عندما تدخل الكتابات مرحلة الرد على رد الرد فإنها تكون مملة، لكن المرء يجد نفسه مضطراً لذلك حينما يستحلي أحد طرفي المراددة اللعبة، ويبدأ بتزييف الحقائق وتجميع الجزئيات من هنا وهناك وإلصاقها مع بعضها لدعم قراءة متهافتة وتحليل يقوم على القسر. وبدلاً من مساجلة جدلية حية ومنتجة، فإن ما يقوم به هشام البستاني هو التشويه المتعمد لمواقف فئة وطنية تعرف كيف تحارب المشروع الصهيوني في اﻷردن، وتعرف كيف تطرح نقاطاً عملية بعيدة عن اﻹنشاء والعبارات المطاطة. وطبيعي أن تثير تلك النقاط حفيظة المتضررين. وطبيعي أن تلك الفئة الوطنية لن تكون طرفاً في جدال عقيم، مع استعدادها ﻷن تنخرط في جدلية منتجة.ما يلفت اﻻنتباه في رد السيد هشام البستاني («الأخبار» عدد الثلاثاء 19 شباط) هو أنّه لم يجب على التساؤلات الرئيسة التي وجهتها له في ردي على مقالة سابقة هاجمني فيها وهاجم تيارنا. وبدلاً من ذلك أغرق القارئ في سيل من الاقتباسات المتناثرة، مهملاً النصوص المتكاملة التي تتضح فيها الفكرة تماماً، ومنها على سبيل المثال البرنامج الانتخابي لقائمتنا اﻻنتخابية المسماة «أبناء الحرّاثين»، وهو برنامج يمكن عند قراءته ملاحظة مقدار مجافاة البستاني للحقائق.
للتذكير كانت تلك التساؤلات التي وجهتها للبستاني تصب في محورين:
أوﻻً: ما هي اﻹجراءات العملية التي يقترحها الكاتب البستاني في وجه مخططات الصهيونية لتفريغ اﻷرض الفلسطينية من سكانها باتجاه اﻷردن؟ نحن نقترح قوننة فك اﻻرتباط وتقنين الجنسية اﻷردنية وإغلاق أبواب التهجير الناعم، بالتوازي مع تقديم دعم حقيقي للصمود الفلسطيني في فلسطين، وبالتوازي مع معاملة الأردنيين من أصل فلسطيني بشكل طبيعي كمواطنين أردنيين. لن تجدي الشعارات في مواجهة واقع يتمثل في وجود أكثر من مليون فلسطيني في اﻷردن، ﻻ يحملون الجنسية اﻷردنية، وجاؤوا إلى اﻷردن من الضفة منذ العام 1988. الكاتب، ومن لفّ لفيفه، يغضون الطرف عن هجرة هؤﻻء إلى اﻷردن، ويبحثون ليل نهار عن تخريجات وثغر قانونية لمنح أكبر عدد ممكن من المهاجرين الجنسية اﻷردنية. يكتفي البستاني في رده على الرد بمهاجمة تيارنا معتمداً أسلوب تزييف الحقائق ومبتعداً عن الحديث عن السرطان الاستيطاني الصهيوني، الذي استولى على أكثر اﻷرض الفلسطينية وجعل باقي تلك اﻷرض رقعاً طاردة يجبر أهلها على تركها تدريجياً، ولنا في القدس خير مثال. الكاتب ينظّر لترك المسائل كما هي إلى أن تنجز الدولة الوحدوية التي يتحدث عنها، وإلى ذلك الحين ﻻ مانع لديه من استمرار الهجرة الفلسطينية إلى اﻷردن.
