على كلّ العرب والمسلمين الذين هلّلوا لأوباما عند انتخابه أن يعتذروا من أنفسهم في الحدّ الأدنى، ومن غيرهم في الحدّ الأقصى. وصلت السذاجة في التهليل إلى حدّ الغباء. لم يكلّف خداع أوباما الكثير: خطاب مقيت في جامعة القاهرة تضمّن تحقيراً للعرب ووعظهم حول جمال التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي ومقابلة واحدة مع محطة صهر الملك فهد، «العربيّة»، وكأنّ تكريم آل سعود هو من تكريم الشعب العربي. قال أوباما إنّه سيصالح أميركا مع العالم، لكنه صالح الإمبراطورية مع الشعوب المقهورة، أو لنقل إنه حاول فيما فشل سلفه. والتهليل لأوباما شمل عرباً ومسلمين في أميركا، وعرباً ومسلمين في بلاد المنشأ. مثّل لهم الخلاص من حقبة بوش، أو الطلاق معها إلى غير رجعة. لكن الإمبراطوريّات أكبر من شخص الرئيس، وخصوصاً في العصر التكنولوجي الحديث.المعرفة بمقدّرات الحكم في الدول الغربيّة ذات القوة النووية وتحليل مآلها يقتضيان الكثير من الحذر والتروّي. قال فرنسوا ميتران، وهو أوّل رئيس اشتراكي للجمهورية الفرنسية الخامسة، إنه فوجئ بصعوبة التغيير من فوق، كما فوجئ بمحدودية القدرة الفعلية للرئيس. الدولة الكبرى تسير وتنمو والرؤساء يتغيّرون ويتعاقبون ويموتون ويولدون. هناك نظريّات عديدة عن طبيعة الدولة في الدول المتقدّمة: هناك ما قاله ريتشارد نيكسون عن أنّ الدولة الأميركية _ في السياسة الداخلية حسب رأيه _ تُسيّر نفسها بنفسها، من دون الحاجة إلى رئيس. لكن نيكسون كان يمكن أن يضيف الكلام عينه عن الدولة في مجال السياسة الخارجية.
يلهث العرب خلف كلّ رئيس أميركي ينجح في حملته الانتخابية الثانية. ما برح العرب يؤمنون بنظرية تحرّر الرئيس الأميركي في ولايته الثانية من قبضة اللوبي الصهيوني. وهناك نظريات عربية وغير عربية (لا صحة بتاتاً لها) عن أنّ الموساد هو الذي قتل جون كنيدي لأنّه كان على أهبة تحرير فلسطين في ولايته الثانية، وهناك فلسطيني معروف في مدينة بلتيمور يقسم أغلظ الإيمان بأن فضيحة «ووترغيت» كانت من إعداد اللوبي الصهيوني لأن نيكسون كان، أيضاً، على أهبة تحرير فلسطين في ولايته الثانية. أما أنظمة الخليج، فهي تساهم بطرق سرية وعلنية في مساعدة الرئيس الأميركي لتجديد ولايته لأنها ترى أنه سيكون أكثر طواعية في ولايته الثانية. وهذه الأنظمة ساعدت (عبر خفض أسعار النفط وعبر وسائل تضمّنت تقديم مساعدات نقديّة يسهل إمدادها في النظام الفرنسي أكثر من النظام الأميركي) رونالد ريغان وجورج بوش الأب وبيل كلينتون وجورج بوش الابن في حملاتهم الثانية.
لكن أوباما كان أمره مختلفاً. الرئيس الذي قضى جزءاً من حملته الانتخابية الأولى في نفي تهمة الإسلام عنه وعن أبيه، نجح دون أن يدري في تسويق نفسه مسلماً للمسلمين حول العالم، مع أنه لم يتوقّف عن ترداد المجاهرة بإيمانه المسيحي. كلمة «حسين» في اسمه الثلاثي _ وهو لم يستعملها قطّ وقد أزالها رسمياً من مراسم تقليده الثانية _ خدعت الكثير من العرب، كما أن الدعاية اليمينية الهوجاء ضدّه، والتي زعمت أنه مسلم سرّي أو أنه تربّى في أحضان الإخوان المسلمين أثّرت على ضعاف العقول في العالم العربي، وخصوصاً في أنظمة الطغاة العرب.
