«من نحن عرب إسرائيل؟ هنا داخل إسرائيل يعتبروننا طابوراً خامساً، وهناك يتعاملون معنا كخونة. نحن نعيش في عالمين لا ننتمي لأيّ منهما».الشاعر راشد حسين (1959)
حضرت النكبة كزمن تأسيسي بالنسبة للجيل الفلسطيني الأول، فكان الوطن هو نقطة ارتكاز الخطاب، ولم تكن المشاركة العربية في انتخابات الكنيست، التي بدأت مع تأسيسه عام 1949، إلا تعبيراً عن الطارئ الذي يجب التعامل معه. ما كان طارئاً بفعل الضرورة تحوّل بفعل الزمن، وبفعل إلغاء الحكم العسكري عام 1967، إلى حالة من الثبات، فحلّت الدولة نقطة ارتكاز بدلاً من الوطن، في انزياح سياسي تبعه انزياح ثقافي لاحقاً.

الخارطة السياسية لعرب الداخل

يتوزع الوجود العربي في الداخل على التيارات التالية (بحسب التعامل مع قبة الكنيست):
1_ تيار يدعو إلى تحسين مكانة «العرب» في «إسرائيل»، وإقامة دولتين تعيشان بسلام جنباً إلى جنب، ويتكئ على التعايش العربي اليهودي تحت قيم العدالة الأممية. ويعبّر عن هذا التيار «الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة»، التي تمكنت من الحصول على 4 مقاعد في الانتخابات الأخيرة.
2_ تيار يرى دولة إسرائيل كحالة عابرة وكيان غريب احتل الوطن الفلسطيني. وبناءً على ذلك يتمّ رفض الواقع القائم برمته، والدعوة إلى مقاطعة انتخابات الكنيست التي تعطي شرعية لهذا الكيان الزائل. ويمثل هذا التيار: الحركة الإسلامية بشقها الشمالي، وحركة أبناء البلد.
3_ تيار يسعى لخلق خطاب حدوده قطبي: الدولة والوطن. فالدولة حاضرة ككيان يسعى التيار لتمدينه وجعله دولة لجميع المواطنين، في افتراض مبطّن أنّ المساواة تفكّك طبيعة الكيان الصهيونية، والوطن حاضر من خلال تمثيل هذا التيار للفلسطينيين في الداخل بوصفهم مجموعة تنتمي لعمقها العربي. ويمثل هذا التيار: التجمع الوطني الديموقراطي، الذي حصل على 3 مقاعد في الانتخابات الأخيرة.
4_ تيار «الزعامة الاجتماعية»، وهو قائم على شخصيات ذات حضور خدماتي في «المجتمع العربي»، وتغيب البرامج السياسية ولا تحضر إلا بعروض ومرافعات داخل أروقة الكنيست، فيما تمثل الخدمات العمود الفقري لتحرّك هذا التيار. ويمثله القائمة العربية الموحدة، التي حصلت على 5 مقاعد في الانتخابات الأخيرة.
لقد وصلت نسبة مشاركة العرب في انتخابات الكنيست منذ أكثر من أربعة عقود إلى 75%، وأخذت هذه النسبة تنخفض إلى أنّ وصلت لـ53% في انتخابات عام 2006، و56% في انتخابات عام 2009. ورغم أنّ النسبة قد ارتفعت ما يقارب 3% في انتخابات 2013 إلّا أنها عملياً تراجعت إذا أخذنا بعين الاعتبار زيادة نسبة التصويت بشكل عام.
وإذا استثنينا نسبة الامتناع الطبيعية التي تشهدها أغلب المجتمعات في الانتخابات، وهي 30%، فإنّ مشاركة العرب كانت فيما مضى تشي بوجود أمل في تحقيق إنجاز ما من خلال هذه المشاركة، ولكن موقف اللامبالاة آخذ في الازدياد وهو يرتفع أكثر في المناطق الفقيرة والمهمشة، وهو ناتج من لامبالاة أكثر من كونه موقفاً سياسياً يستبطن مشروعاً بديلاً، بدليل أنّ نسبة المشاركة في مدينة أم الفحم ــ معقل الحركة الاسلامية (الشقّ الشمالي) ــ قد وصلت إلى ما يقارب 56%.
لم تجر عملية تقويم شاملة لأداء «النواب العرب»، وفحص مدى فاعلية تواجدهم تحت قبة الكنيست. إلّا أنّ الأرقام تخبرنا أنّه تمّ تمرير 8 قوانين عنصرية خلال الفترة المنصرمة. وهو ما يعني ارتفاع العنصرية البرلمانية إلى 6 أضعاف، حيث تمّ اقرار 32 قانوناً خلال 59 سنة، مقابل 8 قوانين خلال 3 سنوات ونصف السنة المنصرمة.
كما أنّ وجود الأحزاب العربية لم يقف مانعاً أمام ظاهرة التصويت للأحزاب الصهيونية من قبل «الوسط العربي»، بل لقد سُجّل تزايداً لهذه النسبة. حيث صوت نحو 57 ألف عربي لصالح الأحزاب الصهيونية. هذا يعني بلغة الأرقام أنّ 6 من 10 ممن يحق لهم الاقتراع قد شاركوا في التصويت بشكل عام. و1 من الـ6 قد صوّت لحزب صهيوني، وهذه الأصوات أنقذت حزب كاديما من الموت، وجعلته يتجاوز نسبة الحسم 2%.

