أثبت الحزب الشيوعي السوري، خلال القرن العشرين، بأنه أحد أهم ثلاثة أحزاب شيوعية عربيّة، إضافةً إلى العراقي والسوداني. أهميته لم تقتصر على الدور الذي لعبه في حلبة السياسة السورية، منذ تأسيسه عام 1924، بل كانت له تأثيرات تجاوزت النطاق السوري. السبب هو نفوذ رئيسه خالد بكداش، الذي امتد إلى داخل الأحزاب الشيوعية في لبنان (بعد انفصال الحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان عام 1964) والأردن والعراق. وبسبب تأثيرات طروحات المكتب السياسي للحزب الفكرية ــ السياسية، بعد انشقاق عام 1972 على المحيط الشيوعي العربي، تجاه «الاستقلالية عن السوفيات» و«قضية مزج الماركسية مع الخصوصية المحلية». أيضاً، كان لماركسيين تركوا «الشيوعي السوري» عام 1957 أو فصلتهم قيادة الحزب، مثل ياسين الحافظ والياس مرقص، تأثيرات فكرية ــ سياسية تجاوزت النطاق السوري، منها تأسيس حزب العمال الثوري العربي عام 1965 وهو الحزب الممتد في لبنان وسوريا والعراق، عبر محاولة المزج بين الماركسية والفكر القومي العروبي.رغم انشقاق 3 نيسان عام 1972، بين «جناح بكداش» الموالي للسوفيات و«جناح المكتب السياسي»، ثمّ انشقاق «منظمات القاعدة» بزعامة مراد يوسف عن بكداش عام 1979 وانشقاق يوسف فيصل عنه أيضاً عام 1986، فإن الشيوعيين السوريين ظلوا أقوياء تنظيمياً، من حيث الانتشار والعدد وكان لهم نفوذ ثقافي في الحياة العامة فاق وزنهم السياسي- التنظيمي. في النصف الأول من السبعينيات، تحول كُثر، بتأثير من هزيمة 5 حزيران 1967، من حركة القوميين العرب وحركة الاشتراكيين العرب ومن تنظيم 23 شباط لحزب البعث، باتجاه الماركسية. أسسوا "الحلقات الماركسية" التي كانت نواة رابطة العمل الشيوعي عام 1976 قبل أن تتحول عام 1981 إلى حزب العمل الشيوعي. كما أن الحزب اليساري الكردي، الخارج منذ عام 1965 عن "البارتي" بزعامة الملا مصطفى البرزاني، تبنى منذ السبعينيات الماركسية في الفترة نفسها التي اتجه فيها العروبيون نحوها.
بعض الشيوعيين راهنوا
على الأميركي من أجل «التغيير»
في دمشق

ساهمت مشاركة «جناح بكداش» في الجبهة الوطنية التقدمية (تأسست في 7 آذار 1972 وكانت سبباً مباشراً لانشقاق الحزب بعد أربعة أسابيع) في التضعضع المعنوي للشيوعيين وفقدانهم الكثير من تأثيرهم السياسي. كما أن الحملة الأمنية التي شنتها السلطة على "المكتب السياسي" عام 1980، أضعفت هذا الحزب الذي كان القوة الأبرز مع الاتحاد الاشتراكي في التجمع الوطني الديمقراطي منذ قيامه في كانون الأول 1979.
ثم شملت الضربات الأمنية، منذ آذار 1982، الكثير من فصائل المعارضة مثل حزب العمل الشيوعي وحزب البعث الديمقراطي - تنظيم 23 شباط، بالتوازي مع الانتصار الأمني ــ العسكري للسلطة على التنظيم المسلح للاخوان المسلمين في حماه عام 1982. رغم ذلك، امتلك الماركسيون قوة مرموقة سياسياً وتنظيمياً وفكرياً وثقافياً في الساحة السياسية السورية ولم يعيشوا حالة تلاشي القوة كالتي شهدها الشيوعيون العراقيون منذ عام 1978.
الضربة الأكثر ايلاماً للماركسيين السوريين كانت تفكك الاتحاد السوفياتي. تأثر بذلك، أمثال خالد بكداش والذين انشقوا عنه لاحقاً، وهو الذي كان يُلقب السوفيات بـ«الرفاق الكبار».