لا تتغيّر سياسات الدول الكُبرى كثيراً بتعاقب الرؤساء، وخصوصاً في أميركا. كان ريتشارد نيكسون يقول إنّ أميركا تحتاج إلى رئيس فقط في مجال السياسة الخارجية لأن السياسة الداخلية تسير وفق حسابات وتناقضات لا تأثير كبيراً للرئيس عليها. لكن نيكسون عاش في حقبة الحرب الباردة لا في حقبة «الحرب ضد الإرهاب»، وهي حرب أبدية لا أفق ولا تحديد زمنياً لها. كان معروفاً أنّ الحرب الباردة تنتهي بسقوط أحد الجبّارين، وسقط الاتحاد السوفياتي تاركاً وراءه إمبراطورية أميركية متعجرفة ومُتكبّرة. إن الحكم على حكم أوباما من دون معرفة طبيعة الحكم في أميركا يعاني من تأثير مفرط بالأهمية السياسية للخطب وتنميق الكلام الإنشائي.
تغيّرت طبيعة تقرير السياسة الخارجية في أميركا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. لم يحقّق أوباما الكثير من وعوده في السياسة الخارجية، مثله مثل كثيرين سبقوه. كلّ الرؤساء الذين تعاقبوا في التسعينيات وعدوا بالحزم في التعاطي مع الصين، وجزموا بأن حقوق الإنسان ستكون أولويّة في العلاقات بين أميركا والصين. لكن كلّ الرؤساء أخلفوا بوعدهم، وكلّهم تعاملوا بضعف وخنوع مع الجبّار الصيني الناهض.
أما وعود نشر الحرية والديموقراطية فهي هي، لم تتغيّر منذ الحرب الباردة. أميركا هي مع نشر الديموقراطية حقاً، ولكن فقط في تلك الدول التي تخالف المشيئة الأميركية. وأميركا، في سوريا أو في اليمن، ميّالة للحفاظ على نظام طاغوتي (كما يُقال بالفارسيّة) لأنها تستسهل التعامل معه. أي بكلام أكثر دقّة، إن أميركا لا تريد نشر الديموقراطية حتى في الدول التي تخالف مشيئتها، لكنّها تستعمل التهديد بالتغيير الديموقراطي من أجل تطويع الأنظمة وتغيير سياساتها بما يتلاءم مع السياسة الأميركيّة. وكانت الممثّلة الدائمة لأميركا في الأمم المتحدة في إدارة رونالد ريغان، جين كيركباتريك، صريحة في تلك المقالة في مجلّة «كومنتاري» الصهيونيّة عام 1979، والتي ميّزت فيها (إيجاباً) بين النظم المتسلّطة والنظم الشموليّة (وقد عيّنها رونالد ريغان سفيرة له بسبب تلك المقالة عينها). لم تتغيّر المعايير الأميركيّة. وعندما يتكلّم أوباما في خطاب قَسَمه الثاني عن دعم الديموقراطية حول العالم، وفي الشرق الأوسط بالتحديد، فهو يقصد استثناء السعودية والكويت وعُمان واليمن والبحرين وقطر والعراق والمغرب والأردن والجزائر ودولة الإمارات من حسابه وحساب الخطاب الأميركي.
