ثمة رابط، لا جدال فيه، ما بين مجموعة أحداث وظاهرات وصراعات «تضجّ» في الساحة اللبنانية الآن مذكِّرة، على الأقلّ في بعض جوانبها، بما كان أشار إليه الشاعر أبو العلاء المعري قبل حوالى دزينة من القرون. الفارق أنّ الضجة قد تفرعت وباتت، بشكل أساسي، داخل المذاهب في الديانة الواحدة، ما يجعلنا نحتاج إلى «كلمة سواء»، بينها هي أيضاً: من اللاذقية إلى الحجاز... ونجد.
نعم ثمة رابط ما بين القانون الأرثوذكسي (لاحظوا التسمية قبل المضمون)، حيث ينتخب كلّ فريق نوابه (الذين كانوا شكلاً وشكلياً نواب الأمة)، وما بين فتوى سماحة «مفتي الجمهورية» الشيخ محمد رشيد قباني بتحريم الزواج المدني وبتجريم من كان له مؤيّداً أو ممارساً. وكذلك ما بين هذين، وبين تنامي الاتجاهات التكفيرية من الشمال إلى الجنوب مروراً بالسجون(!)... إلى المربعات الرسمية الناشئة لإمام مسجد بلال بن رباح الشيخ أحمد الأسير وتابعه بـ«إحسان» إلى يوم الدين المغني الفلسطيني فضل شاكر (أين فلسطين من ذلك ومن غيره؟!). وتُطلّ الآن برأسها مظاهر فتنة جديدة داخل «الفريق الواحد»، كما برز أخيراً في تجدّد الحملة ضدّ العلامة الكبير الراحل السيد محمد حسين فضل الله.

والتفريع هذا هو إمعان في التفتيت. وجهه الآخر إضعاف الدولة وسلطتها ومؤسساتها، حيث يبلغ التنافس أشدّه لمناسبة اقتراب موعد الانتخابات النيابية، فيما الصراع الإقليمي (العربي _ العربي خصوصاً) قد بلغ ذروة غير مسبوقة.
الفئوية هي، الآن، وأكثر من أيّ وقت مضى، سيدة الساحة. لا حرج بعد اليوم في إزالة الأقنعة والمساحيق. المزايدة بين «المسيحيين» تكاد تطيح إيجابيات مهمة برزت في سياق صراع سياسي إقليمي ومحلي حقيقي قطع فيه العماد ميشال عون خطوات مهمة، حين قطع مع ذهنية الانعزال والولاء المطلق للغرب (الأميركي والأوروبي)، وانفتح على القضايا العربية وقضية المقاومة ضد العدو الصهيوني.
إذا قُدِّر للمسار الحالي أن ينجح، فسنكون أمام «برلمان بمجالس كثيرة» على حدّ تعبير المؤرخ الكبير المرحوم كمال الصليبي. ستكون تلك خطوة كبيرة إلى الوراء. وهذه الخطوة ستضيف، «نوعياً»، إلى مخاطر تفتيت لبنان، فيما يتعاظم مناخ التفتيت في المنطقة أيضاً. ولن يستطيع لبنان، التابع والمنخرط حتى العظم في ولاء قواه السياسية والمجتمعية للخارج، أن «ينأى بنفسه»، إلّا على طريقة النعامة، عن مخاطر الانقسام والتشظّي والاحتراب.
الأضرار، حتى الآن، كبيرة جداً. لكن الآتي أعظم، إذا ما استمرّ المسار الراهن. إنّ ما كان بحجم ثغرة قد تحوّل خللاً، وما كان خللاً يصبح خطراً يهدّد البنيان من أساساته. يتدهور كلّ شيء في لبنان: من فكرة المقاومة وعظمتها وانتصاراتها، إلى الفلتان الأمني إلى الحقل الاجتماعي والإنتاجي.
