البربريات الجديدة المخيفة اليوم بتوحشها، الداعية إلى افتراس الآخر ترعبك. فهي لا تنبع من إيديولوجيات فكرية فلسفية تخضع لجدلية العقل وحركة الفكر الناقد والمتجدّد، بل من توهمات دينية ساذجة سلفية تدعي الينبوعية المقدسة والدينية والاستناد إلى قدسية النص الديني. لكنها بالحقيقة هي إسقاطات ظلامية للعقل النقدي ولنفسية سيكولوجية معقّدة مكبوتة جنسية ومريضة كافرة، لا علاقة لها بقراءة النص المقدّس وخصوبة دلالاته وفيْض معانيه مع مرّ الأيام، واختبارات الناس والمجتمعات في محيطها الثقافي وبيئتها الجغرافية ومعرفية العقل ونصرانية العرفان، وتجلياته في مفهوم الفن، والثقافة، والحضارات، والجغرافيا. خطرها أنها تتوجه إلى أناس أصابهم الهلع أمام خلاصهم، ومعنى حياتهم ومصيرهم، وقلق وضعهم الروحي والبشري. استغله بعض الشراح الجهلة والعلماء الأميين الروحانيين، وتفككت آليات الدفاع النفسي عندهم. هذا القلق أصبح مرضياً، فلا ملجأ له ولا حماية إلاّ بالارتكاز على العالم الديني المقدّس ليجد له الهدوء والاستكانة والاستقرار. الفارق كبير بين القلق الوجودي inquiétude existentielle والكآبة والاضطراب النفسي l’angoisse psychologique.
من هنا، هذا النهش في عمليات التطرّف الديني الخالي من المحبّة، واحترام الشخص الآخر المفترق، وإلغاء وجوده وحقّه بالافتراق وحريته بالتفكير وبالخلاص، والهلاك وامتهان كرامته بكلام معيب فتدمّر الفن والحضارة والثقافة. فلا الحجاب ولا النقاب سُلَّم ونعمة يوصلان إلى السماء، ولا الشعر والوجه الجميل عورة تنزل إلى النار والجحيم. طهارة القلب هي الأساس وقداسة الضمير والنيات. والدنس هو في القلب والظلام في الداخل، كما قال يسوع إذا كانت عينك دنسة فكان قلبك دنساً. وإذا كان النور الذي فيك ظلاماً فالظلام كيف يكون؟
ما هذه الشماتة «الإسلامية» المرعبة التي ظهرت أخيراً ضد ضحايا الإعصار «ساندي». ما هذه الكراهية والقراءة السخيفة لعوامل الطبيعة؟ هذا الفكر تكلم عنه أوغوست كونت في مراحل الحضارة الثلاث، والفيلسوف الألماني ماكس مولر Max Muller، الذي تكلم على طفولة العقل وسذاجته، وليفي بريل Levy Bruhl في كتابه عن العقلية البدائيّة.
عمليات التطرف الديني بفكر ظلامي ضيّق يجعل من الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، كما يقول هوبس، أو هو شهوة لقتل الآخر كما يقول هيغل. فتتحول الشهوة البدنية الجسدية الليبيدونية إلى شهوة للموت، فيقضي فيها الإله Thanatos على الإله Eros بدل أن يحولها إلى عشق صوفي، يتراقى فيه الإنسان حتى القداسة والتأله كما فعل المتصوفون الكبار في الإسلام، فتذوب الشهوة ويضمحل الشبق متحولاً إلى نورانية تقدّم ذاتها قرباناً على مذبح الرب. لا أقذر ولا أسفه اليوم من بعض الفتاوى التي يقول بها بعض المشايخ، فيحلّلون ما كتابُ الله حرّم، ويجيزون أعمالاً منافية للطبيعة، وحقوق وكرامة الشخص البشري: كمضاجعة الأموات والحيوانات، وحق اللواط للمجاهدين، وعدم لمس الخضار كالكوسى، والباذنجان، والخيار، والجزر والموز، وممارسة الجنس مع الأدوات الجنسيّة. هذا الجنون في الاختبار الديني الذي يوصلنا إلى الهلوسة وإلى كرنفال لباس، ولحى، وطرحات، ونقاب لا علاقة له بما أمر الله من محبة وإكرام للشخص البشري وحريته، ولا علاقة له بالوحي الديني، بل بتشوهات جنسيّة مكبوتة تخاف جمال المرأة وفتنتها.
كيف نسينا وليّ الدين يكن، وبطرس البستاني، وفارس الشدياق، وشكيب أرسلان، وسعيد تقي الدين، والمجمع اللبناني سنة 1736 في دير سيدة اللويزة، حيث فرض إلزامية تعليم المرأة ومجانيته قبل الثورة الفرنسية بخمسين سنة (1789). كيف ذهبنا إلى هذه الظلامية الدينية، وأعدنا زمن التفتيش، والمحرقات، والشعوذات والسحرة، فدنسنا المقدّس وقدّسنا المدنس ونسينا قدسيّة النص وخصوبته وعظمة دلالاته؟
ما هذه البربرية الجديدة التي أخذت لها من الدين لباساً؟ فصدق قول نابوليون عن الحرب: إنها شيء خطر جداً لا يجب تركها للعسكر. وكذلك الدين، شيء خطر جداً لا يجب تركه ضحية رجال الدين وفتاويهم. في زمن الجهل الديني والغرق بالثرثرة الفقهيّة، أقول: «الآخر هو الذي يعطي معنى لوجودي، فإذا ألغيته بعملية قتل قايينيّة، ألغيتُ ذاتي وطاقتي على المحبّة، ووقعت في الكراهية. الإنسانُ هو كائنُ «المعيّة»، وإلا أصبح القلبُ صحراء، والعقلُ صحراء، والفكرُ قحطاً، وتصحراً، وبربرية إنسانية جديدة.
* أمين سرّ اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام في مجلس كنائس الشرق الأوسط