لا تمزح مع زياد نجيم. قال على شاشة «إن.بي.إن.» قبل أيّام: «النجاح وصبّاتي على نفس المستوى». ونجيم واثق من تفوّقه على سائر البشر، ولا يرى أنّه أخطأ في حياته باستثناء إصراره على النقاء من خلال عدم الانجرار وراء تخلّف المجتمع الذي يعيش فيه _ كما قال _ لأن ذلك صعّب عليه الحياة. ونجيم، مثله مثل كثيرين في لبنان، يعيش في تخبّط فكري حول طبيعة أيديولوجيّته السياسيّة وتصنيفها. وهذا ينطبق عليه وعلى كثيرين (حتى في أميركا، يخلط الناس بين الأيديولوجيات ولا يميّزون ما بينها، ربّما لأنهم عاشوا طويلاً في ظلّ حكم حزبيْن فقط). ومحمود عبّاس يشير إلى أيديولوجيّته على «فايسبوك» بـ«الليبرتاريا»، مع أنّ أياً من سمات الفكر الليبرتاري لا ينطبق على سنوات حكمه وحكم أجهزة استخباراته التي تأتمر بأمر أميركا والعدوّ الإسرائيلي. والكل في لبنان بات ليبرالياً، حتى الفاشيّون والقابعون في مضارب آل سعود وآل نهيان. ما الغرابة في أن يكون نجيم ليبرالياً إذا كان محمد دحلان ليبرالياً أيضاً؟ ونجيم يلهج بحمد الحريّة على الطريقة اللبنانيّة الفولكلوريّة، كما وردت في أنشودة الرحابنة (عن أن الحريّة هي «زهرة ناريّة» أو «طفلة وحشيّة» وكلام آخر لا معنى سياسياً أو فلسفياً له)، أو كما وردت في كتابات جبران خليل جبران. يكفي أن يقول نجيم «مساء الحريّة» كي تقتنع بجديّة التزامه بالحريّة. ولا ضرورة لتعريف الحريّة في لبنان، أو لتوضيح ماهيّتها، إذا ما كانت «حريّة سلبيّة» أو «حريّة إيجابيّة»، بتعريف المفكّر البريطاني إزايا برلين. وليس هناك في الفهم المُبتذل لليبراليّة تمييز بين الليبراليّة الكلاسيكيّة (أو الليبرتاريّة) والليبراليّة الحديثة المعاصرة. الكلام الإنشائي عن الحريّة سهل، وأسهل منه النطق باسم الحريّة، خصوصاً من قبل أنصار الميليشيات الفاشيّة في لبنان. ويريد نجيم أن يظهر مقبولاً كمفكّر متفوّق على العامّة، فيكثر من الاستشهاد بمقالة لجبران وبفيلسوف ألماني يسمّيه «نِيتْشْ» (وهو على الأرجح غير رفيق النتشة، المسؤول في «فتح»).
ولكن كيف يمكن مَن يدّعي مناصرة الحريّة بشدّة أن يدافع عن ممارسات ميليشيات اليمين الفاشي في الحرب الأهليّة اللبنانيّة؟ هذا ممكن بسبب ما يُسمّى في علم النفس «نشاز الإدراك» أو «نشاز الوعي»، أي حمل فكرتيْن متناقضتيْن في رأس الإنسان. ولكن يمكن تفسير ذلك بطرق أخرى: قد يكون نتيجة تخبّط في الفهم أو بسبب الوعي المزيّف، بالمفهوم الماركسي. وهناك في تيّار الحريري الطائفي _ المذهبي وفي أحزاب اليمين الفاشي من يظنّ أنه يحمل الفكر الليبرالي عينه، كما أن زاعقي الوهّابية يزعمون أنهم يمثّلون الإسلام الوسطي. أما أبواق أمراء آل سعود الذين يتشدّقون بالليبراليّة ويسكتون عن قطع الرؤوس في الساحات العامّة في الرياض، فهؤلاء شأنهم تجاري صرف.