إن للقيادة العسكريّة _ الاستخباريّة في أميركا وللوبي الصهيوني أيضاً نفوذاً وسلطة تتعدّى حدود الحزبين المُتعاقبين. كما أنّ هناك عقدة للحزب الديموقراطي، ولكلّ من يتبوّأ منصب الرئاسة عن الحزب الديموقراطي، تتعلّق بالسياسة الخارجيّة والدفاع. إن كل رئيس ديموقراطي منذ الحرب الباردة ومنذ «الحرب ضد الإرهاب» يحتاج إلى أن يثبت كفاءته في السياسة الخارجيّة والدفاع عبر إثبات حماسته العنفية والحربية، وخصوصاً ضد العرب والمسلمين، كما أنّ أوباما عانى عقدة أكبر وذلك بسبب الشكوك (غير المُبرّرة) عن أصول إسلاميّة له. لهذا، فإن أوباما قتل في حروب الطائرات من دون طيّار أكثر مما قتل بوش، ولهذا لم يُغلق أوباما معتقل غوانتانامو. كما أنّ أوباما أنهى حرباً (منتهية أصلاً) في العراق، فيما زخّم الحرب الأميركية في أفغانستان، والتي يبذل أقصى جهده ليبقي فيها آلافاً من القوّات الأميركية بعد الانسحاب الرسمي _ لا قبله. لكن منهج أوباما كان أكثر فائدة للإمبراطورية الأميركية لأنه فضّل الحروب السريّة على المُعلنة: إن عقيدة أوباما أكملت وبدأت حروباً في الصومال وباكستان واليمن ومالي وفي سائر أنحاء أفريقيا الشمالية، مع أنّ العقيدة ترتبط رسميّاً بـ«الاستدارة نحو آسيا» عبر نشر بعض القوّات الأميركية في أوستراليا، والتحضير لمواجهة شبه حتميّة مع الصين في سنوات لاحقة (أميركا هي التي حثّت اليابان على إنفاق نحو 50 مليار دولار على التسلّح والدفاع، بعدما كانت قد اشترطت على الإمبراطورية المهزومة في الحرب العالمية الثانية ألا تنفق على الدفاع إلّا النزر اليسير (ليس أكثر من 1% من الموازنة). والقيادة الأفريقية للقوّات الأميركية أقامت قواعد عسكريّة في بوركينا فاسو وفي أماكن أخرى من أجل إدارة الحروب الأميركية المُتنقّلة في أفريقيا، مع أنّ فرنسا وأميركا كانتا صريحتين في تفضيلهما لقتال الأفارقة من أجل مصالح الغرب في مالي (والنيجر)، وذلك للحفاظ على دماء الرجل الأبيض النقيّة.
ونشوب الحرب الغربية في مالي كانت ضرورة سياسية للرئيس الاشتراكي الفرنسي كي يُثبت حزمه وبأسه لأنّ اليسار الفرنسي والبريطاني والألماني _ مثله مثل الوسط (لأن الحزب الديموقراطي هو وسط) في أميركا _ يحتاج دوماً إلى إثبات الأهلية في النيات والممارسات الاستعمارية. لهذا، فإن سكّان العالم المُستعمَر _ مثلهم مثل شعب فلسطين في أراضي 1948 _ لم يميّزوا يوماً بين يمين مُستعمِر ويسار مُستعمِر. قد يكون أوباما أكثر تحرّراً في إدارته الثانية، ولكن ليس من «براثن اللوبي الصهيوني» كما يحب المُصابون بالتفاؤليّة العربيّة المرضيّة أن يقنعونا، وإنما من الحاجة الماسّة لإحداث الدمار ورمي الصواريخ والقنابل بكثافة في عهد بوش. إن خطاب قسم أوباما الثاني مؤشّر إلى ولاية ثانية. الرجل لم ينتمِ إلى الليبراليّة أو اليسار يوماً: مثله مثل بيل كلينتون يرى أن الحلول تأتي عبر المشاركة بين القطاع الخاص والقطاع العام، وهو قرّع _ على طريقة الوسط الأميركي _ هؤلاء الفقراء الذين ينتظرون المساعدة من الدولة. لم ينجح الحزب الديموقراطي في العودة إلى السلطة في أميركا عام 1992 أو حزب العمل في بريطانيا عام 1997 إلا عبر الحرب على الفقراء وتحوير مناصرة العمّال التقليدية إلى مناصرة الطبقة المتوسطة. حتى اليسار الفرنسي الاشتراكي بات معبّراً عن مصالح الطبقة المتوسّطة، وقد ساهم الحزب الاشتراكي الحاكم في عهد