لعلّه ليس مجانباً للصواب القول بأنّ دعوة الحوار التي أعلنها وزير العدل البحريني، خالد بن علي آل خليفة، يوم الاثنين الماضي، بدت أكثر جدية من دعوات فضفاضة سابقة، قد تكون استنفدت بعض أغراضها في شراء الوقت، والقيام بأدوار العلاقات العامة، واستكشاف مواقف المعارضة والموالاة، وقياس ردود الفعل الإقليمية والدولية، فيما يمكن القيام به، سياسياً وأمنياً، تجاه انتفاضة غير مسبوقة، في منطقة حساسة وتعيش توازنات هشة.في ضوء هذه الاعتبارات وغيرها، تمّت هندسة الدعوة الجديدة للحوار، التي يراد منها تحقيق الأهداف الأربعة المذكورة، أساساً، وأهداف أخرى، ذات طبيعة تكتيكية، وأخرى طويلة المدى.
الحوار المرتقب إذاً، لا يبتغي الوصول إلى تسوية تاريخية (كتابة دستور عقدي عبر مؤسسة منتخبة، يستفتى الشعب بشأنه)، ومع ذلك فإنه من المؤمل أن يضع الحوار، حتى في فشله (وهذا المرجح)، لبنة أخرى لما يمكن اعتباره «أوسلو» بحريني جديد (تسوية على مراحل)، على شكل ميثاق 2 مثلاً، (الميثاق الأول تمّ عام 2001)، قد يعلن العام المقبل، وصولاً ـــ في النهاية غير القريبة ـــ إلى طائف بحريني (نظام محاصصة = ديموقراطية شبه توافقية).
ولعلّ الحوار الجدّي سيظلّ مؤجلاً، ليقوده، تحت الطاولة، الرجل القوي في النظام، وزير الديوان الملكي خالد بن أحمد آل خليفة، إذا ما نضجت ظروف الطبخة، وأهم شروطها أن تمضي المعارضة في مسلسل الخطوات باتجاه خطاب لا يبتعد كثيراً عما كانت تتبناه قبيل 14 فبراير/ شباط 2011، وهي خطوات طويلة ومعقدة، يمكن وصفها بـ U Turn، وقد تتطلب من المعارضة وقتاً أطول، ربما عاماً آخر، سيتخلّلها نمط أهدأ من التظاهرات، وخطاب سياسي أكثر تصالحاً مع السلطة، ويزخر بالتطمينات للسلطة والموالين لها والإقليم الخليجي والغرب.
بيد أنّ السلطة هي الأخرى، بحاجة إلى مغادرة مربعها الأمني، وإقناع المتشددين فيها بأهمية إحالة رئيس الوزراء الشيخ خليفة إلى التقاعد، ومنح المعارضة جزءاً من مقاعد مجلس الوزراء، وتمثيل أكثر توازناً في البرلمان عبر تعديل الدوائر الانتخابية.
وبطبيعة الحال، تحتاج السلطة الى إقناع الشارع السني الموالي لها، بأهمية إمرار صفقة مع المعارضة، ويستدعي ذلك أيضاً مدى زمنياً، يؤجل التسوية حتى حين، لكنّه لا يمنع الحوار مع من يصفهم الخطاب الموالي بـ«الخونة» و«الانقلابيين» و«الصفويين» و«المأزمين». ومن المرجح، أن لا تكرر الحكومة خطأ المونولوج الحكومي، المثير للسخرية، (حوار التوافق الوطني في يوليو/ تموز عام 2011)، حين أعلنت جدول أعمال فضفاضاً، ودعت إلى التحاور نحو 300 شخص دون ضوابط معروفة، سوى ضابط القرب من السلطة، ما أفقد الجلسات معناها كحوار بين مختلفين.
وإذا فعلت السلطة ذلك، فإنّها ستسهل على المعارضة الطعن في الحوار، والانسحاب منه، حتى لا أقول مقاطعته، في ظل استراتيجية معارضة تقبل عادة دعوات الحوار، مهما كانت عدم صدقيتها، تحت ذريعة إحراج السلطة.
وإذا أحسنت السلطة ضبط شكل الحفلة وحضورها، فإن ذلك سيعقّد على المعارضة التمنع من الاشتراك في الحوار، حتى وهي لا تعرف نهايته.
