بات من الواضح اليوم أنّ الانعطافة الجذرية في مسار «الثورة» قد حدثت. وهي انعطافة مرشّحة للإتيان على كلّ التصنيم الذي أحيط به «النضال السلمي» منذ رحيل حسني مبارك حتى الآن. قد يرتعب البعض من فكرة مماثلة، وقد يعدّها آخرون إجهازاً على «الثورة» برمّتها لا على شكل من أشكال مزاولتها فحسب. وقد بدأنا نسمع هذه الأصوات مبكّراً، حتّى قبل وقوع المجزرة الأخيرة في بورسعيد. بإمكان هؤلاء أن يقولوا ما شاؤوا عن المخاض الراهن، إلّا أنّ الفوضى التي بتنا في قلبها الآن ما عادت قابلة للاحتواء بغير الأدوات التي تعرّفها بأنها... فوضى. لنقرّ بذلك أولاً، «تماماً كما فعلنا» قبلاً في سوريا، وبعدها لكلّ حادث حديث. دعونا نقول أيضاً إنّ مصر ليست استثناء في هذا. المراحل الانتقالية عادة تحتمل مجازفات كبيرة، وعبورها ليس بالضرورة أن يأخذ شكلاً واحداً، وإلّا لكنّا قد استنسخنا تجارب لآخرين عرفوا كيف يتخلّصون من ديكتاتورياتهم بأقلّ قدر ممكن من الخسائر (الأرجنتين وجنوب أفريقيا مثلاً). علينا قبل ذلك أن نفهم معنى أن يضحّي المرء بحياته لكي يحيا غيره بشروط أفضل. شروط لا يمكن تحصيلها من الطبقات المسيطرة بغير العنف والدم و...الفوضى المنظمة، طبعاً إذا اقتضت الحاجة ذلك. هكذا فعل نيلسون مانديلا لسنوات قبل أن يتخلّى عن الكفاح المسلح ضدّ نظام الفصل العنصري، وكذا الأمر مع ضحايا حقبة الديكتاتوريات العسكرية في الأرجنتين. لا يحتاج المرء إلى من يخبره عن الثمن الذي دفعه هؤلاء حتى يصلوا إلى ما وصلوا إليه من «استقرار» وقطيعة مع الماضي (ماضي الطبقات المسيطرة). غير أنّهم فعلوا ذلك بمعيّة الانتقال الديموقراطي لا بمعيّة «الثورة» ومترتّباتها. وهذا سبب إضافي للقول باختلاف التجربة الانتقالية هنا عن سواها من تجارب حدثت في العالم. سيبدو رفض الفوضى والارتياب بها بعد كلّ ذلك فعلاً ينتمي إلى الماضي أكثر من انتمائه إلى المستقبل، أو إلى الرغبة في حقن الدم كما يقال. لا يمكن أصلاً لمن يزعم أنه يخوض تجربة ثورية تفادي المرور بامتحان الفوضى في مواجهة السلطة وهي تتحلّل. فكيف به إذاً وهو يجرّ كلّ المجتمع أو معظمه إلى صراعه مع السلطة! سيفترض البعض كما سبق أن ذكرنا أنّ هذا هو أسوأ ما في الأمر، وأن جرّ المجتمع إلى الفوضى أمر له ما بعده. طبعاً لكلّ امرئ الحقّ في مزاولة الرياضة الذهنية كما يشاء، إلا أن التحوّلات التي تطرأ على الواقع تسبقنا جميعاً وتطرح علينا أسئلة لا يمكن التعامل معها دائماً بانتقائية أو بمنطق أفعال التفضيل. والواقع في مصر الآن يقول لنا إنّ الثورة قد أصبحت في مربّع العنف. صيرورة الكتلة المنتفضة فرضت ذلك، وكذا تعامل السلطة معها ومع تحوّلاتها المختلفة. وهذا ليس بغريب عن الطبيعة الأصلية لفعل القطيعة. الغريب ألا يكون كذلك، وأن نتأخّر إلى الآن في بلوغ مرحلته الحالية. لن نفرط طبعاً في استدعاء الماضي وفي الاشتغال على الكتالوغ الذي يحلو للبعض استخدامه عندما يتعلّق الأمر بسوريا فقط. لقد سبق أن أشرت إلى ضرورة الاستعانة بهذا الأخير، لكي لا تنتقل الفوضى المرافقة لهدم السلطة إلى المجتمع. فعندما يحصل ذلك لا نعود متأكّدين أننا إزاء ثورة حقّاً أو إزاء قطيعة مع البنى السابقة لوقوع الثورة تلك. في سوريا ترافقت الديناميتان طويلاً، لا بل سبق التفكيك الذي أصاب المجتمع تفكيك السلطة أحياناً. وهو بالتحديد ما جعل المرء يقف على مسافة ممّا يجري هنا، لكن في مصر الأمر مختلف كثيراً. لا يبدو صائباً أن ننسب ما يجري هناك الآن إلى نظرية العنف الأهلي. حتى حالة الاستقطاب التي سبقت الأحداث الحالية لم تكن مهيّأة لاستدعاء هذا النّسق المدمر من العنف. لا بل كان الاشتغال عليها يروم العكس غالباً. فكلّ ما طالبت به الكتلة التي انتفضت ضد «الإخوان» منذ إطلاق محمد مرسي إعلانه الدستوري المشؤوم كان مبنياً على اعمال السياسة