أما مناسبة الكلام عن نجيم فهي برنامج سياسي له على محطة «أو.تي.في.» بعنوان «محامي الشيطان». وكلمة شيطان تثير الريبة في لبنان لأنها تُستعمل دائماً للإشارة إلى إسرائيل (ومن دون إبداء العداء لها). نتذكّر أنّ بيار الجميّل، وابنه بشير، وكميل شمعون، كانوا دوماً يهدّدون بالتحالف «مع الشيطان» (في إشارة غير مبطّنة إلى العدوّ الإسرائيلي) في الوقت الذي كانوا متحالفين معه مُسبقاً. ويتوجّس المرء من عنوان البرنامج أيضاً لأن نجيم، بالرغم من نقده للفكر الديني، لا يثني في المسيحية إلا على فكرة «أحبّوا أعداءكم». لماذا تستهويه فكرة محبّة الأعداء، دون غيرها، لعمري؟ وبرنامج «محامي الشيطان» يغطّي رواية الحرب الأهليّة، أو هكذا يزعم. (وهذا كان البرنامج الثاني لنجيم على محطة «أو.تي.في.» بعد برنامج سابق كان يُفترض فيه أن يحاور عادل مالك، لكن الأخير لعب دور المُستمع الصبور فقط).
لا يمكن المرور سريعاً على موضوع رواية الحرب. ليس هناك من رواية واحدة للحرب الأهليّة، ولكن هناك رواية سائدة عن الحرب الأهليّة. نجح الفريق الكتائبي في فرض رواية فريق بشير الجميّل المُتحالف مع العدوّ الإسرائيلي (وإن كان سمير جعجع حاول أن يقنعنا أخيراً بأنّ تحالفه مع إسرائيل كان محض تجاريّ) خصوصاً بعدما اعتنق الفريق الحريري في إعلامه وخطابه السرديّة الكتائبيّة للحرب بعد اغتيال رفيق الحريري. ولهذا، يجب استهلالاً التشديد على بديهيّات في رواية الحرب، تتناقض مع الرواية السائدة التي يحاول نجيم أن يروّج لها في برنامجه، ومن دون سؤال ولا تفنيد أو ردّ.
أولاً، إنّ الدولة اللبنانيّة بأجهزتها كلّها أعدّت للحرب الأهليّة وشاركت فيها منذ ما قبل عام 1973، وبالنيابة عن إسرائيل وأميركا. إن جهاز استخبارات «جول بستاني» كان فرعاً لتنفيذ السياسات الأميركيّة _ الإسرائيليّة في لبنان. وقد رعى بستاني هذا إنشاء تنظيمات ميليشياويّة قبل النشوب الرسمي للحرب (مثل تنظيم «التنظيم» و«حرّاس الأرز») وذلك للقضاء على مقاومة إسرائيل في لبنان، ومن أجل الحفاظ على الدور الطائفي والإقليمي الوظيفي للدولة اللبنانيّة (كما يقوم «فرع المعلومات» في لبنان اليوم بمهمّة محاربة مقاومة إسرائيل في لبنان، وذلك بتسليح وتمويل خارجيين _ وخارج نطاق الموازنة اللبنانيّة). كان جهاز الدولة اللبنانيّة متواطئاً مع الاستخبارات الإسرائيليّة في ملاحقة قادة المقاومة في لبنان. إنّ الطرد الذي انفجر في مجلّة «الهدف» قبل الحرب كان قد مرّ على أجهزة الدولة لاكتشاف المتفجّرات، مثلاً.
ثانياً، لم يكن البعد الفلسطيني في الحرب الأهليّة هو المُقرِّر في نشوب الحرب. على العكس، كانت قيادة منظمة التحرير تحاول النأي بنفسها عن مجريات الحرب، وكانت قيادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة و«التجمّع الإسلامي» الطائفي يضغطان على منظمة التحرير من أجل انخراط أكبر في الحرب. إنّ اندلاع الحرب في لبنان كان بين لبنانيّين ولبنانيّين آخرين، وينسى مختلقو رواية السرديّة الكاذبة للحرب حول خوض «المُآومة اللبنانيّي» حرباً ضد التوطين أنّ الكتائب، ومن لفّ لفها في الفريق الإسرائيلي، قتلت من اللبنانيّين أكثر بكثير مما قتلت من الفلسطينيّين.
ثالثاً، إنّ عدداً كبيراً من اللبنانيّين ومن مختلف الطوائف انضوى في صفوف التنظيمات الفلسطينيّة المسلّحة، ويجب على أساس ذلك اعتبار خوض بعض المنظمات الفلسطينيّة الحرب جزءاً من الصراع اللبناني البحت. من عرف قرى الجنوب اللبناني، أواخر الستينيات والسبعينيات، يذكر _ وتذكر _ أن أهلها كانوا يتوزّعون بين قوى اليسار اللبناني وتنظيمات الثورة الفلسطينيّة.
