تكثّف ظهور الأسطول الروسي في المتوسط منذ بداية الأزمة السورية، وبدأت زيارات القطع البحرية لمرفأ طرطوس تصبح ملحوظة، ومع الوقت بدأت تثير الاهتمام، بينما راح المراقبون يتحدثون عن القاعدة العسكرية الروسية هناك، باعتبارها سبباً رئيساً للموقف الروسي الحازم في مجلس الأمن؛ والحقيقة أن الاتحاد السوفياتي بقيادة غورباتشوف أضاع وتخلى عما هو أهم من سوريا، فضلاً عن قاعدة طرطوس. بينما كاد يلتسن أن يتخلى عن وحدة الأراضي الروسية نفسها، سعياً للحفاظ على علاقات «الصداقة» مع الغرب.وهنا، يجب على المرء أن يقرّ بتغيّر الزمن، الذي يصطفي رجاله كل حين، وأن نعترف بأن الاتحاد السوفياتي غاب لأن غورباتشوف حضر بكامل «ابتسامته»، وأن روسيا توارت وراء أزماتها لأنّ يلتسن كان يجد أن وفاءه لزوجته يعني بالضرورة أنه مخلص لروسيا، بينما لم يكن لديه من طاقة لمواجهة أزمات بلاده، فقد كان عليه أن يعالج صباحاً بعد آخر صداع ما بعد السكر. ظهر عقب غورباتشوف ويلتسن، أبناء مؤسسات وأجهزة الدولة، التي أهينت وجرى امتهان هيبتها ومنعتها، بسبب قادة حزبيين جاءت بهم التصاريف الكارثية التي جمدت قدرة «الحزب القائد» و«طليعة المجتمع» على تجديد نفسه، فابتدأوا عهداً جديداً ويقينهم أنّ الفرصة التي واتتهم مرة، لن تقترب منهم مرة أخرى، وأنّ المشكلات مهما كانت عاصفة وساخنة مع العالم فهي ليست بالسوء الذي تمثله المشاكل الدخلية، ولا سيما مع فقدان الشعبية لدى النواة الصلبة المتمحورة حول فكرة روسيا بين الروس وغيرهم من أبناء القوميات التي تعتد بتاريخها المشترك مع الروس، ولا سيما في إطار دولة الاتحاد السوفياتي.

قاعدة اجتماعية

أبناء مؤسسات وأجهزة الدولة هؤلاء، الذين يمثلهم بوتين بالدرجة الأولى، أدركوا أنّ صلتهم بالمجتمع، وموقعهم فيه يتحددان بموقف «الحزب» الأوسع انتشاراً في روسيا وهو الجهاز البيروقراطي للدولة، الذي كانت السيطرة عليه تعني النفوذ في المجتمع والسيطرة التامة على الدولة والغلبة المؤكدة في أيّة معركة سياسية داخلية، وفي موازنة ذلك، ولتلافي الطحن في مفرمة المساومات والتنازلات والعيش في دوامة الرضى والغضب الذي يعيق أي مساس بهذا الجهاز، خطا هؤلاء خطوات مباشرة نحو أهم شريحتين في المجتمع وأكثرهما عدداً واتساعاً وتوزعاً جغرافياً وديموغرافياً: الجيش والمعلمون، من خلال اهتمام مباشر أعطى لهما الأولوية في الإفادة من المقدرات التي أتيحت للدولة من خلال ارتفاع أسعار النفط.
وهكذا، بدلاً من تدليل المصرفيين ورجال «البزنس» العنيف والعصابات، محبوبي يلتسن وأمله (كان قد صرح مرة بأنهم أمل الأمة وإن كانوا «الآن» مجرمين)، توجّه رجال روسيا الجديدة إلى الاستثمار بسخاء في هاتين الشريحتين، اللتين كانتا تمثلان هيبة الاتحاد السوفياتي (القوة ودولة التعليم والعناية بالأطفال)، ومما يقال هنا، إنه جرى رفع رواتب الجنود والعاملين في قطاع التعليم عشرة أضعاف، مع إعادة الاعتبار إلى المؤسسة العسكرية والمدرسة والعاملين فيهما.
الفكرة باختصار، تتمثل في تشكيل قاعدة اجتماعية ضرورية في بلد أضحى بكامله في لحظة ما، حياً نيويوركياً من ثلاثينيات آل كابوني، يبحث كل فرد فيه عن زعيم عصابة يقدم إليه الطاعة والولاء و«الجباية» اللازمة ليحظى بالحد الأدنى من الطمأنينة والشعور بالأمان. وإلى جانب منتسبي القوات المسلحة والأمن والجهاز التعليمي، كان هناك عالم المال والأعمال (ولا سيما الشرائح المتوسطة والصغيرة الأوسع انتشاراً) الذي استفاد من استتباب الأمن في المدن وعودة الاعتبار إلى القانون، إلى جانب منتسبي الجهاز البيروقراطي للدولة تحققت معادلة استقرار داخلية، فرضت من ذاتها لاستكمال عوامل الاستقرار وتحفيز الفكرة الروسية ذات الجاذبية، بالحديث عن المصالح الروسية في الخارج، التي ليس من المصادفة أنها موجودة فعلاً. لم يلفت ذلك اهتمام المواطنين الروس فقط، بل كان هذا بحدّ ذاته يمسّ هموم جاليات روسية كبيرة عالقة في الجمهوريات السوفياتية السابقة، وقوميات أخرى في الداخل وفي المجال الروسي الحيوي، الذي يمتد بامتداد أراضي الاتحاد السوفياتي السابق (من هنا حديث بوتين عن الجاليات الروسية ومجال الناطقين باللغة الروسية)؛ وهذا أحيا الارتباط الاجتماعي والثقافي في جمهوريات سوفياتية اجتاحها التأثير الأميركي والغربي.

