إعادة انتاج بائسة للبرلمان السابق الذي وُصِم في حينه بأشنع النعوت. إلى هذا انتهى «العرس الديموقراطي» الذي وصفه الملك عبد الله الثاني بأنّه «اللحظة الحاسمة في الربيع الأردني»، وطبّلت فيه وزمّرت قوى «المعارضة» القومية واليسارية التقليدية والجديدة (باستثناء الحزب الشيوعي الأردني، وحزب الوحدة الشعبية، ويساريين مستقلين) بعدما صارت هي الحليف الأقرب للنظام، وبعدما ظنّت أنها ــ وبمقاطعة الإخوان المسلمين ــ ستحصل على حصة معقولة من المقاعد.
خطوة أخرى إلى الوراء

لكن ما حصل لم يكن مجرّد نسخٍ كربونيٍ للماضي، بل تمخّض عن ثلاثة تراجعات كبرى:
الأول: أثبتت الانتخابات الجديدة أنّ العشائرية والعائلية والمناطقية والإقليمية (الانقسام المبني على الأصول، أردني/فلسطيني) صارت هي الشكل التنظيمي الأكثر تجذّراً في المشهد السياسي الأردني، مثلها مثل الطائفية في لبنان؛ بل إن القوائم الوطنية ــ التي يُفترض أنها أُدخلت لفسح المجال أمام بعض الديكور السياسي والبرامجي لمجلس النوّاب (بدلاً من شكله الخدميّ الذي طبعه منذ دخول قانون الصوت الواحد حيز التنفيذ عام 1993)، ودَفْع بعض من النواب على قاعدة ما فوق مناطقية أو عشائرية ــ أُعيد انتاجها عشائرياً وإقليمياً، وتحوّلت في معظمها إلى واجهات لشخصيات عشائرية ومالية نافذة حشدت خلفها أسماء كومبارسية (باستثناءات قليلة) لتضمن لنفسها الترتيب الأول في القائمة، ومن ثمّ تحجز لنفسها المقعد البرلماني الوحيد الذي ستحصده تلك القائمة لاحقاً.
الثاني: تمّت إعادة التأكيد على شرعية النظام بعد هبّة تشرين الثاني عام 2012، التي طالبت تظاهراتها ــ بشكل غير مسبوق في الأردن ــ بإسقاط النظام. وفوق ذلك، حصل النظام على إجماع مجانيّ لم يتوفّر له منذ تأسيس الإمارة، رغم أنّه لم يقدّم أية تنازلات اقتصادية/اجتماعية من قبيل التراجع عن رفع الأسعار الذي أدى إلى هبّة تشرين، كما لم يقدّم أية تنازلات سياسية من قبيل إجراء تعديل دستوري جدّي يحدد من صلاحيات الملك أو تغيير صيغة قانون الانتخاب القائم على الصوت الواحد بشكل أساسي. مرّت هبة تشرين سياسياً واقتصادياً وكأنها لم تكن، بل إن قوى محسوبة على «المعارضة» التقليدية (حزب البعث الاشتراكي وحزب البعث التقدمي وحزب الشعب الديموقراطي وحزب الحركة القومية للديموقراطية المباشرة)، وأخرى محسوبة على «المعارضة» الجديدة وقوى الحراك (نقيب المعلمين وعضو حزب البعث الاشتراكي مصطفى الرواشدة، والناطق الاعلامي باسم حزب التحرر الوطني الاجتماعي علاء الفزاع، ورئيس لجنة عمّال المياومة والناشط في حراك ذيبان محمد السنيد) خاضت الانتخابات سواء على المقاعد الفردية أو مقاعد القوائم، موفّرين بذلك الدعم الكامل لمشروع النظام السياسي والاقتصادي من على أرضيات «المعارضة».
الثالث: تثبيت إقصاء المواطنين الأردنيين من ذوي الأصول الفلسطينية عن المشهد السياسي بحصولهم على 22% من مقاعد المجلس ــ وهي نسبة أقل بكثير من ثقلهم السكاني ــ كنتيجة منطقية للتحريض المستمرّ ضدّهم، والذي اضطلع به منظّرون وقوى سياسية شوفينية/انعزالية متحالفة مع الحرس القديم (تصف نفسها ــ لأجل التندّر على ما يبدو ــ بأنها «يسارية»!)، ظلت تستعمل قصة «الوطن البديل» كفزّاعة داخلية، وتطالب بدسترة فكّ الارتباط مع الضفة الغربية وسحب الجنسيات من مواطنين من أصول فلسطينية بناء على ذلك، ومعارضة تمكين النساء الأردنيات من إعطاء الجنسية لأبنائهن وأزواجهن. هكذا نجح النظام من جهة، والقوى الشوفينية/الانعزالية من جهة أخرى، بتحويل «الأصول والمنابت» إلى مرجعية سياسية ليس فقط في أوساطها، بل وفي أوساط سائر قوى «المعارضة»، والمجتمع.