القبة الحديدية والقبة البرلمانية

لم تكن القبة الحديدية مجرّد اقتراح أمني تقدّم به عمير بيرتس للقضاء على صواريخ المقاومة، بل هي نموذج ماثل لآليات السيطرة على الفضاء، إذ يراد لصاروخ المقاومة أن يسقط تحت سطوتها ويتبعه بشكل آلي سقوط المقاوم الذي يقتنع بانغلاق الفضاء أمامه، فضاء السماء الفيزيائي، وفضاء امكانات الفعل الخلاق، خارج ما هو قائم.
وعملية المقاومة تتجاوز المعارضة من حيث المنطلقات الفلسفية والسياسية، فالأولى تبحث عن نقاط ارتكاز خارج النظام المزمع مقاومته، فيما تجلس المعارضة على أرضية النظام وتستخدم لغته لكي تحسّن من شروط وجودها فيه. لقد حلّ نموذج المعارضة محل نموذج المقاومة، في ما يتعلق بالحركة الوطنية في الداخل المحتل فنجحت دولة «إسرائيل» في جعل الخلاف السياسي يجري تحتها وليس عليها، وفي أكثر اللحظات الثورية كانت طبيعتها محل اعتراض وليس وجودها.
ووفق هذا التفسير، سنقرأ الدعاية الانتخابية للتيارات العربية المشاركة في انتخابات الكنيست. قدمت «الجبهة» نفسها، دون مواربة، كحزب يسعى للتعايش تحت هذه الدولة بين العرب واليهود وبكلمات واضحة حدد مهمته ــ في برنامجه الانتخابي الأخير ــ وهي: «انقاذ الشعبين من سياسات اليمين»، وبرزت ملصقاته الانتخابية واصفة الجبهة بأنها القائمة التي يخشاها المتطرفون من الجهتين، في مساواة للمُستَعمر والمستعمِر. ويساعد هذا الموقف على فهم رفض الجبهة الدخول في تحالف عربي، وهو ما برّره رئيس كتلتها البرلمانية محمد بركة على «أنّ قرار رفض التحالف هو لمصلحة الجماهير العربية»! في حضور للجماهير كشعار وغياب كمضمون.
فيما وصلت مقولة «دولة المواطنين» التي دشّنها «التجمع» إلى مداها، في الوقت الذي انطلقت فيه لاحراج الدولة وجدت نفسها وفق صيرورتها الداخلية تحارب اليمين المتطرّف، وتدعو لشطبه أسوة بدعوة الأخير لشطب النائب حنين الزعبي، وبدا الأمر وكأنّ التجمع يناضل ضد «اليمين المتطرف»، ويشدّد على وصفه بالمتطرف مع أنّ الصهيونية بحكم التعريف والممارسة هي بنية متطرفة، ولكن استخدام لغة الدولة في مقارعتها هو فضاء محدود سيتنتهي بمحاصرة هذه المراوغة في تناقضات الخطاب، وستجد نفسها أمام «توزيع العبء» الذي نادى به يائير لبيد النجم السياسي الصاعد في المشهد الاسرائيلي، فما دامت الدولة مطالبة بالمساواة بالحقوق فمن حقها فرض الواجبات بالتساوي، ومنها التجنيد الإجباري في الجيش.
حدث انزياح على مستوى الخطاب السياسي بالنسبة للتجمع، فمن مضمون «لمين تاركينها» في عودة هاء الضمير على البلاد، أصبحت «لمين تاركينها» في عودة الهاء على الدولة مع حضور أقطاب اليمين في خلفية الشعار. حضور يؤكد غياب «هاء» البلاد، التي استعمرتها الحركة الصهيونية بجميع أقطابها.
شكّلت القبة البرلمانية، كالقبة الحديدية، أداة ضبط بيد المستعمر للحدّ من فضاء العمل المقاوم، حتى استقر بالوعي الوطني أنّه لا امكانية للفعل خارج حدودها، حتى أصبح «صوتك دليل وجودك»، وفق أحد الشعارات التي تحثّ عرب الداخل على المشاركة في الانتخابات دون الانتباه لانتهاء الوجود فعلياً، حين حصره بآلية واحدة حدّدها المستعمر سلفاً.