رابعاً، إنّ أحزاب اليمين الفاشي في لبنان («الكتائب»، «الأحرار»، «حرّاس أرز»، «التنظيم»، «الرهبانيّات»، و«القوّات اللبنانيّة» في ما بعد) هي التي أشعلت الحرب بإرادة إسرائيليّة وظيفيّة، وهي التي أبقت الحرب مشتعلة لتمهيد الطريق إلى الاجتياح الإسرائيلي الشامل عام 1982. أحزاب اليسار لم تكن مستعدّة للحرب، ولم تكن مؤهّلة لها (تسليحاً واستخبارات وتنظيماً _ وهذا يُحسب ضدّها ويتحمّل كمال جنبلاط وحليفاه محسن إبراهيم وجورج حاوي المسؤوليّة الكبرى عن ذلك).
خامساً، إنّ علاقة حزب الكتائب والبطريركيّة المارونيّة بالعدوّ الإسرائيلي سبقت سنوات الحرب ببضعة عقود (يروي يوآف جلبر في دراسة بعنوان «إرث شارون» التي قدّمت في مؤتمر الدراسات الإسرائيليّة في أيّار 2006 أن تحييد جيش لبنان في حرب 1948 لم يكلّف إسرائيل أكثر من «بضعة آلاف من الجنيهات» تلقّتها البطريركيّة المارونيّة في اتفاق تمّ بينها وبين بن غوريون في حزيران 1947). كلّ ما يُروى عن أنّ «الاستعانة» بإسرائيل حدثت بسبب حاجة الفريق اليميني إلى السلاح بعد نشوب الحرب هو كلام دعاية إسرائيليّة، لا غير.
سادساً، كان موضوع فلسطين موضوعاً اختلافيّاً بين اللبنانيّين آنذاك، وكان هناك صراع محتدم بينهم حول السياسة الخارجيّة اللبنانيّة. هذا لا يعني أنّ الوجود الفلسطيني هو الذي أشعل الحرب. كان هناك خلاف مستعر بين اللبنانيّين أنفسهم حول الدور الواجب للدولة في الصراع العربي _ الإسرائيلي وحول حق المقاومة الفلسطينيّة في تحرير فلسطين، وكان اتفاق القاهرة تتويجاً لإرادة شعبيّة لبنانيّة.
سابعاً، كثيراً ما يُثار في إعلام أتباع الصهاينة في لبنان (كما في إعلام الصهاينة في الأردن قبل مجازر أيلول وبعدها) مسألة إقامة حواجز في الشوارع في لبنان وفي الأردن من قبل المنظمات الفلسطينيّة. نستطيع أن نقول اليوم، بناءً على اختراق الاستخبارات الإسرائيليّة للمجتمع والدولة في لبنان، وبناءً على تعدّد الاغتيالات والسيّارات المُفخّخة ضد مواقع فلسطينيّة، إنّ التنظيمات الفلسطينيّة كانت محقّة في الحواجز التي أقامتها في مدينة عشّشّت _ ولا تزال تعشّش فيها _ الاستخبارات الإسرائيليّة العدوّة. كان على تلك التنظيمات أن تقيم حواجز أكثر، وكان عليها أن توقف وتحجز عملاء إسرائيل في صفوف التنظيمات الفاشيّة في المنطقة الشرقيّة من لبنان. هي تلام لأنها تساهلت، ولأنها أطلقت سراح بشير الجميّل بعد اعتقاله.
ثامناً، إن طابع الحرب الطائفي أشعله حزب الكتائب اللبنانيّة من خلال القتل والخطف الطائفي، ومن خلال عمليّات التهجير الطائفي العنصري. المرحلة الأولى من الحرب الأهليّة (1975 _ 76) كانت طائفيّة في جانب واحد فقط. صحيح أنّه كان هناك وجود لتنظيمات طائفيّة إسلاميّة، لكنها كانت ضعيفة وكان دورها محدوداً جدّاً. لكن الطائفيّة تفشل في العيش في مناخ أحادي، إذ إنها تخلق ديناميكيّة جدليّة تسمح لها بالديمومة. وعلى هذا المنوال، فإن البعد الطائفي في المقلب الآخر ازداد أواخر السبعينيات، وبات الجنوب يجنح نحو «أمل» بدلاً من التنظيمات اليساريّة والعلمانيّة التي كانت تستقطب التأييد الأكبر في المرحلة الأولى من الحرب. في يومين فقط عام 1976، تمت تصفية كل القوى العسكريّة لحركة «أمل» وغيرها من التنظيمات الموالية للنظام السوري في المنطقة الغربيّة.
