كيف تكتب مرثية لعزيز وحبيب فقد شقيقه! وكيف ترسل تحياتك إلى الراحل الكبير، الذي اغتاله المرض اللعين!حسنًا، لعل ما قد يريح المرء، ولو لومضة عين، أنك هناك، مع الملائكة والقديسين، حيث ليس بإمكان أي أحد أن يلحق بك أذى.
وكيف تعبّر عن فجيعتك الحقيقية والعميقة في بلاد، القتل فيها، بمختلف أنماطه المتوحشة، صار من عاديات اليوم، بل وحتى الساعة والدقيقة.
وكيف ترثي أخاً ورفيقاً، معرفتك به لم تتجاوز، في أغلب الأحيان، إلقاء تحية وتبادل بعض الأفكار العمومية عن إصدارات مرّت أو تلك التالية، وعن هذا من معارض الكتب أو ذاك!
أو عندما يستفسر منك، قلِقاً، عن أوضاع سورية الحزينة المنكوبة! لكن الحديث هنا عن الراحل العزيز جبران أبو جودة، لذا فإنه مختلف.
جبران، مثل شقيقيه عبودي ومروان، وشقيقتهم، الفاضلة، ماري تريز، علم من أعلام الثقافة والعلم والنشر في لبنان، يعرفهم كل من وطئت قدماه أرضها.
عندما تتحدث عن كرام القوم، يسهل الأمر قليلاً، وإن الفاجعة تنسيك الكثير.
لستَ في حاجة إلى أن تعرف جبران عن قرب أو أن ترافقه وتصادقه سنين حتى تكتشف جوهره الثمين. يكفي أن تلتقيه مرة، كي تكتشف، لنفسك، ما اكتشفه كل من عرف هذه العائلة الكريمة. يكفي القول: إنه ليس ثمة إجماع، بين كل من تلتقيهم، على بشر مثل الذي تحظى به هذه العائلة الاستثنائية! وهذا يسري على من عرفهم وعلى من سمع بهم. فعطرهم فاح في كل البلاد، من كندا، مروراً بأوروبا وبلاد العرب، جميعها، وصولاً إلى أستراليا.
تلتقيه عندما كان يطل على مكتبة الفرات في شارع الحمرا، ليلقي السلام على كل «اللاجئين» إليها، اللاهثين وراء متعة الجلوس في حضرة هؤلاء الأخوة، وما أكثرهم، باحثين عن إصدارات جديدة، أو قديمة، نادرة ومفقودة. فمكتبة الفرات، بفضل أصحابها، محج لبنان لكل باحث عن المعرفة.
جبران أبو جودة كان يدخل المكتبة بهدوء، آتياً، أحياناً، من دار الساقي حيث كان يعمل حتى يوم رحيله المفجع. لا يكاد المرء يسمع بخطوات قدميه، لكن حالما يصير في داخل «الفرات» تحس على الفور بحضوره، حتى قبل أن تراه العين.
يلقي السلام عليك، بابتسامته العذبة الخاصة به، كابتسامة أشقائه وشقيقتهم، كرام القوم ونخبه الأخلاقية. هادئة وديعة تعرف على الفور أنها نابعة من قلب مفعم بالمحبة والطيبة.
الابتسامة لا يخص بها معارفه فقط، وإنما كل الحضور. جبران أبو جودة ابتسامته لا تعلو شفتيه فقط، وإنما ترى أن محياه يشعّ ابتسامة وعذوبة وسروراً.
هي الابتسامة التي تعكس حلاوة روحه الطاهرة، وحميد أخلاقه.
عيناه تشيان بنقاوة قلب ومحبة تتجاوز عموميات «التهذيب» الذي عادة ما يلازم البشر. حالما تراه عيناك تحس بأنك إزاء شخص، بل أمام شخصية، لست في حاجة إلى أن تصادقها سنين لتعرف معدنها النادر. هذا الجوهر هو ما يسهل على المرء الكتابة عن الراحل العزيز، حتى وإن التقاه لمرة واحدة، ولدقائق ليس غير.
لكنني تشرفت بمعرفته أقرب من بضعة لقاءات عابرة. جبران أبو جودة، مع شقيقه الكبير العزيز عبد المسيح، المعروف تحبباً بالاختصار، عبودي، من المشاركين في تأسيس شركة قدمس للنشر والتوزيع. وافق على وضع اسمه ضمن المؤسسين، بلا تردد، فشرفنا بذلك.
سلامُ لك وسلام عليك أيها الراحل العزيز.
بعض من عزاء سنعثر عليه في عيون ماري تيريز ومروان وعبودي، وإن أراها دامعة. وإلى لقاء أيها الحبيب!