الفوارق المتخيّلة في «الدولة»

تحاول إسرائيل تقديم نفسها كدولة ديموقراطية حديثة، ومن مسلتزمات ذلك أن يكون تحت جسم الدولة تنوع سياسي يشي بحراك وحياة المجتمع، بينما في الواقع هناك «مجتمع ذو بعد واحد»، ودولة اختفت الحدود بينها وبين المجتمع في اختلاط أضرّ بالثاني وعزّز الأول. فلذلك تبدو المعارضات (يمين، يسار، متدين، علماني) وهمية ومتخيلة، لأنها لم تتجاوز الإطار العام للنموذج السلطوي، وكل الخلافات تؤكد الهيمنة اليهودية في الدولة.
يساعدنا هذا التفسير في فهم الانتقال السريع لأصوات ناخبي حزبي «العمل» و«ميرتس» إلى حزب «كاديما» في انتخابات عام 2009. هكذا ظهرت «كاديما» فجأة بدون تاريخ وبرنامج سياسي واضح ليطمس الفروق الشكلية بين «يسار» و«يمين»، كما لم تذهب الأصوات التي خسرها «الليكود ــ إسرائيل بيتنا» في الانتخابات الأخيرة إلى مايسمى بمعسكر الوسط، والذي يضمّ حزب «العمل» وحزب «الحركة»، وإنما كانت من نصيب شخصية صحافية برزت فجأة، (رئيس حزب «يوجد مستقبل» يئير لبيد)، وفي هذا الأخير تختفي الحدود الشكلية بين اليمين واليسار الإسرائيلي مجدداً. هذه العلاقة التبادلية المرنة بين اليمين واليسار هي النتيجة والسبب لمجتمع أحادي البعد، يستعبد أيّ جدل حقيقي خارج حدود اجماع الدولة ــ المجتمع الصهيوني.
لقد بات واضحاً أنّ الخط الأخضر لم يكتسب احترامه على الأرض بفعل مشروع الاستيطان، كما لاحظ ذلك الكاتب الإسرائيلي يهودا شنهاف في كتابه «في مصيدة الخط الأخضر». وهو ما يعني أنّ هذا الخط قد حضر كزمن أسطوري يوضع خارج التاريخ ويكتسب مكانة مستقلة بذاته، يحتاج إلى هذه الأسطورة (الخط الأخضر) اليسار ليبرر تمايزه عن اليمين، فيما ليس بالضرورة أن يكون التمايز له حقيقة على الأرض. وتحتاج الأنظمة العربية للإيمان بذلك كتعويض عن فعل سياسي جدي؛ فدعت جامعة الدول العربية العرب في الداخل للتصويت بهدف افشال «اليمين المتطرف»، ولأنّ إسرائيل كانت تحتاج لليمين واليسار لتقدّم نفسها كدولة حديثة وديمقراطية، فإنّ انغلاق فضاء الفعل السياسي يحتاج لتصديق ذلك أيضاً.
ما وصفه الشاعر الفلسطيني، راشد حسين، يعبّر عن ارتباك الهوية في مواجهة فظاظة الواقع وغياب المشروع السياسي. غيابٌ جعل محمود درويش يقول إنّه: «كُتب على الشاعر أن يكون مؤرخاً، وجغرافياً وأسطورياً، وسياسياً ومحارباً».
* كاتب فلسطيني