كل هذه الحقائق تغيب عن برنامج نجيم. على العكس، ينحاز في طبيعة برنامجه وطبيعة اختياره للضيوف. كيف يختار الحرّ نجيم ضيوفه؟ يعتمد على أسلوب فاضح في انحيازه: يأتي بمقاتلين سابقين من «الكتائب»، و«حرّاس الأرز»، و«الأحرار»، ويعلنون صراحة أنهم يفخرون بتجربتهم القتاليّة في الحرب. وفي المقابل، لا يأتي نجيم بمقاتلين من الحركة الوطنيّة ممن لم يندموا على أفعالهم. على العكس، أدار قبل أسبوع حلقة دعا فيها كاتبيْن في نشرة الحريري العائليّة (يوسف بزّي الذي يقول باستمرار إنّه كان «أزعر» في الحرب، ويحيى جابر، الذي يقول إنه كتب «ملحمة شعريّة» عن رفيق الحريري). يرى نجيم أنّ الرجليْن يمثّلان الفريق اليساري المُتحالف مع المنظمّات الفلسطينيّة في سنوات الحرب. إن تمثيل الرجليْن للفريق اليساري المتحالف مع المقاومة الفلسطينيّة يماثل الإتيان بإميل رحمة (اليوم) لتمثيل فريق القوّات اللبنانيّة في سنوات الحرب. وفي حلقات سابقة استضاف نجيم من يخجل بانتمائه ذات يوم إلى اليسار أو إلى الحركة الوطنيّة اللبنانيّة. ما هكذا يستقيم التوازن إلا في محطة «فوكس» اليمينيّة، والتي يبدو أن نجيم نهل من مدرستها في الإعلام الرجعي.
أما عن الفريق الفلسطيني، فهو يسمح أحياناً بظهور ممثّليهم على برنامجه. لكنّ عداءه العنصري للشعب الفلسطيني يظهر في طريقة تعامله مع الضيوف الفلسطينيّين وفي نبرة خطابه معهم. فهو لا يسمح لهم بالكلام، ولو تكلّموا، يُسكتهم بسرعة، ويدعو المتحدّثين «الكتائب» و«الأحرار» إلى إطلاق شتّى الاتهامات والأكاذيب ضدهم ومن دون ردود مقابلة. ما كان على سهيل الناطور وعلي فيصل أن يقبلا الظهور في برنامجه المهزلة هذا.
وفي حلقة أخيرة. تكثّفت المزاعم والأكاذيب. ظهر فيها حبيب يونس، المُقاتل «السابق» في «حرّاس الأرز»، والذي دافع عن الشعارات العنصريّة ضد الشعب الفلسطيني وزعم بصفاقة أن تلك الشعارات لم تكن إلا ردّاً على خطاب أبو إياد الذي جاء فيه الكلام عن طرق تحرير فلسطين. لكن خطاب أبو إياد (والذي أسيء قصده وتمّ تحويره عن قصد من قبل جريدة «النهار» العريقة في الطائفيّة) لم يسبق إطلاق «حرّاس الأرز» لشعاراتهم، ولم يسبق العلاقة بين العدوّ الإسرائيلي وتنظيمات اليمين الفاشي. هذا تزوير لتاريخ معاصر، وهو أصعب من تزوير تاريخ غابر وسحيق (مثل التاريخ الفينيقي مثلاً).
كذلك فإنّ الحديث عن مجزرة تل الزعتر جرى فقط من وجهة النظر الكتائبيّة، وأصرّ نجيم فيه على الإشارة فقط إلى عدد القتلى في صفوف الكتائب (وكانوا من المُقاتلين طبعاً لا من المدنيّين) ومن دون ذكر آلاف الضحايا من المدنيّين. وقد سقطت أكثر من 50000 قذيفة على المخيّم (ونشطت مدفعيّة الجيش اللبناني بإمرة ميشال عون _ الذي كان حليفاً سريّاً مُبكّراً لبشير الجميّل في سنوات الحرب، وهذا جانب لم يُكشف بعد عن الحرب _ في دكّ المخيّم الآهل آنذاك). ولم ترد في البرنامج المذكور الإشارة إلى الجرائم الفظيعة التي ارتُكبت في المخيّم، مثل تعرّض نحو ألف شخص (بعد سقوط المخيّم) _ وفق سرديّة سمير قصير في تأريخه للحرب _ للقتل العشوائي وتعرّض نساء للاغتصاب. (من المُلاحظ أن نجيم، الحريص على السمعة «البطوليّة» لميليشيات اليمين، قلّل من خسائر المقاتلين الانعزاليّين بدرجة كبيرة).