أما الأقل تأثراً، للمفارقة، الدكتور قدري جميل الذي اعتبر أن سقوط التجربة السوفياتية كان نتيجة «مؤامرة وانحرافات بدأت منذ نقد خروتشوف لستالين عام 1956». وداخل «جناح يوسف فيصل»، الذي توحد معه مراد يوسف عام 1991، كان هناك ابتعاد أكثر عن الستالينية، فقالوا إن «تجربة السوفيات سقطت بسبب أخطاء في التطبيق وليس في الماركسية السوفياتية».
إذا أردنا التحدث عن أكثرية عددية، فإن معظم من كان عضواً في المكتب السياسي وحزبي العمل والعمال، تخلوا عن الماركسية بين عامي 1991 و2007... ومنهم من راهن على الأميركي من أجل «التغيير» في دمشق، أمثال رياض الترك وبعض قيادات «العمل» و«العمال».
لم يكن تأسيس تجمع اليسار الماركسي، إثباتاً فقط بأن هناك ماركسيين معارضين لشيوعيي الجبهة الوطنية التقدمية، بل للقول بأن الماركسية لم تنتهِ في حزب العمل والمكتب السياسي كما حصل مع الحزب اليساري الكردي وهيئة الشيوعيين. كما أن «تجمع اليسار الماركسي» كان نواة "الخط الثالث" مع ناصريي الاتحاد الاشتراكي بعد تخليهم عن "إعلان دمشق" عام 2008. ثم كان جسم وطريق الخط الثالث، بمعنى أن يجمع الديموقراطية المعارضة مع خط وطني يرفض المراهنة التغييرية على الغربي. هو النواة الصلبة، وما زال، لهيئة التنسيق التي تأسست في 25 حزيران 2011 بعد ثلاثة أشهر على بدء الأزمة السورية. خلال مرحلة ما بعد انفجار الأزمة السورية، ثبت الماركسيون في هيئة التنسيق على خطهم الوطني الديموقراطي المعارض، مع نزعة تسووية لحل الأزمة. ومنذ منتصف عام 2014، اتجه الماركسيون في حزب الإرادة الشعبية بقيادة قدري جميل نحو المعارضة.
بالنسبة إلى الكثير من الماركسيين، الذين ما زالوا يتمسكون بماركسيتهم، قاربوا «الأزمة» انطلاقاً من رؤية سياسية ترى أن البديل من النظام سيكون «الاسلاميين»، فاعتبروا أنّ السلطة هي «أهون الشرَين».
هذا التنوع بين الماركسيين في ما يخص الموقف من الأزمة السورية لن يستمر، على الأرجح، إن نجح «جنيف 3» في إنتاج تسوية سورية. أكيد أنه ستكون هناك خريطة سياسية سورية جديدة إن نجحت التسوية: الجبهة الوطنية التقدمية ستنتهي، سيخف الرهاب من الاسلاميين وسيُساهم النفوذ الروسي في سوريا في تقوية نفوذ التيار الماركسي. قوة التيار الماركسي السوري، تأتي من كونه عابراً للنسيج السوري دينياً وطائفياً وقومياً ومناطقياً عبر ايديولوجية حديثة ومن قدرته على التعبير عن المطالب الديمقراطية والتحديثية ومن حمله للقضايا الاقتصادية والاجتماعية في مجتمع أصبح ثلاثة أرباع سكانه تحت خط الفقر. يُمكن للماركسيين السوريين أن يتحالفوا مع يساريين عروبيين وأكراد وعلمانيين، كما جمعت هيئة التنسيق بين العروبية والكردية والماركسية في مواجهة الليبراليين والاسلاميين واليمينيين الأكراد. ليس غريباً أن يؤدي جنيف 3 إلى تعديل خريطة ما بعد 18 آذار 2011 عبر تغيير اصطفافات الخمس سنوات الماضية بين الموالاة والمعارضة، خاصة أمام أمور مثل: الهوية العربية والفيدرالية والتموضع الدولي ــ الاقليمي للبلد وقضايا التحديث الدستورية والقانونية والتشريعية.
* كاتب سوري