ليست العودة إلى البدايات في سوريا من جملة الخيارات المتاحة أمامنا. الدم الذي سفح على الطريق المؤدية إليها يفيض عن قدرة أي منّا على الاحتمال. حتى استخلاص العبر ممّا حصل لا يدخل في أيّ من أبواب السياسة الممكنة اليوم. سيسهّل ذلك علينا كثيراً أن نخوض في الأمر من موقع مغاير لكلّ الانشغالات السورية بما حصل: لحظة مصر. لا يبدو أصلاً أنّ هنالك من يهتمّ من السوريين بقراءة الواقع في مصر على ضوء التجربة التي مرّوا بها، سواء كان انخراطهم فيها من موقع الموالاة أو من موقع المعارضة. بالإمكان ردّ عزوفهم هذا إلى استغراقهم الكلّي بالحضيض الذي باتوا فيه، إلى حدّ اعتبار كلّ ما هو خارجه شأناً يخصّ صاحبه وحده.
لنقل أيضاً إنهم لا يعتبرون ما يحدث في مصر أو تونس أمراً مهمّاً، إلا في حالة واحدة هي حالة استثماره داخلياً لجهة النظام أو لجهة المعارضة. لا يهمّهم مثلاً أن يعرفوا الكيفية التي أضحت بورسعيد والسويس بموجبها صورة أخرى عن حمص ودرعا ــ في البدايات ــ. كذلك لا يرون في مشاهد الاعتقالات الجماعية للمراهقين والأطفال هناك ما يذكّرهم بتجارب مريرة ودامية خيضت هنا ضدّ فروع الأمن السياسي والعسكري. ثمّة قدر من التبلد في ذلك، لكنه يبقى مفهوماً بالقياس إلى ما مررنا به من أهوال وفظاعات. سيكون صعباً على المرء بالطبع أن يشاهد مزيداً من تلك الأمور، وستبدو الدعوة إلى مصاحبتها نقدياً في مصر عبئاً على السوريين وقضيتهم. لنترك هؤلاء وشأنهم قليلاً، فقد يعودون لاحقاً إلى متابعة الشأن المصري من موقع مغاير لانشغالاتهم الوظيفية، وخصوصاً من يحمل منهم صفة ناشط أو مياوم (في أحضان السلطة والمعارضة المافياويتين). ثمّة عنف يمارس في مصر سبق له أن مورس في سوريا على نحو أودى بنا إلى ما نحن فيه الآن. وهذا هو وجه الشبه الفعلي بين التجربتين. قد لا تحتمل الموجة الجديدة من العنف السلطوي هناك ــ أي في مصر ــ قراءة ثورية بالمعنى الذي نعرفه عن القطيعة وأدواتها، وقد لا تكون هذه الأخيرة طبقية بالضرورة، غير أنّ قدرة المصريين المذهلة على مجابهة العنف ذاك كفيلة بإخراج كلّ الرطانة المصاحبة للثورة وتصاريفها من التداول. على الأقلّ برهن المصريون أو من اختار منهم مجابهة السلطة الفاشية التي أتت بها الصناديق عن وعي وتصميم لا يدانيهما إلا وعي وتصميم السوريين في الحقبة التي سبقت تفكيك المجتمع وإلحاقه كولونيالياً بالمعركة ضدّ السلطة. كلّنا نعلم كيف تطوّرت الأمور في سوريا لاحقاً، وكيف أصبحت مجابهة العنف طريقاً إليه. من المحتمل ألّا يكون هذا الخيار بعيداً عن الأفق الذي يضعه المصريون لتصعيدهم في مواجهة بطش السلطة وعنادها. وهو أفق لا تحدّه إلا الرغبة في تفكيك مؤسسات الدولة. والحال أنّ ثمّة إصراراً من الكتلة الاحتجاجية الشابة هناك على تفادي ذلك ما أمكن، فاستهداف المؤسسات ليس من جملة الخيارات التي يعمل عليها هؤلاء. حتّى عندما يقدمون على أعمال توحي بذلك ظاهرياً كتعطيل المترو وإيقاف العمل بمجمّع التحرير لا يكونون في صدد تقويض الدولة على ما يقول خصومهم اليمينيون. هم يعتبرون الأمر من قبيل الضغط على النظام ليس إلا. بالطبع سيخسرون من جرّاء الضغط ذاك جزءاً من التعاطف الشعبي، لكنهم سيربحون في المقابل خبرة الانتقال من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة مجابهة السلطة على «أرضهم» إلى ضفّة مجابهتها على أرضها. وفي حالة «الإخوان» تحديداً تصبح المعركة تلك مناسبة لإفهام السلطة أنّ قضايا الشهداء والمعتقلين والقصاص من القتلة ــ معظم مجابهات محمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية خيضت لأجل القضايا تلك ــ ليست من جملة الأمور التي يمكن المساومة عليها أو تأجيلها. وإذا فكرّت السلطة في المساومة أكثر فستجد نفسها إزاء المزيد من «الاستيلاء» على المرافق العامة وتعطيلها. وهذا منهج لا يمكن اعتباره فوضوياً في حال من الأحوال. ومحاولة السلطة إسباغ هذه الصفة عليه عبر استخدامها المبتذل لقضية «البلاك بلوك» لن تفلح كثيراً في إقناع جمهورها باستحالة أن يمتلك الثوريون القدرة على تنظيم احتجاجهم أكثر. هم يفعلون ذلك الآن، ويجبرون السلطة في كلّ مرة على التراجع خطوة إلى الوراء. ثمّة مشكلة لدى البعض في فهم هذه الدينامية، وتصبح المشكلة أكبر عندما يصرّ آخرون على عدم تفهّمها. بالأساس لم يكن ممكناً أن يصاحب الشعور بالارتياح ولادة ظواهر مماثلة.