فحسب. وما حدث بعد ذلك كان نتاج رفض السلطة الاخوانية لمزاولة السياسة تلك. اليوم يدفع «الإخوان» وحلفاؤهم ثمن الرفض ذاك من كيسهم ومن رصيدهم الصفري أصلاً. واليوم أيضاً يواجهون بمن يطرح عليهم سياسة مغايرة لتلك التي طرحتها عليهم النخبة المعارضة. بإمكانهم كسلطة أن يستمرّوا في إنكار مسؤوليتهم عن إيصال قطاعات متعاظمة من الشباب المصري إلى اعتناق العنف كوسيلة للمواجهة، لكن ما لا يستطيعون فعله ينتمي بدوره إلى حالة الإنكار. إنكار حجم التآكل الذي أصاب سلطتهم جرّاء استدعائها لعنف المجتمع في مواجهة معارضيهم «السلميين» والنخبويين. ليس ثمّة شك في أنهم يتمنون اليوم إعادة عجلة الزمن قليلاً إلى الوراء. ربما لو فعلوا ذلك وراعوا بعض الشيء الحساسية المجتمعية التي تصدر عنها المعارضة لما كانوا قد وجدوا أنفسهم في مواجهة كتل لا تعرف خوض السياسة إلا بالدراع - بالعامية المصرية-. لنقل إنّ هؤلاء الشباب يضعون الذراع كاحتمال بين احتمالات عديدة أخرى، ولا يلجأون إليها إلا لدى استنفادها جميعاً. ثمّة أفق يتحرّك هؤلاء داخله بخلاف الدعاية السامّة التي يواجهون بها اليوم من السلطة الاخوانية و «عملائها» من الإعلاميين. والأفق ذاك ينتمي إلى فكرة الثورة وتجذيرها أكثر بكثير مما يفعل الناشطون الذين حافظوا على سلميتها حتى الآن. هذه هي السياسة أصلاً. أن تعرف كيف تطوّر استراتيجيتك في مواجهة خصم لا يتوانى عن فعل أيّ شيء لهزمك، ولو وصل به الأمر إلى المنازلة العضلية البحتة (الاختطاف والتعذيب أمام قصر الاتحادية). لم يكن مقدّراً للتظاهر السلمي أن يفعل ذلك، وحين انتقل إلى مربّع الاشتباك المحدود - منازلات محمد محمود والعباسية و...الخ- بقي عاجزاً عن الحفاظ على الأرض التي انتزعها بقوة تماسكه الداخلي وبسلميته المكتسبة من خبرة الثورة وكتيباتها الملونة. وهذا ما يفسّر أيضاً انفضاض كثير من دعاة السلمية داخل الكتلة التي صنعت «التغيير» عن منهجهم وانتقالهم إلى مربّع التبرير للعنف. لم يكن هذا هو الحال حتى في ذروة المواجهات مع الداخلية والمجلس العسكري العام الماضي. فمقابل صوت واحد يدعو إلى توسّل العنف ضد الأمن والجيش كان هنالك عشرات الأصوات التي تنادي بالعكس وتربأ «بالثورة» أن تنزلق إلى الفخّ الذي ينصبه لها أعداؤها من العسكر والأمنيين. سيكون «الإخوان» محظوظين جداً إن وجدوا من بين هؤلاء من يتكلّم أصلاً عن السلمية كخيار ممكن اليوم. لقد جرّبت النواة الصلبة للثورة تفادي هذه الانعطافة ردحاً من الزمن، وفي كلّ مرة فعلتها كانت تكتشف أنها تقترب أكثر من لحظة المواجهة. واللحظة الآن هي للمواجهة بقدر ما هي للفوضى ولتنظيم هذه الأخيرة في مواجهة عسف السلطة. لا يمكن لأولئك الشباب أن يتركوا البلد لفوضى صنعها الإخوان وعمّموها على المجتمع ومؤسّساته. عليهم أن يدافعوا قدر الإمكان عن مكتسباتهم التي باتت بالضرورة مكتسبات للمجتمع بأكمله. حقّ الإضراب والتظاهر وحقّ المرأة في مزاولة نشاطها ضد السلطتين القمعية والذكورية وحقوق العمّال والفلاحين ليست أموراً يسهل تركها كيفما كان للسلطة الاخوانية، كي تتصرّف بها، وتحوّر في بنيتها بما يتناسب مع رؤيتها للعمل ولتوزيعه طبقياً داخل المجتمع. لو بقيت المواجهة مع «الإخوان» مقتصرة على ما تفعله «جبهة الإنقاذ» (مشكلة الجبهة الأساسية أنها «يمينية» أكثر من اللازم) وناشطوها القاعديون لالتهمت السلطة كلّ تلك الحقوق، ولأصبح «إنفاذها» - أي الحقوق - خاضعاً «لقوننة دستورية» مقلوبة. قوننة لا يعترف أصحابها من غلاة اليمين الرجعي بأنّ للمرأة كياناً أصلاً، ولا يتعاملون مع العمّال والفلاحين إلا بوصفهم وقوداً لتحريك العجلة الإنتاجية التي يشرف عليها أرباب العمل الشرفاء! المعطى الطبقي هنا حاضر بقوّة في خلفية ما يحدث من صدامات رغم تواريه خلف العناوين السياسوية العريضة «المحرّكة» للمشهد العام.