ميتران في تفكيك منشآت القطاع العام. خلا خطاب أوباما أو كاد من مضامين السياسة الخارجية. صحيح أنّه أعلن أن «عقد الحروب» قد ولّى، لكنه لم يعنِ كل الحروب. كان فقط يتحدّث عن الحروب الشاملة والكبيرة التي تعتمد على جيوش جرّارة. بإعلان انتهاء «عقد الحروب» الشاملة، كان أوباما يعلن في الطرف الآخر من فمه الدخول في عقد الحروب السريّة (غير السريّة)، التي تعتمد على القوّات الخاصّة وعلى الطائرات من دون طيّار. وهذه الحروب تعتمد كما في الصومال على جيوش من الملوّنين، وذلك لصون حياة الرجل الأبيض (عبّر الحاكم اليمني الجديد عن ولائه للسفير الأميركي في اليمن _ وهو الحاكم الفعلي للبلاد هناك _ عبر الإعلان عن ترحيبه بالقنابل والصواريخ الأميركية المنهمرة). وفرنسا وأميركا توافقتا على ضرورة سفك دماء الأفارقة في الحرب في مالي صوناً للبشرة البيضاء. لكن تعيين تشك هيغل أثار الكثير من الأوهام الشعبية في العالم العربي. ومحطة «الجزيرة» تعاملت مع تعيينه على أساس أنّ الرجل ممثّل لأحد الفصائل الفلسطينية. لكنّ للرجل هذا رصيداً طويلاً (لكنه أقصر من رصيد جو بايدن أو جون كيري) من الاقتراع لمصلحة العدوّ الإسرائيلي في مجلس الشيوخ، وقد أعاد التذكير بولائه لمصالح إسرائيل في رسالة مفصّلة للسيناتورة دايان فاينشتاين من ولاية كاليفورنيا، وهي واحدة من كثيرين وكثيرات من حرّاس هيكل اللوبي الصهيوني في البلاد. ولا يقرّر وزير الدفاع السياسة الخارجية، وخصوصاً في إدارة كإدارة أوباما والتي، للمرّة الأولى منذ عهد ريتشارد نيكسون، يحتكر فيها الرئيس صنع السياسة الخارجية. حتى دور هيلاري كلينتون كان شكلياً وبروتوكولياً أكثر منه تقريرياً في هذه الإدارة. أما السيناتور جون كيري فيكفي أنه كان مرشّحاً رئاسياً: ولا يصل أي مرشح من الحزبين إلى المرتبة النهائية ما لم يكن مرضياً عنه من اللوبي الصهيوني. وقد أسرّ تلميذ سابق لي من جامعة «تفتس» (وهي خارج بوسطن في ولاية ماستشوستس)، وكان قد عمل في مكتب كيري، بأن معظم مموليه هم من الصهاينة، مع أنه يزهو دوماً بأنه أكثر حريّة من سائر أعضاء مجلس الشيوخ لأنّه لا يقبل بتمويل من «لجان العمل السياسي» (الـ«باكس»). ليس هناك مفاجآت ضد إسرائيل في الولاية الثانية. ليس هناك ما سيخشاه رئيس الحكومة الإسرائيلية المُقبل، حتى لو كان نتنياهو نفسه. لكن الإدارة الأميركية لن تنجرّ إلى شنّ حرب شاملة على إيران بالنيابة عن إسرائيل، وهذا كان موقف إدارة بوش الذي كان ذا شبق غير عادي نحو الحروب الشاملة. ستستمرّ العقوبات الاقتصادية ضد إيران، وسيتسع نطاق إعلان قائمة العقوبات على طريقة العقوبات ضد سوريا: ستعلن وزارة الخزانة أن عمّة أحمدي نجاد أضيفت إلى قائمة العقوبات، على أن يُضاف اسم خاله بعد أسابيع غير طويلة.
لكن إسرائيل ستستمرّ في احتلالاتها وحروبها وعدوانها واستيطانها من دون عقاب أو حتى تنبيه أميركي. لم يكذب أوباما في حملته الثانية عندما ذكّر الناخبين اليهود والصهاينة من المسيحيّين بأنّه طوّر العلاقة مع إسرائيل نحو حدّ غير مسبوق. لم يُكتب للإمبراطورية الأميركية نهايتها على يد أوباما. على العكس، لقد ساهم بمهارة لم يتمتّع بها سلفه في إطالة أمد تلك الإمبراطورية. لكن الإمبراطوريات تهرم في أطرافها، قبل أن تهرم في القلب. والشرق الأوسط يقع في أطراف الإمبراطورية.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)