سنكون سذّجاً لو لم نعي ذلك. فهؤلاء «الفوضويون» هم في النهاية نتاج الحالة العنفية التي فرضتها الثورة على الدولة والسلطة والمجتمع معاً. والتعويل على أن تجد الفوضى المنظّمة حاملاً اجتماعياً عريضاً لها أمر صعب، لأنه يتناقض مع تموضعها في مواجهة المجتمع، لا في مواجهة السلطة فحسب. قطعاً سيجد هؤلاء من يحتضنهم ويوفّر لهم بيئة مناسبة للنشاط ضدّ السلطة، لكن من يفعل ذلك هو الجزء من المجتمع الذي حسم خياراته سلفاً، وقرّر المضي في مواجهته مع السلطة إلى ما لا نهاية. حصل شيء من هذا القبيل في سوريا عندما كانت الاحتجاجات في طورها الراديكالي الأول. التكثيف الشديد الذي يصوغ من خلاله المصريون غضبهم ضدّ مرسي اليوم ليس ابن ساعته بالضرورة، بل هو نتاج تراكمات ضدّ السلطة بدأت في سوريا قبل أن تنزاح في اتجاهات أخرى. حينها كان التدمير أقلّ بكثير وكان ثمّة قدرة على أن يكون المرء محتضناً من بيئة لا تستعدي من حولها، ولا تجد في مواجهتها إلا سلطة قرّرت أن تكون الفوضى هي الحلّ. الآن تعاد في مصر صياغة العلاقة تلك من جديد، فمن يملك قرار تحويل الفوضى إلى سلاح ليس بالضرورة أن يكون في السلطة. وليس من جملة ما يريده أيضاًَ ــ من الفوضى ــ وضع المعارضة في مواجهة مفتوحة مع الموالاة و«بيئتها» كما فعل مرسي بالأمس أمام قصر الاتحادية، وكما حدث قبلاً مع الجيش السوري حين زجّ به في مواجهة جزء من شعبه. لقد فرض على من يصوغ المعركة ضدّ سلطة «الإخوان» في مصر أن يكون في مربّع الفوضى. هؤلاء لم يختاروها إلا كوسيلة من بين وسائل أخرى تستعملها الثورة عادة عندما تبادر إلى تفكيك السلطة. واستعمالها ليس متاحاً بالمطلق كذلك، فعندما يتبيّن أنّ من يستخدمها لا يفهم الفرق بين أن يكون المرء ضدّ السلطة وبين أن يكون ضدّ المجتمع يصبح من الضروري تجميد العمل بها ولو لم يكن ثمّة بديل عنها. لدينا الآن في مصر ما يمكن أن يعبّر عن ذلك، وما يمكن الاستعاضة به عن التنظير فحسب. لم يحصل مثلاً أن سلّط الضوء كثيراً في الإعلام على المواجهات التي نشبت بين المحتجّين الذين أوقفوا العمل بمترو الأنفاق والركّاب الذين أبدوا استياءهم من شلّ هؤلاء لعقدة مواصلات مركزية تعتبر بمثابة شريان حقيقي للقاهرة. الفعل الاحتجاجي هنا لم يول العناية الكافية، لا ممّن قام به، ولا ممّن اعترض عليه أيضاً. لنقل بداية إن الفعل ذاك هو بمثابة ألف باء بالنسبة إلى حالة ثورية ما زالت تتفاعل في مواجهة السلطة ومن يقف خلفها. وبما أنّه كذلك فهو سيجد صعوبة حتماً في كسب تعاطف من يعتقد أن تعطيل المرور ليس موجّهاً ضد السلطة وحدها.