ديكور اسمه «القائمة الوطنية»

منذ العام 1993، كان الاعتراض الأساسي للمعارضة في الأردن على قانون الانتخاب هو صيغة «الصوت الواحد للناخب الواحد»، التي أدت إلى تكريس وتعزيز الانقسامات الاجتماعية، وتحويل العشيرة والعائلة إلى الوحدة السياسية الرئيسية في الأردن.
في انتخابات 2013، وكجزء من عملية «الإصلاح» الشكلية، تم استحداث مبدأ الصوتين: صوت للمرشح المحلي في الدائرة المحلية، وصوت يخصص لقائمة وطنية. كلام جميل، لكن «النهفة» في القصة (بحسب التعبير العمّاني الدارج) هي أنّ مجلس النواب يتكون من 123 مقعداً للمرشحين المحليين (الصوت الواحد)، و27 مقعداً فقط لمرشحي القوائم الوطنية! أي أنّ هذه القوائم (التي يفترض أن تكون ذات طابع سياسي وبرامجي بحسب تركيبتها المافوق مناطقية المفترضة) عليها أن تختار وضع الأقلية الضعيفة سلفاً (أكثر عدد من المقاعد حصلت عليه قائمة واحدة، هي قائمة حزب الوسط الإسلامي، كان ثلاثة!)، أو أن تختار الخضوع للمنطق الانتخابي العشائري/العائلي لينجح لها مرشّحين أكثر عن طريق المقاعد الفرديّة، فتفقد بذلك أساسها «الوطني» والسياسي لتصبح تجمّعاً فضفاضاً لممثلي العائلات والعشائر والمناطق (وهو ما فعله حزب الوسط الإسلامي ذاته فنجح له 13 مرشّحاً فرديّاً فصار القوة الأولى في البرلمان بـــ16 نائباً).
إنّ هذا الشكل الذي تمّ اعتماده للقوائم الوطنية أدى في الواقع إلى دخول العشائرية بقوة إلى نظام القوائم بدلاً من العكس، وهو ما يثبته (إضافة لما أوردناه سابقاً) ترشّح 61 قائمة على المقاعد الـ27 المخصصة للقوائم الوطنية، وعدم تحديد حد أدنى لعدد الأصوات التي يمكن بعدها أن يُحتسب للقائمة نسبة من المقاعد، بل تركت النسبة مفتوحة مما يعني استحالة أن تفوز أيّة قائمة بعدد كبير من مقاعد الأقلية تلك، وهو ما حصل: فحصلت قائمة واحدة على 3 مقاعد، وحصلت ثلاث قوائم على مقعدين لكلّ منها، بينما حصلت ثماني عشرة قائمة على مقعد واحد لكلّ منها! وطبقاً لهذا القانون الغريب الذي يتعمّد تفتيت مقاعد القوائم الوطنية إلى أكبر عدد منها، ومصادرة القوّة التصويتية، تساوت قائمة حصلت على 49 ألف صوت (قائمة حزب التيار الوطني ــ 4% من مجموع المصوّتين) مع قائمة حصلت على 14 ألف صوت (قائمة المواطنة ــ 1.2% من مجموع المصوّتين) بحصول الاثنتين على مقعد واحد لكل منهما من مقاعد القوائم الوطنية!

خسارة ساحقة لـ«المعارضة»

أحد أوجه الشبه الرئيسية بين برلمان 2013 وسابقه هو خلوّهما من المعارضة الجذرية، ويحتوي البرلمان الجديد على عدد مضحك من المعارضين في بلد خرج قبل شهرين فقط من انتفاضة شعبية: عدد لا يتجاوز أصابع اليدين من شخصيات يمكن اعتبارها «معارضة ناعمة» أو «معارضة موالية»، اثنان منها من الأحزاب التقليدية ونجحا بناء على الخلفية العشائرية (مصطفى الرواشدة ــ حزب البعث الاشتراكي) أو الكوتا النسائية (ردينة العطي ــ حزب البعث التقدمي)، والباقون نجحوا استناداً إلى البعد العشائري أو النفوذ.
وخسرت القائمة الوطنية لأحزاب المعارضة اليسارية والقومية (قائمة النهوض الديموقراطي ــ أربعة أحزاب) خسارة ساحقة بعدم حصولها على أيّ مقعد، وبأصوات بلغت بالكاد 14 ألفاً، وبنسبة 1.2% من أصوات المقترعين. ومنيت القوى السياسية الشوفينية/الانعزالية (قائمة أبناء الحرّاثين) المحسوبة على المعارضة أيضاً، والتي خاضت الانتخابات ببرنامج قائم على دسترة فكّ الارتباط مع الضفة الغربية وعدم منح الجنسية لأبناء الأردنيات والتحريض ضد المواطنين من أصول فلسطينية من خلال فزّاعة «الوطن البديل»، بخسارة ساحقة هي الأخرى بحصولها على 0.7% من أصوات المقترعين (8411 صوتاً)، وطبعاً لم تحصل على أيّ مقعد في البرلمان.
كما خسر الإخوان المسلمون وقوى مقاطعة الانتخابات المتحالفة معهم خسارة كبيرة نتيجة للمشاركة الواسعة نسبياً في الاقتراع، ومرور قرار المقاطعة بصمت شبه متواطئ مع الانتخابات: فلم تنظم فعاليات وحملات ذات تأثير لحثّ المواطنين على المقاطعة، ولم ينزل المقاطعون إلى الشارع يوم الانتخابات؛ في حين فقد الاسلاميون جزءاً من حظوتهم لدى النظام الذي صارت محظيته الجديدة قوى «اليسار» بتنويعاتها المختلفة؛ بينما حصل حزب الوسط الاسلامي (انشقاق مقرّب من النظام عن الاخوان المسلمين) على عدد كبير من المقاعد (16 مقعداً) من خلال الترشيح الفردي والقوائم، وهو يعدّ نفسه ليصير منافساً قوياً للإخوان في الساحة السياسية من خلال تواجده المؤثر في مجلس النوّاب. في حين جاءت تصريحات المراقب العام للإخوان المسلمين في الأردن، همام سعيد، في التظاهرة الرئيسية ضد الانتخابات (التي جاءت بحجم مشاركة هزيل) بأنّ «فجر الدولة الإسلامية بدأ يلوح على أهل الأردن» لتزيد من أزمة وعزلة الإخوان وانفضاض حلفائهم عنهم، وتفضح ازدواجية خطابهم حول الديموقراطية والدولة المدنية.