لا ينمو في لبنان، حالياً، سوى التطرف، ولا يزدهر سوى الانعزال والفئوية والارتهان. ومع كل ذلك يتعاظم الشعور باليأس والضياع وسوء المصير. لن نتحدث، مرة جديدة، عن ذلك الخطأ الذي كان «موقتاً» فصار دائماً. لكن لا بدّ من التنبيه والتحذير من أنّ الأمور تعود إلى الوراء في كل المجالات. «العملية السياسية» في لبنان تذهب في عكس المطلوب وعكس التاريخ وعكس المصلحة اللبنانية والعربية. كان من المفترض وسط، أو بعد، الانتفاضات العربية، تحت عنوان التغيير ورفض الاستبداد، أن يتقدم اللبنانيون خطوات نوعية إلى الأمام في تطوير نظامهم السياسي الذي تكلّس واستعصى على الإصلاح، ولو أتاح، بسبب المحاصصة وتنوع الولاءات للخارج، المحافظة على قشرة في مجالات التعدد والحرية والحركة. على نقيض ذلك، جرت الأمور وفق وجهة سلبية بالكامل، إذ استوردنا أسوأ ما حمله مخاض التغيير العربي (وهو مخاض مفتوح ومعقد وطويل ومتعرج) من ظاهرات وسلبيات.
ولا بأس من تكرار أن إنجازاتنا مهددة. فبفعل تشوّه وانحراف خطيرين، بات سلاح المقاومة الذي لعب دوراً مجيداً ضد العدو الصهيوني (ومنذ باشر هذا العدو جرائمه ضد لبنان منذ أواخر السبعينيات خصوصاً)، سلاحاً يجب نزعه وليس، مثلاً، تصحيح وجهته إذا كانت تحتاج إلى ذلك. و«الديموقراطية اللبنانية»، التي كانت فريدة في عالمنا العربي (ولو على طريقة الأعور بين العميان)، باتت بيئة تزدهر في جنباتها الفوضى والتطرف وقلة الهيبة والاتجار بالمقدسات والأديان والمذاهب. وكلّ ذلك من أجل حفنة من الدولارات أو من النفوذ الوهمي في نهاية المطاف.
ولا بدّ من القول، في مجرى كلّ ذلك، إنّه لا يجوز الاستمرار في إدارة الظهر للحقائق والثوابت خدمة للانغلاق والفئوية. لا بدّ من القول إنّ المساواة بين اللبنانيين، أفراداً مواطنين، هي الضمانة. وليست الضمانة في «المناصفة» التي تبقى في جوهرها أداة لمكاسب ذوي المصالح الداخلية والارتباطات الخارجية. إنّ «المناصفة» بالمفهوم السائد، وككل مضامين «الصيغة اللبنانية» مليئة بالأشواك والألغام. ألم يكن بين أوائل الداعين إلى ذلك المطران المتنور والتقدمي غريغوار حداد، فجوبه بالعزل والإبعاد وبالاعتداء، حتى جسدياً، عليه!
أوَليس الأحرى بالمسيحيين الذين يتسابقون اليوم على ضرورة انتخاب نوابهم، أن ينعقد إجماعهم على خطوة تاريخية سيكون لها صداها المدوي في كل العالم العربي، ولمصلحة المساواة في هذا العالم المنكوب بقرون الاستعمار والتبعية بأنظمة التسلط والاستبداد، بين كل أبنائه، دونما تمييز بسبب لون أو جنس أو عرق أو دين.
وأين «الممانعة» والمقاومة اليوم، وقد طغت على المشهد صراعات «بينية» لا تنتهي: بين الدول العربية وداخل هذه الدول، وبين المذاهب، وبين المجموعات الإثنية، فيما تتعاظم الخسائر وتنقسم دول وتتهدّد وحدة أخرى في مسار متفاقم الأضرار باستمرار.
يستطيع اللبنانيون أن يتجاوزوا أنفسهم مرة جديدة. هذا أمر مصيري الآن. مَنْ اجترح المقاومة والانتصارات، ومن دشّن مرحلة التنوع والحرية، لا يمكن إلّا أن ينتفض على نفسه في إنجاز جديد يحتاج إليه لإنقاذ لبنان، وربما العالم العربي أيضاً!
* كاتب وسياسي لبناني