وقد يُعتقد أن الإشكال أمام المعارضة يتمثل في بنود جدول الأعمال، الذي استجابت السلطة لحصره في البعد السياسي (بدل جدول أعمال اجتماعي واقتصادي وسياسي وشبابي ونسائي في يوليو/ تموز 2011). وقد يكون ذلك صحيحاً، وخصوصاً بنود إصلاح الجهاز الأمني، الذي تعدّه السلطة يدها الباطشة، بيد أنّ الإشكال الأبرز هو ذاك المتعلق بآلية اتخاذ القرار، وإذا ما تمّ التوافق على التصويت بالغالبية على القرارات، فإن النقاش سيظلّ محتدماً عمن يحق له التصويت، وكيفية حسم القرارات.
ولعلّ من بين أهمّ ما يراد تحقيقه من الحوار هو امتصاص ردة الفعل الغربية، التي لا تتردد في توجيه لوم واضح وعلني للطريقة التي اتبعتها العائلة الخليفية في إدارة معركة الربيع البحريني.
ويظنّ بعض الغربيين أنّه كان يمكن احتواء الهبّة الشعبية بإعطاء مساحات أرحب للمعارضة في بنية القرار الرسمي وإعلامه وقضائه، وليس بالضرورة جهازه الأمني.
كذلك تأمل السلطة من خلال الحوار تهدئة الأجنحة المعتدلة في المعارضة، والتأكيد لها على أن التسوية مقبلة، وتشجيعها على مواصلة النأي بنفسها عن خطاب «إسقاط النظام»، والتظاهرات الشبابية في الشارع.
لقد قطعت المعارضة شوطاً ملموساً للقبول بتسوية من خلال «السيستم» القائم، بما في ذلك العديد من الخطوات لتهيئة الشارع لتسوية غير تاريخية، ولعلّ السلطة مضت في ذلك أيضاً تجاه أفراد العائلة الحاكمة، ومواليها، وداعميها في السعودية، فيما الغرب، الداعم أساساً للسلطة، قادر على التفهم بأنّ الحوار يحتاج الى وقت أطول، وتركيزه يظلّ معنياً بالحفاظ على توتر محكوم العواقب.
وإذ تبدو التسوية المرحلية الهشة خياراً واقعياً، تجد الدعم الإقليمي والدولي، وتفهم أطراف الصراع المحلي، فإنّ الإشكال الذي يواجه الجميع، كيف يمكن إمرارها شعبياً؟ إنّ تجربة اليمن الأخيرة، وقبلها تجربة فلسطين، تشير إلى أنّ الدفع بها ممكن، لكنّها تظلّ تحمل في بطنها بكتيريا إجهاضها.
ولعلّ من الصالح لآل خليفة الوصول إلى تسوية دائمة، تمنحهم حصة تتجاوز مصطلح «الثلث الضامن»، الذي تطمح له بعض أطراف المعارضة، إلى كونها (التسوية) تقنّن «الاستئثار» الخليفي، وتمنحه الشرعية، بيد أنّ ذلك لا يبدو وارداً الآن ولا في المدى المنظور، في ظل عقيدة خليفية صارمة: «أمتلك البحرين أو أحرقها».
إذا ما حدثت تسوية هشّة، وهو المرجّح عام 2014، فإنّ المعارضة ستأخذها وتمضي مطالبة بما هو أكثر، وقد تخرج عن مسار اللعبة المرسوم، كما فعلت «الوفاق» عام 2011، حين أتيحت لها الفرصة.
وإذ تمكنت السلطة في غضون العقود الأربعة الماضية من إحداث تغيير ديموغرافي لافت، وعزّزت قوة جهازها العسكري، فإنّ ذلك عجز عن تحقيق الشرعية للنظام، والاستقرار للبلد، والرفاه للشعب.
التسوية التاريخية هي الوصفة المثلى للاستقرار، وكل الخيارات الأخرى، ليست أكثر من إبر تخدير، تليها ـــ عادة ـــ هبّة أخرى تعود بالبلد إلى المربع الأمني، ولعلّ التسوية المرتقبة هي من نسخ التسويات الهشة التي يعقبها ما هو أسوأ.
* كاتب بحريني