جاهزية للخارج

بهذا تبدو روسيا مستعدة. وتعيش لأول مرة منذ عقود ارتياحاً داخلياً، تدرك أنها لن تحتفظ به لمجرد أنها حققته، بل بقدرتها على الاستجابة لممكناته الكبيرة، التي تمد ظلال التأثير والفعالية وتأمين المصالح الروسية بما يتناسب مع بلد يكاد يكون الأكبر امتداداً في العالم، وثاني بلد من حيث منعته، والأهم من حيث ثرواته الطبيعية، وقدراته البشرية. وهنا يجري الحديث مباشرة عن الحضور الدولي خارج حدود السياسة والدبلوماسية. ومن يراقب الوزير سيرغي لافروف يدرك أنّه من ذلك النوع من البشر، الذي يكره في مهنته أنها تكتفي بترجمة الإرادة إلى مجرد ورق، وأنه في حياته المهنية كان يفتقد دائماً القوة القادرة على التهديد، التي تفيه من التكرار والصبر على تكرار الآخرين لكلامهم ومواقفهم في الرد عليه.
وهذه حاجات تحتاج إلى مقومات، ومقومات تجد ترجمتها في برامج التسليح غير المعهودة في تاريخ روسيا، في عهودها الثلاثة الروسي والسوفياتي ثم الروسي. وما الجموح الروسي الحالي في الحالة السورية، إلا مظهر من مظاهر تصفية القلق الداخلي، وتسوية الانهيار الاقتصادي، واستعادة مكانة الدولة المركزية وهيبتها. وهي كذلك حاجات تلبيها ميزانيات البحث العلمي في مجالات التسلح والفضاء والتكنولوجيا الرقمية وبرامج التنمية، التي تستعيد قيم الوطنية المتمحورة حول فكرة الدولة العظمى، التي أهدرها كل من غورباتشوف ويلتسن. وبطبيعة الحال، فإنّ الجاهزية للخارج تتحدد بعوامل عديدة منها درجة الاستعداد المرضي على نحو خاص للبحرية والأساطيل، ولها بالنسبة إلى الروس موعدان، الأول عام 2016، وفيه تجري مرحلة من مراحل التحديث والتسليح، والثاني عام 2020 مع اكتمال الخطة الموضوعة لتحديث التسليح والجيوش، التي كانت إلى ما قبل وقت قريب تعاني تدني نسبة حداثة تجهيزاتها.
ورغم ذلك، يمكننا أن نتأمل مؤشر وزارة الدفاع الروسية للفرص في ظروف وقوع حرب (العدو المفترض لهذا المؤشر هو الولايات المتحدة)، ويشير إلى 52% لمصلحة الروس. ويمكننا أن نعدّ هذا المؤشر العلني مجرد دعاية نفسية، غير أنه يجدر بنا في المقابل مراقبة المشهد السياسي الدولي ومواقع الفاعلين فيه، والنظر في الأفق للتحقق من هوية القادم من الشرق، ومعرفة شخصية المبتعد نحو أفق الغروب.