ثانياً: لماذا يوجّه الكاتب سهام عدائه للدولة الأردنية تحديداً وللمشروع الوطني الأردني تحديداً؟ هل هو فقط تعال يساري تقليدي على فكرة الدولة بالعموم؟ إن كان كذلك فالكاتب الفاضل لم يصله بعد آخر مراجعات اليسارية العربية والعالمية والمتعلقة باﻻحتفاء ــ وليس فقط اﻻعتراف ــ بالهويات المحلية الوطنية وحتى دون الوطنية، كما أنه كما يبدو يقفز عن قوانين ماركسية أساسية، فدون تطور اﻹنتاج وأدوات اﻹنتاج لن تكون هناك مصالح مشتركة تجعل الوحدة طبيعية، أما إن كان البستاني يتحدث عن وحدات قسرية فلدينا في تاريخنا العربي الحديث ما يغني عن الدخول في نقاش معه حول تلك المسألة. كما أنه يقفز عن أمثلة واضحة استطاعت فيها عصبويات تحت ــ وطنية أن تهزم المشروع الصهيوني في أرضها، كتجربة حزب الله مثلاً. ولكن الحقيقة أنّ المسألة عنده تتعلق باﻷردن تحديداً، فالبستاني ﻻ يتحدث عن الوحدوية إﻻ عندما تتعلق المسألة باﻷردن، أما حين يتحدث عن الكيانات اللبنانية والفلسطينية فهو يتحدث عن الشق اﻻجتماعي دون السياسي. وهو ممن يستنكرون قراءات التاريخ اﻷردني التي تعيد اكتشاف الهوية والشخصية اﻷردنية. هل هناك مثلاً شخصية مصرية كما يصفها جمال حمدان (باحث جغرافي)، فيما ﻻ توجد شخصية أردنية؟ وإلى أيّ حد تلتقي رؤية البستاني للدولة اﻷردنية واقعياً مع الرؤية الصهيونية التي ترى اﻷردن مكاناً فارغاً يمكن تهجير الفلسطينيين إليه؟
المؤسف حقيقة في ردّ البستاني هو مقدار التزييف، وﻻ أجد كلمة أخرى لوصف ما يقوم به. ويمضي البستاني سحابة مقالته في التزييف ضدنا لتشويه صورتنا، إلى الحد الذي ﻻ تجد فيه ترابطاً كافياً بين عنوان مقالته ومحتواها لفرط انشغاله بإيجاد علاقات وهمية واستنتاجات هشة واقتباسات مبتورة لتشويهنا. فعلى سبيل المثال هو ﻻ يمل من تكرار القول إننا نطالب بسحب الجنسيات من اﻷردنيين من أصول فلسطينية. اﻷردن كان الدولة الوحيدة التي منحت الفلسطينيين جنسيات من بين دول الطوق، ومع ذلك لم نطالب كتيار أو كقائمة انتخابية في أي بيان أو مقالة أو ندوة أو حديث أو مناظرة أو جلسة خاصة أو عامة بسحب الجنسيات. تماماً كما أن مطالبتنا ككتلة انتخابية بقوننة فك اﻻرتباط منفصلة كلياً عن مطالبة بعضنا كأفراد، وفي ظروف سياسية مختلفة، بدسترة فك اﻻرتباط، حيث طالب بعضنا كأفراد، بداية وقبل عدة اعوام بالدسترة، ثم من خلال الحوار مع قوى مختلفة كان الموقف الجماعي هو المطالبة مرحلياً بالقوننة، وأحياناً كنا نكتفي بالمطالبة بقانون للجنسية لضمان توافق سياسي أوسع، وهو ما يخلطه البستاني ببعضه دون تمييز بين المراحل ودونما تمييز لميكانيكا الممارسة السياسية، ربما عن حسن نية! ويعود بعدها ليقول إنّ ﻻ فرق بين القوننة والدسترة!
