شخص واحد يعتقد بمعادلة: «الأسد أو لا أحد»، هو الرئيس السوري نفسه، بحسب خطابه الأخير. حلفاء الأسد وخصومه لم يتبنوا المقولة، فحلفاؤه يتبنون طرح «جنيف 2»، وهم سعوا إلى فرضه على الخصوم الأميركيين والأوروبيين والعرب من أنصارهم. كلّ المراقبين ينتظرون تسوية دولية وإقليمية تنجز حلاً لسوريا. الخصوم رضخوا لطرح «جنيف 2» بعد أن تخلى معظمهم عن المطالبة برحيله، أو بتسوية انتقالية تنهي ولايته قبل نهايتها. يضرب طرح الأسد عرض الحائط بالمطالبات برحيله، أو بمرحلة انتقالية. فهو يشعر بقوة على الأرض، وليس مَن يؤكد قدرة الخصوم على ترحيله بقوة الضغط الإعلامي والمطالبات الخلّبية. فبعد مرور سنة وشهرين، كرّر الأسد طرحه للحلّ السوري من وجهة نظر السلطة السورية التي يتزعّم قيادتها. يرتكز الحلّ على مفهوم السيادة الوطنية، وعدم السماح للخارج بالتدخل في الشأن السوري. يعرف النظام السوري «سيكولوجيا» شعبه، والعناصر التي تجعله ملتفّاً حوله، وتجعل من جيشه قوة متماسكة، قوية وموالية للسلطات التي تعطيه الأمر، وملخصه: «الصراع مع الخارج»، فاعتمده كركيزة تعبوية في صراعه مع خصومه.
ونجح النظام السوري في خضمّ المعركة في تحقيق غايته بنقل المواجهة من الداخل، فيما لو كانت قائمة افتراضاً، إلى الخارج. فعند انطلاقة الأحداث من درعا، لم يكن الوضع السوري يشير إلى أيّ تحرك شعبي معارض للنظام رغم توافر عناصر المعارضة له، ووجود العديد من القوى السياسية المناهضة لأدائه التاريخي. ومع بدء الأحداث من درعا بدا أنّ الوضع يتوسع بكافة الاتجاهات والأحجام كدوائر الماء جراء رميها بحجر. فأحداث العالم العربي في تونس ومصر لعبت دوراً في تجييش قطاعات من الناس تعاطفت مع بعض الأحداث لدى انطلاقتها، وبدا وكأن تفجّر الوضع السوري يتجه لمزيد من الاتساع والشمولية.
وعلى وقع التطورات، التي كانت آخذة بالنمو البطيء والتدريجي، بدأت تتفتح شهية التدخل الخارجية لقوى دولية لها مصالح في الداخل السوري، منها العربي، ومنها الغربي، وبدأت بعض الأطراف بالتدخل فعلياً، أولاً بأول في الشأن السوري، تمرّر الأموال والأسلحة والتجهيزات التقنية من وسائط التحكّم عن بعد والاتصال الواسع والبعيد إلى الداخل بواسطة التهريب، مترافقة مع حملات إعلامية مركزة وموجّهة ومسبقة الإعداد. لم تُعر قوى النظام ومؤسساته الأمر أهمية، قيل إنه بسبب الفساد أو الاختراق لعناصر تابعة لمؤسسات الدولة، من جهة، أو بسبب رغبة النظام في تحويل المعركة من شوارع المدن إلى الخارج، أي الأطراف والحدود، إذ إن من الأفضل للنظام أن ينتقل الصراع إلى الخارج، فتقاطعت رغبته ومصلحته مع التدخلات الخارجية من ثانية. وفي لحظة من لحظات الصراع كانت تتبلور الوجهتان والرغبتان. هناك يمكن لكل طرف التمادي في استخدام قوته، وبالنتيجة سيكون النصر للأقوى والأكثر تنظيماً وعدّة وعديداً واعداداً.
بعد مرور ما يقارب السنتين على اندلاع الصراع، وسنة وشهرين على آخر خطاب للأسد، يعود الأخير ليطرح ما كان بدأه من خطوات تتّسم بالمثالية الطوباوية في تأسيس حكم ديموقراطي ينبع من رغبة الشعب وطموحاته وتطلعاته، لم يسبق أن شهدتها أكثر الأنظمة اعتماداً للديموقراطية، وتعبئة بها وادّعاء بتطبيقها. بينما كان الأسد لا يزال يواجه المطالبات بتنحيه أو الحديث عن مرحلة ما بعده، وهي شعارات تبنّتها المعارضات السورية والدول الخارجية المنضوية في الحملة ضد النظام، كما حاولت دول غربية تمرير هذه الشعارات في عملية التسويق لتطبيق اتفاق جنيف المتعلق بالملف السوري.
وبين طرح مشروع ديموقراطي طوباوي لم يسبق أن شهده التاريخ، أو قد يستغرق سنوات لتحقيقه، والمطالبة بالإسراع في التنحي وولوج مرحلة «ما بعد الأسد»، ثمّة بون فاصل بين الاتجاهين.
