ظنّ الكثيرون أنّ موجة التغييرات الديموقراطية في أوروبا الشرقية والوسطى عام 1989 سيرافقها مثيل عربي. لم يحصل هذا حتى في الجزائر، حيث أتت انتفاضة أوكتوبر عام 1988سابقة لتغيّرات دول الكتلة السوفياتية، وكادت قوة زخمها أن تودي بنظام عسكري كان يضع الحزب الواحد واجهة له منذ عام 1965، لكن انفكاك تحالف الاسلاميين مع الغرب في فترة ما بعد الحرب الباردة (1947-1989) قد أتاح مجالاً للعسكر الجزائريين، وبالاستناد إلى قاعدة اجتماعية من العلمانيين والبربر والنساء، لكي يوقفوا مدّ الاسلاميين عبر انقلاب 11يناير عام 1992 بغطاء من الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ثمّ من واشنطن ولو بعد تردد. عملياً، اختار الغرب الأميركي ــ الأوروبي الجنرالات ضد أصحاب العمائم، ولم يقتصر هذا على قائد الانقلاب الجزائري الجنرال خالد نزار، بل شمل أيضاً زين العابدين بن علي وحسني مبارك في مواجهتهما مع الاسلاميين في أوائل عقد التسعينيات أيضاً.في بداية عام 2011، استيقظ ما كان كامناً قبل عشرين عاماً، أو اكتمل نمو ما لم يكن مكتملاً كجنين آنذاك: انفجار داخلي ذاتي الدفع في تونس والقاهرة أظهر هشاشة البنية الخاصة للنظامين وفقدانهما للركائز الداخلية، ما أجبر واشنطن والمؤسسة العسكرية في كلّ منهما على أن لا تقفا حائلاً أمام اسقاط رأس النظامين التونسي والمصري. عام 2011 كان هناك استثناء جزائري، بين كل الأنظمة الجمهورية العربية، لما لم تشهد تحركاً شارعياً ضد النظام القائم، ربما بسبب استنفاد قوى العسكر والاسلاميين في عشرية الحرب الأهلية التي أعقبت انقلاب «11يناير 1992» لصالح رئيس مدني استطاع ادخال الجزائر في «الوئام والمصالحة».
مع «تونس والقاهرة 2011»، دخل العالم العربي في دورة تاريخية، سبقته إليها دول الجنوب الأوروبي في أواسط السبعينيات في البرتغال واليونان واسبانيا، وأميركا اللاتينية بالثمانينيات، والفيليبين وكوريا الجنوبية عامي 1986 و1987، ثمّ دول الكتلة السوفياتية، أظهرت فيها كل هذه المجتمعات خلعها لقمصان الديكتاتوريات العسكرية وأنظمة الحزب الواحد أوالديكتاتور الفرد، وأصبحت على استعداد لكي تمنع أحداً من أن يحكم باسمها من دون آليات تمثيل عبر صندوق الاقتراع.
مثل سابقاتها في مناطق أخرى من العالم، كانت الموجة الديموقراطية العربية محددة بزمان ومكان اقليمي، ومحصورة بهما، وبالفعل خلال 3 أشهر من بدء الانفجار التونسي في 17 ديسمبر عام 2010، كانت هناك توابع انفجارية في «قاهرة 25 يناير» و«صنعاء 3 فبراير»، وبنغازي «15-17 فبراير» و«درعا 18 آذار». كانت الديناميات عملياً ذات طابع انفجاري في الأنظمة الجمهورية فقط، وعندما حصل بالتزامن شيء من المظاهر الاحتجاجية بأنظمة غير جمهورية في المغرب والأردن ومسقط ظهرت محدودة وضعيفة، وأمكن تسكينها أو احتواؤها تحت سقوف محددة، مع استثناء بحريني ربما بسبب التمييز الطائفي ضد الشيعة (حوالى 65% من السكان). هذا التمييز الذي يأخذ أبعاداً في الوظائف والاقتصاد والثقافة، وهو ما يحكم أيضاً على الحراك البحريني من حيث كونه لم يستطع خلال عامين من الحراك تجاوز إطار الشيعة. وإذا استثنينا الجزائر، وإلى حدّ ما العراق والسودان، حيث هناك أوضاع خاصة من تفكك البنية الداخلية تحت ايقاع الخارج الغازي أو المتدخل، فإن الموجة الديموقراطية العربية لا تشمل الأنظمة غير الجمهورية، وهي محصورة عملياً في البنى الجمهورية التي أتت مع «23 يوليو1952»، وعمّت في دمشق وصنعاء وطرابلس الغرب، ثم اتجه بن علي منذ 7 نوفمبر 1987 في تونس إلى نموذجها بخلاف سلفه الحبيب بورقيبة.