سوريا... سوريا

في هذا السياق كله، حكاية لروسيا مع التدخل الأطلسي في يوغوسلافيا، وأخرى مع العراق، وثالثة مع ليبيا أكثر فصولها باتت معروفة، لكن لها حكاية مع سوريا لا تزال تثير المخيلة. والتفكير يذهب تلقائياً إلى طرطوس. تلك القاعدة التي بذل السوفيات جهداً مضنياً في اقناع الرئيس حافظ الأسد بمنحهم إياها. وكان الاتحاد السوفياتي حينها (مطلع الثمانينيات) يملك نقاط امداد عديدة، في «كام رانه» (فييتنام) وجزيرة سوقطرة (اليمن الجنوبي) وجزر سيشل وكوبا، إضافة إلى أنّ السواحل كانت مليئة بالسواحل الصديقة، الخارجة عن النفوذ الأميركي. وبذلك، فإن طرطوس تبدو اليوم أهم مما مضى، على الأقل لأنّ الروس لم يعودوا يملكون خارج بلادهم قواعد بحرية سوى اثنتين: الأولى القاعدة السوفياتية السابقة على البحر الأسود (سيفاستوبول) التي صادف أنها بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واقعة في حدود أوكرانيا (جرى ترتيب وضعها بعد منازعات)، والثانية بعد الخروج من مضيق البوسفور في طرطوس بسوريا.
أهمية طرطوس تزداد، وعلينا أن نتذكر أنّ الروس الذين يواجهون استحقاقاً خارجياً، مهتمون بإيجاد المنافذ وهم يتفاوضون اليوم على إعادة تشغيل نقاط الإمداد البحري السوفياتية السابقة، وهم كذلك معنيون بالتأكيد على احترام القانون الدولي، ومنه ما يتعلق بالممرات المائية بما يضمن لأساطيلهم حرية الحركة، ويسعون إلى إيجاد مزيد من التفاهمات المساعدة. وما مجاملتهم لمصر ـــ مرسي إلّا لأنها في النهاية تسيطر على قناة السويس، لكنها في المقابل لا تسيطر على عقلها السياسي. لذا، فالفكرة بالنسبة إليهم ليست في التخلي عن طرطوس، لكن في إيجاد المزيد منها.
ولنعرف هنا، أنّ قطع الأسطول ذات المهمات الطويلة، كانت في العهد السوفياتي قبل ظهور طرطوس تلجأ إلى الرسو في مياه دولية ضحلة نسبياً، لإجراء عمليات التفقد والإصلاح والتموين في عرض البحر. بينما يزيد من صعوبة تخلي الروس عن طرطوس، أن قطع البحرية الروسية تؤدي مهمة دائمة في خليج عدن لمكافحة القرصنة، وتحتاج إلى نقطة إمداد قريبة. وفي الظروف المستجدة، التي تغيّرت فيها لغة البحرية الروسية من الحديث عن «مهمات تدريبية روتينية» إلى الحديث عن «استقرار المتوسط»، فإنّ القاعدة البحرية الروسية الواقعة على ساحل الأزمة السورية، تمثل الحجر الأساس في خطط الوجود المنتظم اللازم لهذه المهمة.

التدخل الروسي

الاهتمام الشديد بمناورات البحرية الروسية، لا يتعلق بحجمها في الحقيقة، لكن بعلاقتها بما يجري بسوريا، وبإمكانية أن يفعل الروس ما فعلوه بمجلس الأمن (يكاد ذلك أن يكون جواباً عن التساؤل!) فيتدخلون في سوريا في لحظة ما دون اعتبار للأميركيين. وهذا أصعب الأسئلة على الإطلاق. لكن مجرد كونه أضحى سؤالاً صعباً فهو يشير إلى حجم من الاحتمالات غير المتوقعة. بينما الدعاية المضادة ضد الرئيس السوري، التي روجت أنه سيلجأ في النهاية لإقامة دولة على الساحل، وقالت لاحقاً إنّه يقطن على بارجة روسية، تفضح تقديرات وتخوفات دول مطلعة على حجم الاستعداد الروسي، ومستوى الرسائل المتبادلة خارج اللقاءات العلنية بين موسكو وواشنطن.
بطبيعة الحال، يعرف الجميع، أنّ الروس عاشوا تجربة قاسية بتدخلهم العسكري في أفغانستان، وهذا أوجد حالة أشبه بالاجماع العام بعدم إرسال أيّ جندي للقتال خارج الحدود، وأن الخارج هو مسرح للعمليات الاستخبارية، حصراً، لا أكثر من ذلك، لكن هذا كله كان في عهدَي غورباتشوف ويلتسن. أما روسيا الحالية، فهي جامحة دون استعجال وتجاوز للتجارب المريرة، وتلفتها الحسابات التي تنصب على سؤال: «ماذا لو..؟». وهذا السؤال يجري التحوط له ببرنامج التسلح الذي يعزّز عدد القطع البحرية وقدرتها، وحجم القوات البرية العاملة عليها، والتجهيزات الصاروخية، وردع الأعماق (الغواصات).
وهنا، يلفت الانتباه، أن قائداً من البحرية الروسية كان قد أعلن في الخريف الماضي أن روسيا تضع في اعتبارها حالات الاضطرار للعمليات الخارجية، وأن فرقة من هذا الاختصاص يجري تشكيلها لمواجهة عمليات الإرهاب. وليس أسهل على الروس اليوم أن يصنفوا حكومة الولايات المتحدة كواحدة من الخلايا النائمة لتنظيم القاعدة.
غداً: روسيا وسوريا: مهمات واختصاصات
* كاتب أردني