تستمرّ الأزمة الوطنية في العراق تعقّداً، ولا سيّما بعد العارض الصحي المؤسف الذي ألمّ برئيس الجمهورية جلال الطالباني، الذي كان قد نجح إلى حدّ كبير في احتواء الأزمة مجدداً، وفي إعادتها إلى سكة الحلّ عبر اعتماد الحوار وفق أسس الدستور والشراكة والاتفاقات المعقودة سابقاً بين مختلف الأفرقاء. وبعد التأزم الذي ألمّ بالعلاقة بين بغداد وأربيل على خلفية التوتر العسكري في المناطق المتنازع عليها، عاد إلى الواجهة الاستقطاب السنّي ـــ الشيعي على خلفية تحركات مطلبية وتظاهرات في مختلف المحافظات السنية، وخاصة في الأنبار ونينوى وصلاح الدين. ورغم أنّ التظاهر والاحتجاج السلمي المدني حق مشروع ومكفول بطبيعة الحال، إلّا أنّه سرعان ما جرى حرف وجهة التظاهرات تلك نحو منحى طائفي، ولا سيّما أنّها محصورة في المناطق العربية السنية، كما أسلفنا، رغم المحاولات الفاشلة من قبل بعض منظمي هذه التظاهرات لإقحام الطرف الكردي في هذه اللعبة الطائفية المقيتة عبر رفع بضعة أعلام لإقليم كردستان في الأنبار، فيما المحك ليس في انفتاح مصلحي تكتيكي على الأكراد بقدر ما هو في اتخاذ مواقف مبدئية ثابتة من القضية الكردية وعدالتها، ولا سيّما أنّ القيّمين على هذه التظاهرات هم التيارات السياسية الأكثر تشدداً وتعنتاً في ما خصّ القضية الكردية في العراق، وخاصة مسألة المادة 140 من الدستور الخاصة بحلّ ملف المناطق التي استقطعت من كردستان إبّان العهد البعثي. لكن هذه المحاولة المثيرة للضحك الأسود، حين يرفع علم كردستان إلى جانب صور صدام حسين، لم تنجح طبعاً في زجّ الأكراد في معمعة هذا الاحتقان الطائفي، الذي يتغذى على التفجر الأكبر في العلاقات السنية ـــ الشيعية على صعيد المنطقة ككلّ، من باكستان إلى البحرين والسعودية وصولاً إلى لبنان. وتداخل الأدوار التركية والسعودية والإيرانية ليس للسعي إلى تحويل العراق إلى ساحة حرب بالوكالة مجدداً، وهو الذي بالكاد يلملم جراحه ويحاول الخروج من تداعيات الحرب الطائفية المقيتة التي عصفت به بعيد سقوط النظام السابق.ولعلّ الخطر الأكبر هو في انتعاش تنظيم القاعدة مجدداً، ولا سيّما أنّه بات حقيقة شاخصة في سوريا عبر كتائبه العديدة، وعلى رأسها جبهة النصرة الإرهابية. هذا ما قد يشجعه على العودة إلى الملعب العراقي من البوابة السورية. وليس سراً أنّ معظم المناطق المتاخمة للحدود مع سوريا تضم بيئة اجتماعية متعاطفة مع المعارضة السورية المسلحة لاعتبارات طائفية. إنّ محاولة ركوب موجة السخط والاستياء الشعبي، وسط العرب السنّة، من قبل بقايا البعث وبعض التيارات الصدّامية، التي ربما تعتقد أنّ بامكانها إعادة عجلات الوقت إلى الوراء، عبر النفخ في نار الأحقاد والضغائن واثارة الفتن الطائفية والقومية مما كان، ولم يزل، ديدن هذه التيارات العروبية الاسلاموية في العراق وغير العراق من بلدان العالم العربي المبتلية بها. ولعلّ ترداد شعارات عنصرية متخلفة في التظاهرات لا يمت بصلة لأيّ حراك ديموقراطي متحضر يرنو إلى التصويب والتصحيح، بل هو سرعان ما تسبب في ردود أفعال عبر قيام تظاهرات مضادة في المحافظات الشيعية.
وهنا، الطرف الكردي كان وسيبقى بيضة القبان في ميزان المعادلة الوطنية العراقية بوصفه قوة وازنة ومرجحة لكفة الخيار الديموقراطي الفدرالي التعددي، وسط تصاعد الخيارات الطائفية ومحاولات إعادة انتاج الدكتاتورية، إن من طرف بعض القوى النافذة في الطبقة السياسية الحاكمة في بغداد، أو من قبل بعض الأطراف ذات الهوى البعثي، التي ربما تتوهم أنّ بامكانها إعادة عقارب الساعة العراقية إلى الزمن الصدّامي المنقرض والآفل.
الأكراد وإن كانوا على خلاف مع حكومة المالكي، ومع نزوعه المطرد نحو الفردية، ومحاولاته إعادة احياء المركزية السلطوية مفهوماً وممارسة، إلا أنّهم قطعاً لن ينزلقوا نحو خيارات عدمية مضادة لمصلحتهم ومصلحة العراق ككل، كالتحالف مثلاً مع تيارات قومجية عروبية متدثرة بلبوس اسلاموي. الموقف الكردي العقلاني الوسطي، ومقارباته الوفاقية خير شاهد على نجاعته وصوابيته، وهو الحريص على اعتماد خيارات توافقية عقلانية ودستورية لحلّ أزمات العراق المعقدة والمتشابكة مع غير ملف اقليمي متفجر يمثل محط اجماع سياسي وشعبي كردي، إن عبر موقف القيادة السياسية الحاكمة في الإقليم، أو حتى عبر موقف المعارضة الكردية التي أكدت في اجتماعها الأخير توافقها مع سياسات حكومة الاقليم على ضرورة أن ينأى الأكراد بأنفسهم عن التورط في أي صراع طائفي سني ـــ شيعي، إن في العراق أو الإقليم الشرق الأوسطي ككل، الذي باتت تلوح نذره المشؤومة مع الأسف في بلاد الرافدين على وقع التأزم المذهبي العام.
*كاتب كردي