هذا إذا لم يكن من يعتبر ذلك متعاطفاً مع السلطة على اعتبار أنها أتت بالانتخاب لا بغيره، وبالنظر أيضاً إلى تحدّر من يرتادون المترو يومياً من «بيئات تدين عادة بالولاء للدولة ومؤسّساتها». ستكون هذه الاعتبارات بالطبع حائلاً بين الفعل الاحتجاجي «العنيف» وتحقيقه لأهدافه، غير أنّ شرعيته كفعل احتجاجي ستبقى قائمة لأنّ الأساس في الاحتجاج ليس كسب تعاطف الناس بل الضغط على السلطة وحرمانها في حالة المترو من مورد أساسي لتمويل آلتها القمعية. هكذا لا يعود تعطيل المترو بالكثير على من قام به، فهو وإن كان جزءاً أساسياً من آليّة إرغام السلطة على التنازل بواسطة العنف الرمزي إلا أنّ ما ووجه به من اعتراض سيجعلنا نقف لا في مواجهة السلطة فحسب، بل في مواجهة «جهازها الإداري» أيضاً. وهؤلاء جزء من المجتمع الذي لا يزال يرفض «أن يواجه بالعنف الرمزي»، لأنّه يعتبره موجّهاً ضدّ الدولة ومؤسّساتها، لا ضد السلطة ورموزها كما نعتقد نحن. وهذه مشكلة يتعيّن على من يواجه السلطة في مصر حلّها قبل أن تتفاقم أكثر، وقبل أن تتدخّل السلطة ذاتها في مفاقمتها عبر العمل على زجّ المصريين بعضهم في مواجهة بعض. لقد فعل «الإخوان» ذلك في واقعة الاتحادية، وهم مستعدون لتكرار الأمر إذا ما لاقت التحرّكات الاحتجاجية التي تتوسّل العنف الرمزي ضدّهم مزيداً من التعاطف. قد تكون حادثة المترو استثناء وقد لا تكون كذلك أيضاً، لكن في الحالتين ثمّة ما يبشّر بانتقال المواجهة مع السلطة الطبقية الاخوانية في مصر إلى مربّع جديد. سيتعيّن علينا بذل مزيد من الجهد تجاه من يعتقد أنّه غير مستعدّ بعد لدفع الثمن، وخصوصاً أنّنا إزاء مواجهة مكلفة بكلّ المقاييس.
هؤلاء يشاهدون الآن كيف يسحل النشطاء يومياً في شوارع مصر لمجرّد أنّهم اختاروا دفع العنف عنهم وعن ذويهم وأصدقائهم. ومع ذلك ليس بإمكان المرء أن يحكم على المشهد من هنا، تماماً كما لم يكن بإمكان المصريين والتونسيين أن يجروا تقويماً دقيقاً لما يحصل في سوريا. لكن ثمّة أمر لا يمكن دحضه أطلاقاً: الترويع الذي تمارسه السلطات المافياوية في تلك البلدان لم يعد بمقدوره أن يجعل الثمن أقلّ احتمالاً. حتّى الموالون للسلطات تلك بدؤوا يدفعون أيضاً ثمن مواقفهم واصطفافاتهم المسبقة. ربّما يكون الأمر أصعب علينا في سوريا لكثرة ما تناسل لدينا من سلطات، ولقلّة من يتجرّأ فعلاً على دفع الثمن نيابة عن الجميع وفي مواجهتهم غالباً. لم نصل بعد هنا رغم كلّ ما حصل وبسببه على الأرجح إلى البداهة التي تضع الثورة والسلطة على طرفي نقيض. سيكون هنالك سلطة في النهاية ترث الثورة، ولكن ليس قبل أن تنجز هذه الأخيرة قطيعتها. من يتوسّل العنف الرمزي في مصر ضدّ «الإخوان» وسلطتهم يفعل ذلك على طريقته، وكذا الأمر مع من يقتفي أثر شكري بلعيد في تونس. هؤلاء وأولئك اكتشفوا أنّ الطريق إلى الثورة ليس بالضرورة أن يكون ثورة. هم الآن في طريقهم إليها فحسب. وأوّل الطريق «نقطة دم» أو زجاجة مولوتوف أو إضراب عمّالي أو تعطيل للمترو. لا يوجد تعريف للعنف في مواجهة السلطة، أيّ سلطة أفضل من ذلك.
*كاتب سوري