانونية في الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي العدد: ق/2/2/106/42/42/00344 بتاريخ 17/12/2012، وتحت بند «سري وعاجل»، وجّه رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي طرح مضمون وثيقة ـــ رسالة على رئاسة المجلس النيابي ليضعه «أمام مسؤوليته الوطنية» في موضوع «حصانة السادة النواب»، وذلك «نظراً للمارسات اللادستورية من قبل بعض أعضاء مجلس النواب».
وتفسّر الدائرة القانونية في الوثيقة الصادرة عنها نصّ المادة 28 من الدستور العراقي، بالقول إنّ كفالة هذا الدستور لحرية التعبير مقيّدة بعدم الإخلال بالنظام العام والآداب، لتنتقل إلى اعتبار أنّ «ما يعرض عبر شاشات التلفزيون من تصريحات، ولقاءات، وندوات لأعضاء مجلس النواب، التي تتناول بالتحريض والقذف والتشهير بالرموز السياسية والمسؤولين في الدولة، أمور تخلّ بالآداب العامة، وقد تثير الاضطرابات وتؤثر سلباً في النظام العام». وحصرت الوثيقة حصانة النائب بما «يدلي به من آراء يعبّر فيها عن مسؤوليته النيابية في المناقشات التي تطرح في اجتماعات المجلس، في كل ما يتعلّق بشؤون التشريع والرقابة». وتذهب الوثيقة بعيداً في الاجتهاد عندما تشير إلى الآتي: «أمّا إذا كانت هذه الآراء خارج اجتماعات المجلس وخارج الجو الجماعي والمسؤولية الجماعية لأعضاء مجلس النواب، فإنها غير مغطاة بالحصانة، لأنها لا تأتي بشيء ايجابي، ولا تكون منتجة في اتخاذ قرار معيّن». وقد استندت «الوثيقة» في تفسيرها للحصانة وحدودها إلى المادة 63 من الدستور، مشيرةً إلى أنّ نصّها صريح في «اقتصار حصانة عضو مجلس النواب على ما يدلي به من آراء اثناء دورة الانعقاد». ولعلّ أخطر ما أوردته الوثيقة هو التالي: «أما بشأن اللقاءات والندوات التي تعرض في وسائل الإعلام المختلفة لبعض أعضاء مجلس النواب، والتي غالباً ما توجّه فيها الاتهامات الصريحة للمسؤولين في الدولة، وأحياناً تنزل إلى مستوى أدنى من ذلك، فإنها غير مغطاة بالحصانة النيابية، والدليل على ذلك نص المادة 63/2 من الدستور، التي أجازت القبض على عضو مجلس النواب خلال فترة الانعقاد إذا كان متّهماً بجناية، أو إذا ضبط متلبساً بالجرم المشهود في جناية...». واتخذت الدائرة القانونية من هذا التفسير منصّة لبلوغ هذا الاستنتاج، الذي يحمل في طياته غير علامة استفهام حول مقاصد من أوعز إلى الدائرة بإعداد «الوثيقة ـــ الرسالة»، وذلك من خلال إيراد الآتي: «إن تصريحات بعض أعضاء مجلس النواب على شاشات التلفزيون تتضمّن أحياناً جرائم تضعهم تحت المسؤولية والعقاب، مثل جرائم القذف والتشهير بحقّ المسؤولين في الدولة، وجرائم تهييج الرأي العام ضد الحكومة ورموزها، مما تعدّ في صنف جرائم التحريض على ارتكاب جرائم معيّنة». وفي أغرب ما يمكن أن يذهب به خيال كاتب هذه الوثيقة، اعتبار أنّ ما يقوم به بعض النواب «يثير كراهية وسخط المواطن على النظام البرلماني، فيشعر كأن هذا النظام يكفل أساليب السباب والشتائم، ويحمي البرلمانيين من ملاحقة القانون. فضلاً عن كونها أفعالاً جرمية تعرّض مقترفيها لطائلة المسؤولية والعقاب».
يتبيّن من هذه الوثيقة ـــ الرسالة، الموقّعة من الأمين العام لمجلس الوزراء العراقي علي محسن اسماعيل، أنّ رئيس الحكومة نوري المالكي قرّر منازلة من ينتقده من النواب، ويعارض سياسة حكومته، بالاستناد إلى تفسير دستوري يبيح له تجاوز حصانة هؤلاء وإلقاء القبض عليهم، ومحاكمتهم باعتبارهم محرّضين على ارتكاب جرائم معيّنة. فيما الحصانة النيابية لا ترفع عادة عن أيّ نائب إلّا في حالات الخيانة العظمى، وارتكاب جناية في حال ثبوتها. وهل مخالفة رأي الحاكم في أيّ موقع من مواقع المسؤولية، وفي أيّ نظام من الأنظمة (برلمانية، رئاسية) تدرج في خانة الجناية؟ والواضح من هذه الوثيقة ـــ الرسالة احراج رئيس المجلس النيابي، وتسليط سيف «ديموكليس» فوق رؤوس النواب بغية تطويعهم وحملهم على مهادنته.
إنّ التفسير الذي أعطي للحصانة النيابية ينسف كفالة الدستور العراقي لحرية الرأي والتعبير، كما أنّه يجوّف الدستور من مضمونه، وكان الحريّ بواضع هذه الوثيقة أن ينظر إلى النصّ الدستوري كوحدة متكاملة، فلا يعمد إلى تجزئته واختيار ما يلائم المرامي التي يسعى إليها، كما كان حريّاً به أن يحافظ على روح الدستور بدلاً من التشبّث الحرفي بعبارات تعمّد فصلها عن سياقها
العام.
إن الوثيقة ــــ الرسالة هي مشروع مشكلة جديدة تضاف إلى المشكلات المتراكمة التي تنوء تحت ثقلها بلاد الرافدين. وإنّ ما ورد فيها من بنود يعكس أدبيات المرحلة «الصداميّة» ويمهّد لـ«توتاليتاريّة» بعناوين مختلفة عن السابق.
إنّ المالكي يجيد سياسة «العصا والجزرة»، ويقرأ في كتاب مَن حكم العراق قبله، مستوعباً كل الفنون التي تخوّله أن يحصر السلطات في يديه، متجاوزاً الدستور بمثل التعليلات الواردة في وثيقة «الدائرة القانونية» المكتوبة بلغة مشوّشة.
غاب «صدام» لكن «ملائكته» حاضرة...
* كاتب لبناني