ملخص ما طالبنا به هو إجراءات قانونية توقف سيل الهجرة إلى اﻷردن، وتحدثنا في نفس الوقت عن رفضنا لسحب أية جنسية. وبالمناسبة لم نسمع تعقيب البستاني على هجرة أكثر من مليون فلسطيني في اﻷردن خلال عقدين، ولم نسمع منه تعقيباً على تجنيس عشرات الآﻻف من الفلسطينيين عن طريق الديوان الملكي اﻷردني، أحدهم هو محمد دحلان. من هنا يلتقي مع النظام ومع نتنياهو؟
مثال آخر على تزييف البستاني هو إيراد بعض الأفكار على أنها اقتباسات، في حين يكتشف أيّ قارئ متمعن رجع إلى المراجع التي أوردها البستاني أن تلك اﻷفكار لم ترد في النصوص اﻷصلية، ولكنها محض استنتاجات زائفة خلص إليها البستاني. يمكن العودة مثلاً إلى الفقرة الثالثة التي يتحدث فيها عن الهدف من دسترة أو قوننة فك اﻻرتباط بأنه يعني عندنا سحب الجنسيات من اﻷردنيين من أصول فلسطينية، وعند مقابلة تلك الفقرة بالمرجع الذي يستند إليه، نكتشف أنه ﻻ يرد في المقالة التي يعتبرها مرجعاً ما يتحدث عن المطالبة بسحب الجنسيات كما يزعم. وفي المرجع الثالث الذي استند له يكتشف من يعود إليه أن البيان يتحدث عن مسألة اﻻنقسام الأهلي بعد أحداث 24 آذار 2011، ويتحدث عن ثغر دستورية في العلاقة مع الضفة، وﻻ يطالب بالدسترة كما يدعي البستاني، ولكن يطالب بإخضاع المواطنة لسيادة القانون. أما المرجع الرابع الذي يفترض أنه حجة ضدنا ﻹثبات مطالبتنا بالدسترة فهو مادة رأي وليس مادة خبرية، يحمل كاتبها نفس الخلط الذي يحمله البستاني من حيث عدم التمييز بين القوننة والدسترة. ومعظم المراجع التي أوردها في رده تأتي تحت هذا الباب.
مثال ثالث صارخ هو بدء السيد البستاني مقالته بالحديث عن «خلطي بين المفاهيم والشتائم»، حيث عدت لقراءة ردي كلمة كلمة، ولم أجد أنني قلت إنّه يستخدم الشتائم. ما يجعل مشكلة عدم القراءة واضحة، وهي تتكرر في مكان آخر في الرد عندما يتهمني بأنني لم أقرأ مقالته ﻷنني لم أنتبه إلى حديثه عن المشروع الوطني الفلسطيني. وأيضاً هناك عدم قراءة من قبله، فحديثي كان أنني أتحداه أن يقول ذلك في مخيم فلسطيني ﻻ في صحيفة لبنانية ﻻ يقرؤها في اﻷردن إﻻ النخب، مع أهميتها الكبيرة في لبنان وفي اﻷردن.
باقي اتهامات السيد البستاني تتطلب الكثير من الكتابة للرد عليها، ولكن يمكن الرد على عينتين وترك الباقي للقياس. أولاهما حديثه عن تنسيق حركة اليسار مع اﻻستخبارات، وهي قصة تكشف العداء لكل ما يخص الدولة اﻷردنية لدى البستاني، فاللقاء من حيث المبدأ ليس مشكلة، فهي استخبارات دولتنا وليست استخبارات دولة أخرى يلتقيها بعض اﻷردنيين دون حرج، وينطبق نفس الشيء على اللقاء مع الملك، فنحن نؤمن بالدولة اﻷردنية ونعارض على هذا اﻷساس. وعندما نلتقي مع مسؤولين أردنيين فإننا نلتقي كمعارضين وﻻ نحني رؤوسنا وﻻ نطلب مكاسب، وﻻ ننسق نشاطاتنا مع أحد، ولكن نقدم مواقف ورؤى سياسية حول كل القضايا الوطنية ونتحدث حولها. ويلتقي معظم قادة المعارضة اﻷردنية بمسؤولي الحكومة والاستخبارات، حيث يعلن عن بعض تلك اللقاءات في حين يتم التكتم على معظمها. وكانت حركة اليسار من الجرأة بحيث أعلنت هي بنفسها عن تلك اللقاءات التي أحجم غيرنا عن اﻹعلان عنها. ويتناقض ذلك جوهرياً مع معارضات تفكر بمثل عقلية البستاني حيث تمانع في اﻻلتقاء بالسفراء اﻷجانب، وحتى مبعوثي استخبارات غربية في الوقت الذي تكفّر أي لقاء بأيّ مسؤول أردني. ثم إنّ التنسيق المزعوم مع الاستخبارات والنظام كانت نتيجته فصل منظّر الحركة ناهض حتر من عمله في يومية «العرب اليوم» ومن عمله في البنك اﻷهلي، واعتقال أكثر من 20 شاباً من شباب الحركة على 4 دفعات، كنت شخصياً من بين المعتقلين في دفعتين، وكانت وقتها سيطرة الاستخبارات على الحياة العامة في اﻷردن شبه مطلقة. كان ذلك قبل 5 أعوام في أوجّ التنسيق الذي يتحدث عنه الكاتب! والذي كان ينعم وقتها بسكينة كافية للكتابة في الوقت الذي كان باسم عوض الله يبيع اﻷردن! نسيت: لقد انتقد الكاتب باسم عوض الله عبر التلفزيون اﻷردني الرسمي التابع للنظام! بالمناسبة تحضرني حالة (مناضل) سجن لساعات عديدة، ثم خرج ليكتب عن تجربته في السجن!