أما في ضبيّة، فقد زعم نجيم أنّ المخيّم لم يسقط في قتال لأن سكانه من المسيحيّين. أما في الحقيقة، فإن المخيّم تعرّض _ مثل تل الزعتر _ لحصار خانق وقصف عنيف، ولم يسقط إلا بعد قتال استمرّ لأيّام، وذهب ضحيّته 30 من خيرة مقاتلي الفصائل الفلسطينيّة. لكن الرواية السائدة عن الحرب اختلقت رواية أخرى عن المخيّم المذكور.
وكان ملحوظاً في البرنامج أنّ المقاتلين السابقين في «القوّات»، و«الأحرار»، و«الحرّاس» يُسمح لهم بالحديث كالأبطال، فيما كان المقاتلون السابقون في الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة يُعْرَضون كمجرمين بحاجة إلى تلاوة فعل الندامة والتوبة قبل البدء بالحديث. وكان قَتَلَة «الكتائب» و«الأحرار» يتحدّثون عن مجازرهم في تل الزعتر من دون وجل وعلى الطريقة الإسرائيليّة: كأن المخيّم لم يكن آهلاً بالسكّان، لا في تل الزعتر، ولا في جسر الباشا، ولا في ضبيّة. وعندما اعترض أحد الضيوف مُذكّراً بفتح زجاجات الشامبانيا في مجزرة الكرنتينا والمسلخ (تتستّر الرواية الكتائبيّة دوماً على المجازر التي اقترفتها ضد مسلمين لبنانيّين وضد مسيحيّين لبنانيّين، وذلك لتناقض تلك الجرائم مع سرديّتها الكاذبة)، عاجل نجيم بالاعتراض قائلاً إنّ زجاجات شمبانيا قد فُتحت أيضاً في معركة الفنادق. لكن نجيم المُستعجل للترويج للدعاية الكتائبيّة نسي أننا نذكر أن معركة الفنادق كانت معركة بين مقاتلين، ولم تجر ضد المدنيّين مثل جرائم القوى الانعزاليّة في المسلخ، والكرنتينا، والنبعة، وحارة الغوارنة، وتل الزعتر، وجسر الباشا، وضبيّة. كانت معركة الفنادق تجري في فنادق مهجورة في مناطق مهجورة وبين مقاتلين من الطرفيْن (هرعت القوى اللبنانيّة في طرف بيروت الغربيّة إلى المقاومة الفلسطينيّة تستنجد بها مع أن حركة «المرابطون» الاستعراضيّة سمحت لنفسها بسرقة الأضواء، والادّعاء أنها هي التي حرّرت الفنادق من القوى الانعزاليّة (كان إبراهيم قليلات، بالرغم من فساده وجرائمه، بارعاً في الدعاية السياسيّة والإعلام).
وحتى في مجزرة «السبت الأسود»، التي كان بشير الجميّل بطلها بلا منازع، حاول نجيم التقليل من وطأتها عبر الحديث عن قتل جرى في المقلب الآخر (دون أن يذكر أن القتل كان بنسبة واحد إلى مئة).
هذا لا ينفي أنّ جرائم طائفيّة لم ترتكب على المقلب الآخر. لقد ساهم الحزب التقدمي الاشتراكي، مثلاً، مساهمة كبيرة في سجلّ جرائم الحرب الطائفيّة، كما أنّ قوى إسلاميّة لبنانيّة وعصابات مرتبطة بالنظام السوري ارتكبت جرائم في الدامور، والعيشيّة، وشكا وفي مناطق أخرى من لبنان. ولكن حتى في الدامور، فإن القوى الكتائبيّة كانت هي التي تستسهل ارتكاب الجرائم على الطريق الساحلية كلما طاب لها. أما في الثمانينيات، فقد خلت الساحات في لبنان للقوى الطائفيّة من كلّ المذاهب والأديان كي ترتكب الفحشاء الطائفيّة من كل نوع وطراز.
كل هذا يغيب عن سرديّة زياد نجيم الذي يظنّ أن استشهاداته المتفرّقة (وغير الضروريّة) بهذه الصفحة أو تلك من هذا الكتاب أو ذاك تكفي لمحو انحيازه الفاضح والمفضوح للقوى الفاشيّة في الحرب. لم يمرّ قرن بعد على تلك الحرب، وهناك من عاصرها ومن يشاهد برنامجه الدعائي عنها. لكن احتكار القوى الفاشيّة للسرديّة السائدة عن الحرب الأهليّة يجب أن تلام عليه تلك القوى، وقيادات الحركة الوطنية اللبنانية التي تساقطت الواحدة تلوَ الأخرى، كما أن محسن إبراهيم، في اعتذاره الممجوج، أدّى خدمة كبيرة لتلك السرديّة عينها، درى أم لم يدرِ.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)