بعد إقرار مشروع انتخابي جديد أو ما سمي مشروع «اللقاء الارثوذكسي» في اللجان النيابية والاستعداد لعرضه على الهيئة العامة لإقراره (مع اعطاء فرصة للتشاور قبل ذلك)، ومع إصرار رئيس الجمهورية على رفض هذا المشروع والطعن فيه حال اقراره في مجلس النواب، وعدم إغفال معارضة شريحة كبيرة من المواطنين اللبنانيين له، يمكننا قراءته من الناحية القانونية بدءاً من خلاصة المشروع، وصولاً إلى صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية والقانونية، وبعض الأسباب التي تصلح لتقديم طعن في مشروع كهذا إذا ما أُقرّ.
خلاصة مشروع اللقاء الأرثوذكسي

يتلخص مشروع اللقاء الأرثوذكسي بما يلي: لبنان دائرة انتخابية واحدة، وتنتخب كلّ طائفة نوابها. وتُعتمد النسيبة في العملية الانتخابية، مع الاحتفاظ بتمثيل كل المناطق اللبنانية وفقاً للمعمول به.
وهكذا نستطيع أن نحقق ما يلي: نقل الصراع المرضي بين الطوائف إلى تنافس حيّ ضمن الطوائف. والغاء حالة الغبن والشعور بالتهميش لدى الطوائف والجماعات السياسية. ومنع وجود حدود جغرافية واسقاط المحابر الطائفية، ومنع الذوبان بالمساحات الكبرى وتبسيط العملية الانتخابية. وانتاج قوى سياسية لدى كل طائفة تتحالف على الساحة الوطنية مع غيرها، بحيث تتكوّن كتل سياسية من مختلف الطوائف على شكل الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية.


صلاحيات رئيس الجمهورية الدستورية

لقد أعطى الدستور اللبناني رئيس الجمهورية الحق في ردّ القانون إلى مجلس النواب.
المادة 58 من الدستور أعطت رئيس الجمهورية، بعد إطلاع مجلس الوزراء (وإطلاع مجلس الوزراء هنا للعلم لا للموافقة)، الحق في طلب إعادة النظر في القانون الصادر عن مجلس النواب ولمرة واحدة فقط خلال مدة خمسة عشر يوماً من تاريخ اصداره (مادة 1 من قانون رقم 646 تاريخ 2/6/1997). وهو حق «توقيف» دون الحق في الالغاء أو التعديل. في حالة الرد، يجب إقراره بالأغلبية المطلقة لكامل أعضاء مجلس النواب أي 65 نائباً. فإذا أُعيد اقراره بهذه النسبة، وجب نشره في الجريدة الرسمية ولا يحقّ لرئيس الجمهورية وقفه أو إعادة الاعتراض عليه مرة أخرى.


الطعن بعدم دستورية القوانين

لرئيس الجمهورية الحقّ في التقدم بطعن لدى المجلس الدستوري بناء على الحق المعطى له في المادة 19 من الدستور والمادة 19 من قانون إنشاء المجلس رقم 250/1993. وهو حق عام وشامل لكل القوانين. يقدم الطعن خلال مهلة 15 يوماً تلي تاريخ النشر في الجريدة الرسمية، أو إحدى وسائل النشر المعتمدة قانوناً (مادة 31 من القانون رقم 243 الصادر في 7/8/2000- النظام الداخلي للمجلس)، ويُضمن استدعاؤه النصوص المطعون بعدم دستوريتها والنقاط المخالفة للدستور (المادة 32 من القانون السابق ذكرها).
وما يجدر الإشارة إليه هنا أنّ استعمال رئيس الجمهورية حق الردّ لا يحجب عنه الحق في سلك طريق الطعن بعدم الدستورية.