لا ينتبه كثيرون مثلاً إلى حقيقة نهوض الفعل الاحتجاجي الجديد على قواعد بشرية تنتمي إلى المهمّشين وقاع الطبقة الوسطى أكثر من انتمائها إلى المجتمع الذي أسقط مبارك وزمرته قبل سنتين. بالطبع كان لأولئك المهمّشين نصيبهم من عملية الاسقاط، لكنهم لم يكونوا يتصدّرون المشهد كما يفعلون اليوم. لا يتعلّق الأمر كما يبدو للوهلة الأولى بالفكرة النمطية عن «ثورة الجياع». لنقل أيضاً إن هؤلاء لا يمثّلون بديلاً للكتلة الاحتجاجية المنسحبة على ضوء الانحسار العام للنهج السلمي، وتغليبهم لغة العنف على ما عداها ينقصه تحويل هذه الأخيرة إلى وسيلة فحسب. وسيلة من ضمن وسائل أخرى كثيرة لتحطيم عنجهية «الإخوان» ومموّليهم ولفرض قضايا المهمّشين والمرأة والعمّال كأولوية على أجندة القوى المصطفة ضدّهم - أي ضد «الإخوان». وقبل هذا وذاك يجب أن يكون واضحاً لدى أولئك الشباب أن الوعي باستخدام العنف لفرض وقائع على السلطة الطبقية المهيمنة أهمّ بكثير من الوعي به كذات مستقلّة ومنفصلة عن الواقع المراد تغييره. والفارق بين الأمرين يحتاج إلى شروح طويلة تفيدنا مجدّداً عن أصل المواجهة لا عن فروعها. المواجهة لا تزال قائمة وستستمرّ في التصاعد، وما يعيننا على تجذيرها هو إدراكنا في هذه اللحظة بالذات أنّها طريق إلى الثورة وليست ثورة في حدّ ذاتها. ربّما هي موجة جديدة كما يقول البعض، وربّما تكون قوة دفعها أكبر هذه المرّة نظراً إلى وجود المهمّشين بكثافة في متنها. الأرجح كذلك أنّ ذاك الوجود سيفتح الاحتمالات جميعها، وسيوفّر على المصريين كثيراً من الدماء. فالقليل من العنف اليوم قد يغني عن مواجهة مفتوحة لا أحد يعلم كيف ستنتهي، والقليل من الفوضى أيضاً أفضل من إشاعتها وتعميمها على مجتمع «مستعدّ أصلاً لتلقّفها». تقريباً هذا هو الفرق الآن بين نهجين في مزاولة السياسة «من موقع فوضوي»: الأوّل يستخدم الفوضى كأداة لإجبار السلطة على التنازل بما يتناسب وقدرة المجتمع على التحمّل، والثاني يستبق فرض الوقائع عليه بزجّ المجتمع في فوضى مدمّرة لا ينفع معها تنظيم ولا تقنين. حتى الآن لم ينفع النهج الثاني مع المصريين رغم كلّ ما بذل في سبيل تعميمه، لكن هنالك من يشكّك أيضاً في قدرة النهج الأول على الصمود والاستمرار.
لنكن واضحين أكثر: ما سيجعل الفوضى في مواجهة السلطة ممكنة ومتاحة على نحو أفضل هو القدرة على إعطاء المثال. بور سعيد والسويس تفعلان ذلك اليوم، تماماً كما فعلت درعا وحمص بالأمس في سوريا، لكنّ الأمس قد مضى لحاله هناك، وما علينا في حالة مصر إلا تجميده عند لحظة الذروة: انتفاضة مدن القناة ضد حكم «الإخوان». ثمّة دينامية في التجميد أحياناً، وفي القدرة على توليد الشيء من عكسه. لا يحتاج الأمر إلى أكثر من ذلك. عمّموا نموذج بور سعيد والسويس والاسماعيلية على حواضر مصر جميعها، وسترون كيف تجبر الفوضى السلطة على الركوع. حين يحدث ذلك سيبدو مشهد أبناء الإسماعيلية وهم يلعبون الكرة أثناء حظر التجوال الذي فرضه عليهم مرسي مجرّد تفصيل، بدلاً من أن يكون الصورة كلّها.
* كاتب سوري