مع استمرار الحديث هذه الأيام عن المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وارتفاع الأمل بتوحيد ما أطلق عليه (شطري الوطن)، أي 20% من فلسطين التاريخية، وبالذات بعد الأداء المثير للإعجاب للمقاومة الفلسطينية في غزة، فإنّ العديد من الأسئلة يتم التغاضي عنها، أحياناً بدون قصد، وكثيراً بوعي تام نابع عن أيديولوجية تعبر عن مصالح الطرفين المتناحرين منذ فترة طويلة. ومع انحسار خيارات السلطة الوطنية الفلسطينية المدعومة من قبل حركة فتح في الوصول إلى حلّ سياسي روّجت له طويلاً، وانزلاق حركة حماس في مستنقع المشروع السياسي الأوسلوي من خلال مشاركتها في انتخابات المجلس التشريعي، إحدى أدوات السلطة الأوسلوية، وتدهور اليسار في عمليات «الأنجزة» المصاحبة لاتفاقيات أوسلو، فإنّ السؤال يتمحور الآن حول البديل الديموقراطي الذي لم يُصب بفيروس أوسلو التصفوي ولا قرينه الإسلاموي.
وللتوضيح، فإنّ قطاع غزة مرّ بالتجربة الأوسلوية بين عامي 1996 و2005، ولا يزال يخوض التجربة الإسلاموية منذ عام 2006. تميّزت الفترة الأولى سياسياً بالحديث عن المفاوضات كأنجع الطرق للوصول الى حلٍ سياسي للقضية الفلسطينية على أساس ما اتُّفق على تسميته «حلّ الدولتين، أي من خلال إقامة دولة فلسطينية مستقلة على 22% من أرض فلسطين التاريخية بجوار دولة إسرائيل بعد الاعتراف بها. وكانت منظمة التحرير قد اعترفت بحقّ إسرائيل في الوجود، في مقابل اعتراف الأخيرة بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني. وتوالت اللقاءات والحوارات بين «الطرفين»، غير المتكافئين في القوة، من دون الأخذ بعين الاعتبار الطابع الكولونيالي الاستيطاني لإسرائيل وسياسة التطهير العرقي التي مارستها منذ تأسيسها، وبنيتها العنصرية. وهكذا أعيد تعريف القضية بشكل يتناغم مع أقصى ما يطرحه «اليسار» الصهيوني: دولتين لشعبين، مع التغاضي عن عنصرين رئيسيين في حق تقرير المصير: عودة اللاجئين وإنهاء الطابع العنصري للدولة العبرية.
وللترويج لهذه الفكرة، جرى ضخ كمية من الأموال المُسيَّسة في خزينة السلطة الوطنية تضمن شراء الولاءات وتضخيم الجهاز البيروقراطي المرتبط بها. كما تمّ تفريخ مجتمع متأنجز موازٍ لها، غير معادٍ لطروحاتها، يتميز بولائه لتنظيمات، كانت يسارية، وأصبحت خليطاً عجيباً من النيوليبيرالية المابعد حداثية والستالينية النفعية!
وعاش القطاع والضفة خديعة الازدهار الاقتصادي التابع. فقد أصبح لفلسطينيي الـ 67 حكومة، ورئيس، وميناء لم يتم تشغيله مطلقاً، ومطار تشرف عليه إسرائيل، وأجهزة أمنية تحافظ على «الاستقرار» وتوظف كمّاً هائلاً من العاطلين من العمل ومن الذين نشطوا ضد الاحتلال خلال سنوات الانتفاضة المجيدة (1987 - 1993).
ووصل المشروع الأوسلوي إلى نهاياته، على الرغم من محاولات الإنعاش التي تحدث بين الفينة والأخرى مع انكشاف حقيقته في كامب ديفيد عام 2000 من خلال الصفعة المؤلمة التي وجهتها الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية للمفاوض الفلسطيني. فقد أصبح من الواضح في كامب ديفيد أنّه بالرغم من كلّ التنازلات الفلسطينية التي تخطت كل الخطوط الحمراء، فإنّ مشروع الاستقلال لم يكن كما جرى الترويج له فلسطينياً، بمعنى إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، تكون القدس عاصمة لها. فحتى هذا التصغير غير المسبوق تاريخياً لفلسطين كان غير مقبولاً من «الطرف الآخر» الذي يريد «حصته» في البانتوستان/ المعزل العرقي الجديد المنوي إقامته في الشرق الأوسط.
وكانت انتخابات المجلس التشريعي عام 2006 رسالة واضحة من سكان الضفة والقطاع وردّاً على ما تمّ الترويج له من «مفاوضات» و«حل الدولتين» العنصري، والفساد المستشري مع تطور، وتدهور العملية السياسية المسماة «مشروع السلام». كان هناك ربط في المخيلة الشعبية الفلسطينية بين هذه المصطلحات كلها وعملية الأسلوة التي بدأت منذ عام 1993. وكان القرار الشعبي بمعاقبة الحركة التي وقفت وراء هذه العملية وحلفائها من فصائل منظمة التحرير. وتمّ التصويت للطرف الذي جرى تصويره على أنه البديل الوحيد القادر على إيقاف هذا التدهور، الطرف الذي اتخذ المقاومة شعاراً له طوال فترة وجوده في المعارضة.