إيجابية الانتخابات النيابية

الايجابية الوحيدة للانتخابات في الأردن كانت توضيح كثير من الأمور التي كانت مبهمة نسبياً وتوضع عادة في خانة التحليل، لتصير الآن واقعاً مأساوياً ملموساً:
1- بان الضعف الشعبي للاخوان المسلمين جلياً بتأثير من أداء أشقائهم السيئ في تونس ومصر، ووضوح ازدواجية خطابهم وانتهازيته، وبتجذّر العشائرية والإقليمية في البنية السياسية والاجتماعية، ومعاناتهم الداخلية من هذه الانقسامات.
2- بان التأثير المتعاظم للانتماء العشائري والعائلي والمناطقي والجغرافي والإقليمي، والفشل الكاسح لأيّ توجه سياسي لا يستند في حقيقته على هذا العمق، وأغلب الظن أننا سنشهد تحوّلات مستقبلية تصير فيها الأحزاب والمجموعات السياسية مجرّد واجهات للعشائر والعائلات والمناطق بالكامل، بشكل يشبه لبنان حيث الأحزاب واجهات للطوائف أو العائلات.
3- بان مدى الانهيار الذي أصاب القوى التي تطلق على نفسها صفة «اليسار»، وذلك بتحالفها الكامل مع النظام وحرسه القديم؛ ومشاركتها في الانتخابات، وتحوّل منظّرين «يساريين» كبار إلى أبواق دعاية وترويج للانتخابات؛ واجتماعها مع الملك الذي وصف بأنه «الملك اليساري» بحسبهم؛ وتبني أجزاء كبيرة منها خطاباً شوفينياً انعزالياً تفتيتياً؛ ومن ثم خسارتها الساحقة في الانتخابات.
4- بانت مرونة النظام وقدرته على استيعاب الظواهر السياسية والاجتماعية وتنفيس الاحتقانات وتوظيف المعارضة، وقدرته الكبيرة على إعادة انتاج نفسه بما يتسق مع الظروف الدولية والإقليمية، وتشكيل البنية الداخلية بحسب إعادة الإنتاج تلك.
5- بات واضحاً سذاجة المراهنين على «التغيير من الداخل» والمتحدّثين عن «إصلاح» يقوده النظام نفسه، ويؤدي في نهاية الأمر إلى مزيد من التراجعات على كافة الصعد.
6- بات واضحاً أنّه إن كان ثمة خطوات أولى في الاتجاه الصحيح فهي: تعديل المواد الدستورية التي تعطي كل السلطة للملك وإعادة السلطة إلى الشعب وفصل السلطات فصلاً كاملاً؛ وتعديل قانون الانتخاب إلى واحدة من صيغتين: أما أن يكون الأردن دائرة انتخابية واحدة بقوائم انتخابية فقط دون مقاعد فردية، أو أن يُنتخب نصف مجلس النواب بالقوائم والنصف الثاني بدوائر محلية كبيرة متعددة الأصوات؛ وحتى هذه لن تكون حلاً ناجعاً بعدما تجذّرت العشائرية والمناطقية سياسياً وتحوّلت الى «أحزاب» بفضل قانون الصوت الواحد.
7- بات واضحاً أنّ أفق «التحرّر الوطني» في الأردن مستحيل، وأنّ أكذوبة التحرر الوطني القائمة على الهوية الوطنية هي محض شوفينية تخدم النظام وتفتيته للبنية الاجتماعية لإدامة وجوده من جهة، وتخدم «إسرائيل» بتحويلها التناقض التناحري معها إلى تناقض تناحري داخلي من جهة ثانية. التحرر الوحيد الممكن في حالة الأردن هو تحرر ما فوق قُطري ينبذ الهويّات العائلية والعشائرية والوطنية (الأردنية والفلسطينية) ويعمل على صياغة هوية نضالية لمجموع الُمستغلين في مواجهة الشريحة الحاكمة و«إسرائيل».
* كاتب أردني