الثانية هي حديثه عن اعتقالي، رغم أنني لم أتحدث عنه في ردي اﻷول، ولكن كان حديثي عن محاوﻻت النظام تعطيل ترشح قائمتنا حيث كان ثلاثة منا مطلوبين لمحكمة أمن الدولة. المهم أن البستاني يلمز إلى أنه أفرج عني بأمر ملكي، ولكنه نسي أن يذكر أن الأمر الملكي تأخر 5 أيام قبل تنفيذه، وأن ذلك الأمر الملكي جاء تحت ضغط شعبي وإعلامي كبيرين، حيث كانت مسألة اعتقالي في 1 حزيران عام 2011 تشغل اﻷردن كلها منذ اللحظة الأولى وحتى خروجي من السجن، حيث نفذت عشرات اﻻعتصامات للمطالبة باﻹفراج عني، وشهدت التظاهرات الشعبية رفع ﻻفتات وهتافات بذلك، وكتب عن قضيتي أهم كتاب وصحافيي اﻷردن، وزارني داخل السجن وبعد اﻹفراج عني ممثلون عن أبرز تيارات المعارضة، كما كتبت صحف عالمية كبرى ووكالات أنباء وفضائيات عن المسألة. وأوردت منظمات دولية حقوقية ومهتمة بحريات الصحافة انتقادات حادة للحكومة اﻷردنية بسبب اعتقالي، خصوصاً أن العقوبة التي كنت أواجهها، بحسب التهمة المسندة إليّ، هي عقوبة اﻹعدام (حسب المادة 136 من قانون العقوبات اﻷردني). ربما يكون ذلك كله تمثيلية مثلما يلمّح البستاني!
اﻻنجرار إلى تفنيد التزييف نقطة نقطة يطول ويضيع الجوهر، وهو أن ما يقوم به الكاتب المحترم فعلياً هو التنظير بشكل رديء وغير متقن لحالة سياسية تخدم المشروع الاستيطاني الصهيوني. هذا ما يسمح باستمرار التدفق البشري الناعم من الضفة إلى اﻷردن، مدافعاً في الوقت نفسه عن الطروحات القائمة على المحاصصة كما كشف بنفسه في مقالته اﻷولى التي تحدث فيها عن أنّ اﻷردنيين من أصل فلسطيني ليسوا ممثلين بمقدار نسبتهم، مختصراً المسألة برمتها وكاشفاً الهدف من كل كتاباته. إن ما يكتبه البستاني ــ بقصد أو بغير قصد ــ هو أن يوسع الصهيونية شتماً ويتفرج عليها تودي بالأرض، فيما يطالب هو ومن يشبهونه بتمهيد اﻷرضية القانونية لتحويل اﻷردن إلى وطن رسمي للفلسطينيين، أي أنه يؤدي خدمة للمشروع الصهيوني على حساب اﻷردن. أما بخصوص المجادلة الحاصلة هنا فإنني سأتوقف عند هذا الحد، ولن أعود للرد ما دام مستوى التزييف وصل إلى هذه الدرجة، حيث أنأى بنفسي عن اﻻنحدار إلى مستوى إثبات ما هو مثبت.
* كاتب أردني