لم تكن الشعارات الإسلاموية قد رُفعت عند فوز التيار الإسلامي. بل جرى التأكيد مراراً وتكراراً على أنّ الحريات الفردية لن يتمّ التعدي عليها، وأنّ فهم الحركة للشريعة لن يتم تطبيقه، وأنّ الفساد سيُحارب، وأنّ الشراكة الوطنية هي أساس الحكم. كما تمّ التلميح الى أنه سيُسمح لقيادة السلطة بالاستمرار في خطها التفاوضي! ونتيجة للمشاركة في العملية السياسية الناتجة من اتفاقيات أوسلو، فإنّ حركة حماس أكدت قبولها بدولة فلسطينية على حدود الـ 67، أيّ على أساس حل الدولتين، من دون الاعتراف بإسرائيل، أوّ أنّها، أي الحركة، لا تقبل بحل الدولتين! وعمدت الى إرسال رسائل متناقضة في هذا الخصوص، فمن رسائل أُرسلت إلى الإدارة الأميركية الجديدة، إلى تصريحات صحافية لرئيس الوزراء ورئيس المكتب السياسي، تتمّ مناقضتها بتصريحات لقيادات أخرى، والحديث عن هدنة طويلة المدى، تمّ فقدان البوصلة وغياب الرؤية السياسية الواضحة المعالم التي بدونها ليس بإمكان أيّ حركة تحرر أن تنتصر.
رافق كل ذلك انصياع سريع لإغراء القوة «المزيفة» التي صاحبت تشكيل حكومة، بلا سيادة أو سلطة حقيقية، شبيهة في بنيتها الأيديولوجية بسلطة أوسلو، لكن بغطاء ديني تبريري. وتمّ خلق طبقة ريعية طفيلية شبيهة بالبورجوازية الجديدة غير المنتجة وليدة اتفاقيات أوسلو. في كلا الحالتين، تميّزت هذه الطبقة بعدم الإنتاجية ومحاولة الكسب السريع الناتج من محدودية المُنتج الداخل إلى القطاع واحتكار السوق من خلال السيطرة على شريان الحياة الوحيد للقطاع المحاصر، أي الأنفاق التي تربط قطاع غزة بجمهورية مصر العربية. وتمّ التنصل من الأقوال السابقة عن عدم التدخل في الحريات الشخصية والسماح بحيز كبير من الديموقراطية، التي كانت أساس وصول الحركة إلى الحكم تحت حراب الاحتلال. وتمّ تطبيق قوانين، دون سنّها، من فرض للحجاب على المحاميات، ومنع عرض المانيكان «المغري» في المحال، إلى الطلب من المقاهي عدم السماح للنساء بتدخين الشيشة، و«إقناع» إدارة جامعة الأقصى الحكومية بفرض «لباس محتشم» على الطالبات «لمنع إظهار المفاتن»، وإطلاق حملة «ترسيخ القيم والفضيلة» ضد الملابس «غير المحتشمة» لمكافحة ما سمّته الزيّ الغربي للفتيات والشباب والتدخل في شكل الحجاب وطريقة لبسه... الخ. كما حصل اعتداء على العديد من التظاهرات، حتى تلك التي تطالب بإنهاء الانقسام، والهجوم على وفد من كتّاب وفنانين أمميّين ومصريين جاؤوا إلى القطاع في إطار احتفالية فلسطين للأدب. كلّ ذلك في إطار عملية تحوّل وانحدار نحو أجندة اجتماعية يمينية متزمتة، تلامس الوهابية، مصاحبة لتنازلات سياسية ترى في حلّ الدولتين/ السجنين طريقاً للخلاص المؤقت، وإن كان على حساب 7 ملايين لاجئ و1.2 مليون مواطن فلسطيني من سكان إسرائيل. وهكذا تحولت غزة من الأسلوة إلى الأسلمة.
أوسلو وحل الدولتين والأجهزة الأمنية واتفاقيات باريس الاقتصادية تحولت إلى «حكومة ربانية» و«هدنة طويلة الأمد» والموافقة على دولة على حدود 67 (مع عدم قبول حل الدولتين!) واقتصاد ريعي يقوم على التهريب عبر الأنفاق والحسنات التي يتم جمعها في العالمين الإسلامي والعربي، مع تنامي ظاهرة المحاباة والغنى الفاحش في مجتمع من أفقر المجتمعات على الأرض! كل ذلك يتم الحفاظ عليه من خلال منظومتين أمنيتين في كلٍ من الضفة والقطاع، منظومتين من المفترض أن مهمتهما الوحيدة هي مقارعة الاحتلال وعدم المس بكرامة أيّ مواطن فلسطيني يعيش على هذه الأرض المباركة. ولكن تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية ترسم صورة مغايرة.
والآن يُطلب منا أن نتوجه للتسجيل في السجل الانتخابي تمهيداً لانتخابات جديدة للمجلس التشريعي. وفي هذه الانتخابات الموعودة، والتي تصوّروا كأنّها الحل المنشود، لدينا خياران لا ثالث لهما: إما الأسلوة أو الأسلمة؟
*عضو اللجنة التوجيهيّة للحملة الفلسطينيّة للمقاطعة الأكاديميّة والثقافيّة لإسرائيل