الأول يستدعي، وبحسب التفصيل الذي عرضه الأسد، دعوة فئات الشعب وشرائحه الاجتماعية وقواه السياسية إلى عقد مؤتمر وطني تجري فيه مناقشة ميثاق للبلد. كأن البلد حديث الولادة وكأن الفترات الطويلة من تاريخه قامت من دون ميثاق، وبالتالي فهو يحتاج إلى ميثاق جديد، بينما يقول الأسد، في سياق آخر من خطابه، إنّ سوريا بلد عريق عمره آلاف السنين ويعرف كيف يدير أموره بنفسه. فأيّ ميثاق سيبحث به المؤتمر إذاً؟ وهل يحتاج واقع تاريخي متجذّر وقائم إلى ميثاق حقاً؟ فضلاً عن المدة الزمنية التي تتطلّبها آليات انعقاد مؤتمر ميثاقي كهذا يسبق مؤتمراً آخر يفترض أن يلحق به لوضع الدستور، وهذا ما يستغرق سنوات لإنجازه. إضافة إلى أن طرح البحث في الميثاق قد تجاهل قوى المعارضة، خارجها وداخلها، ولم يخصصها بموقف، ولم يعتبرها إلا عنصراً من العناصر بصورة غير مباشرة، التي قد تشارك في الإعداد للميثاق في حال انعقد مؤتمره، مثلها مثل الكثير من الفئات الأخرى كبورجوازيي المدن وصناعييه، وتجاره، وفلاحي الريف، وزعماء العشائر والأحزاب، التي تشكّل العديد منها خلال فترة الأزمة. أي أنّ المعارضات التي تعتبر مثلها مثل باقي فئات الشعب ستكون، في أحسن الأحوال، ضائعة بين قواه المختلفة، ولذلك فقد استشعرت الخطر ورفضت على الفور ما قاله الأسد.
الثاني، يطرح رحيل الأسد للانطلاق نحو مرحلة انتقالية، وهو كشعار يفترض أن يكون الأسد أو نظامه على شفير الانهيار، وجيشه مفكّكاً متشرذماً ويغيب عنه الدعم السياسي والدبلوماسي واللوجستي، المحلي بين شرائح واسعة من شعبه، والدولي من أصدقاء وحلفاء، وهي عناصر ثلاثة لا يتوافر منها أيّ عنصر وليس من المعروف حقيقة إن كانت الدول الغربية مقتنعة بذلك أم هي تتجاهله بنيّة رفع سقفها التفاوضي معتمدة على سلاحها الأوحد: الإعلام.
يفسّر كلام الأسد بأنه ليس مستعجلاً على الحلّ، وبالتالي بإمكانه متابعة القتال بجيشه القوي والمتماسك إلى أجل غير مسمّى، فقد سبق لبلده أن خاض صراعاً مشابهاً مع «الإخوان المسلمين» أوائل الثمانينيات، استغرق أكثر من أربع سنوات. أما أحداث سوريا الحالية فلم تستغرق سوى السنتين بعد.
ويحتمل موقف الأسد أكثر من تفسير، منه ما يوصف بأنّه مناورة لرفع السقف تمهيداً للتسوية التي يجري الحديث عنها والتي ستظهر للنور في لقاء القمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين وباراك أوباما. لكن مدلولات طرحه تشير أيضاً إلى أنه التفاف حول المبادرات المطروحة عالمياً، توصلاً ورهاناً ضمنياً على تصفية الخصوم، والوصول إلى مرحلة الانتخابات التي سيحقق بها نصراً سياسياً جديداً يكرسه رئيساً لسوريا من جديد. وبين اليوم والانتخابات الرئاسية عام 2014، أكثر من عام يعتقد أن الأسد يعرف أن قواه العسكرية قادرة خلالها على حسم الموقف لصالحها بصورة تامة، خصوصاً أنّ تطورات الموقف السوري تشير إلى تراجع ملحوظ لقوى المعارضة المسلحة، فها هي تنتهي في حلب، وسبق أن انتهت في حمص، ولم يكن لها من تأثير كبير في تطورات حماه. أما العاصمة دمشق فقد تمكن من تحييدها، إلا من بعض المتفجرات، خصوصاً بعد أن تراجعت أمام قواته القوات المعارضة المقاتلة إلى مسافات واسعة في ريف دمشق.
أما على صعيد الأطراف الأخرى، داخلية كانت أم خارجية، فهي كانت قد بدأت تغيّر في خطابها وفي موقفها مع تغيّر المعطيات وتراجع الوضع العسكري لقواها بشكل ملحوظ. ورغم ذلك، سارعت إلى رفض كلام الأسد، وكان موقفها متوقعاً، حتى من الأسد عينه خلال إلقاء كلمته. فراحت الواحدة منها تلو الأخرى ترفض مبادرة الأسد جملة وتفصيلاً، لأنها استشعرت بطموحات الأسد المستقبلية اللاغية لها ضاربة عرض الحائط، وعن سابق إصرار وتصميم، بالمتغيّرات على الأرض.
يدرك الأسد أنّ معركته ليست قصيرة، لكنه واثق من قوة جيشه، وبنيته القتالية الرفيعة، ولم يبدُ آبهاً كثيراً لاحتمال رفض مقترحاته ومشروعه للحلّ... فطرحه للحلّ لا يلتقي مع مواقف المعارضة بأي نقطة، ولن يمكن البدء بحوار في غياب التقاطع في نقاط معينة.
يمضي الأسد في معركته حتى النهاية، على ما ينم خطابه، معلناً للأصدقاء والخصوم أنه يدرك تمام الإدراك المعادلة الماوية: «السلطة تنبع من فوهة البندقية».
* كاتب لبناني