في السياسة، لا تقاس الأفكار والسياسات بأسبابها بل بنتائجها: إذا أردنا أن نحكم من خلال هذه المسطرة على ما سمي «الربيع العربي»، فمن الممكن القول بإنّ ايجابياته محصورة في اطلاقه لديناميات بدء مرحلة تدل ملامحها على أنّ أيّ حاكم، سواء كان فرداً أو حزباً أو جماعة أو طغمة عسكرية، سيجد أمامه سداً اجتماعياً يمنعه من الاستئثار والانفراد بالسلطة، وأنّ هناك طريقاً اجبارياً أمام كلّ حاكم هو صندوق الاقتراع. هذا تقدم نوعي يصل إلى مستوى الانقلاب الجذري على ما شهدته الأنظمة الجمهورية العربية في الستين عاماً السابقة، حيث كان الشارع يعطي تفويضه بهذا الشكل أو ذاك إلى «القائد الفرد» أو إلى «الحزب القائد».
لا توجد ايجابيات أخرى، بل على العكس كانت ديناميات «الربيع العربي» مؤدية إلى فقدان استقلال بلد عربي هو ليبيا، وإلى اخضاعه، وبخلاف ما جرى عام 1912، لسيطرة الغازي الأجنبي عبر رضا قسم كبير من المواطنين الليبيين، رأوا أنّه لا يوجد ديناميات داخلية كافية لاسقاط الديكتاتور فاستعانوا، عن إرادة، بالخارج، وأصعدوا نماذج سياسية وثقافية للواجهة المعارضة ترى في قرضاي ــ الجلبي مثالاً مرغوباً يحتذى. في سوريا يوجد الكثير من المعارضين السوريين، مع أرضية اجتماعية، يحلمون بتكرار الأمثلة الأفغانية والعراقية والليبية، وقد بذلوا الكثير من الجهد والسياسات من أجل تحقيق ذلك، ولكن تعقيدات المسألة السورية، والتشابك الأميركي ــ الروسي، كانا سداً منيعاً أمام تكرار تلك الأمثلة. هذا يعطي صورة عن تراجع الوطنية، وعن تدهور في العملية السياسية حيث تقوم اللعبة على مبدأ عدم ادخال الخارج في لعبة أطرافها محليون. الأمر الذي نراه سائداً في كلّ البلدان الراقية، وحتى الآن يشعر الفرنسيون بخجل عميق من ظاهرة الماريشال بيتان، لكنهم لا يمانعون التعامل مع ظاهرات مثل مصطفى عبد الجليل أو رئيس مالي الذي استجدى التدخل الفرنسي.
في الطبيعة تظهر الزلازل نوعية التربة تحت السطح: في المجتمعات الأمر كذلك. ما أظهره زلزال «الربيع العربي» يعطي صورة عن تراجع مستوى السياسة في البلدان الجمهورية الخمسة بالقياس إلى مستوى النخب السياسية، التي كانت فيها جميعاً في الربعين الثاني والثالث من القرن العشرين، وعن طغيان الوعي الديني في تحديد الانتماء الأيديولوجي ــ السياسي على حساب التعبيرات السياسية الحديثة التي كانت سائدة في الربع الثالث من القرن العشرين. وهو شيء نجده أيضاً لدى المواطن العادي في تحديد هويته بناءً على الانتماء الديني أو الطائفي على حساب هويته الوطنية، ثمّ ظاهرة رأيناها وهي السهولة الكبرى، مع رضا وقناعات أيديولوجية ــ سياسية، التي يقتل بها المواطنون بعضهم بعضاً أثناء تواجه خنادقهم المختلفة والمتصارعة بين ضفتي السلطة والمعارضة، والتي يتساوى فيها الاثنان في تلك القناعات والرضا.
أعطى زلزال «الربيع العربي» هذا التظهير لنوعية التربة الاجتماعية من دون «مكياجات». هذا تطوّر تاريخي يظهر مستوى أمراض المجتمعات وعللها، وهو أيضاً يعطي صورة عن حصيلة مرحلة التحولات التي بدأت في الخمسينيات والستينيات في البلدان العربية الخمسة المذكورة. من دون هذا التظهير الزلزالي ما كان من الممكن تلمّس هذه الحصيلة بشكل ملموس بارز للعيان.
قد يقول البعض هذه هي (علبة باندورا) التي، في الأسطورة اليونانية، عندما فتحت انطلقت منها كل الشرور، فيما على الأرجح أنّ المجتمعات عندما تتزلزل، عبر هزات كهذه، فإنها تظهر، في مزاياها وسلبياتها، كما هي في الواقع. قد يكون هذا التزلزل نقطة انطلاق لتقدم، وقد يكون طريقاً للتفكك المجتمعي في آلية لا أحد داخلياً يستطيع التحكم بها، وهو ما رأيناه في الحالة الأولى في فرنسا 1789، فيما كان الاتحاد السوفياتي 1989-1991، ويوغسلافيا 1989-1992 أمثلة عن الحالة الثانية، وربما أيضاً عراق ما بعد 9 نيسان2003. هل يكفي ما سبق لرفع الأقواس عن «الربيع العربي»؟
* كاتب سوري