ثغر المشروع

عند الخوض في تفاصيل هذا المشروع، تتضح لنا الكثير من نقاط الضعف، التي تصلح لتكون سبباً للطعن بعدم دستورية هذا المشروع إذا ما أُقرّ، وهي تتلخض في ما يلي:
أ. نقاط قانونية: مخالفة الفقرة (ج) من مقدمة الدستور، التي تنصّ على «العدالة الاجتماعية في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز أو تفضيل». وكلمة «جميع المواطنين» تعني الشعب اللبناني بأكمله لا مسيحيه أو مسلميه بطوائفهم المتعددة، فهذا القانون ينتفي معه مفهوم العدالة، إذ ينتقص من حق كل شخص في اختيار أشخاص ينوبون عنه من طوائف أخرى يعتبرهم الممثلين الحقيقيين له واستبدالهم بنواب أوصلتهم طائفيتهم لا كفاءتهم. وهو ما يخلّ بمبدأ حرية الاختيار التي ترتكز عليها العملية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
النقطة الثانية هي مخالفة الفقرة (ز) من مقدمة الدستور، التي تنصّ على الانماء المتوازن في جميع المناطق، حيث سيجري الاخلال بهذا المبدأ إذا انتخب النائب من أبناء طائفته فقط، حيث يجري تفضيلهم على غيرهم من المواطنين في الطوائف الأخرى طمعاً في استغلال أصواتهم الانتخابية لاحقاً.
ومخالفة الفقرة (ح) من مقدمة الدستور، التي تنصّ على أنّ الغاء الطائفية هدف سياسي. فكيف يجري الغاء الطائفية بقانون يكرس تقسيم عناصر ومكونات الوطن؟
وأيضاً، مخالفة الفقرة (ط) من مقدمة الدستور، التي تنصّ على أنّ لبنان أرض واحدة لكلّ اللبنانيين، وأنّ لكلّ لبناني الحق في الإقامة على أيّ جزء منه، ولا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان. إنّ ما حصل في لبنان من حوادث عرضية (الحرب الأهلية أو ما حدث في 7 أيار 2008 على سبيل المثال) قد حدا بكثير من اللبنانيين إلى ترك مناطق سكنهم الأصلية لكونهم يقيمون ضمن أغلبية طائفة أخرى، والتوجّه إلى مناطق أخرى تسكنها أغلبية من طائفتهم، دون أن يكون لهم فيها أدنى انتماء، فما بالك إذا أُقرّ مثل هذا القانون؟ سيكون بمثابة تقسيم غير معلن.
ومخالفة الفقرة (ي) من الدستور، حيث أنّه لا شريعة تناقض ميثاق العيش المشترك، وهو ما يجري ضربه كلياً باقرار مثل هذا القانون.
ومخالفة المادة 24 من الدستور، التي تتحدث عن انتخاب مجلس نواب مناصفة بين المسلمين والمسيحيين إلى حين اقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي. لقد كان في ذهن المشرّع في ذلك الوقت تمرير الأمور بعد توقف الحرب الأهلية اللبنانية بما هو أحسن، والعمل على اقرار قانون انتخابي وطني، ونية المشرع هنا جلية وواضحة.
ومخالفة المادة 28 من الدستور، التي تنصّ على أن «عضو مجلس النواب يمثل الأمة جمعاء، ولا يجوز أن ترتبط وكالته بقيد أو شرط من قبل ناخبيه». فكيف سيمثل النائب الأمة جمعاء وهو منتخب من فئة معينة؟ وكيف لا تربط وكالته بقيد أو شرط من قبل ناخبيه (والربط هنا معنوي)، وهو الذي سيسعى إلى ارضائهم لإعادة انتخابه مرة أخرى، مغلّباً مصلحة الطائفة على مصلحة الوطن؟

نتائج غير منطقية

بتحليل بسيط للنتائج التي خرج بها مشروع اللقاء الأرثوذكسي يتبين ما يلي:
القول بنقل الصراع المرضي بين الطوائف إلى تنافس حيّ ضمن الطوائف أمر مردود عليه، إذ إنّه سيزيد من حجم التمسك بالطائفة على حساب الوطن، وسيزيد من الشحن ضد الطوائف الأخرى. والحديث عن إلغاء حالة الغبن والشعور بالتهميش لدى الطوائف والجماعات السياسية ومنع الذوبان في المساحات الكبرى ناتج في معظمه عن انتخاب المسلمين عدداً معيّناً من النواب المسيحيين (في مناطق معينة)، فالنظرة هنا هي للتمثيل الطائفي على حساب الوطني.
والقول إنّ المشروع يبسط «العملية الانتخابية» غير منطقي، فهل يكون التبسيط فقط باختيار ممثلين للطائفة؟ ألا يكون التبسيط في المعايير والاجراءات المتخذة من وزارة الداخلية (المسؤولة عن سير العملية الانتخابية) ولجان القيد لتمكين المواطنين من الاقتراع بسهولة؟ وهل الشعب اللبناني ليس على قدر من العلم والمعرفة ليحيط بخيوط القانون والعملية الانتخابية قبل اجرائها؟
إنّ اعتماد كل من الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية مثالاً لإنشاء كتل سياسية أمر مردود عليه لكونه يخالف ما هو حاصل اليوم، لأن لبنان في تلك الفترة كان دولة منتدبة ناقصة الصلاحية. أما بالنظر إلى الكتلتين، فيتبيّن لنا وجود رئيسين مسيحيين مارونيين (تحديداً) لهما، الكتلة الأولى برئاسة اميل إده والثانية برئاسة بشارة الخوري، ولا وجود لأيّ ثقل بارز في القرار السياسي لأيّ طائفة أخرى وخاصة الإسلامية، الذي انعكس على مجالس النواب آنذلك بسيطرة أغلبية مسيحية على أقلية مسلمة. وهنا كذلك نستذكر مأثرة المفوض السامي الفرنسي هنري بونصو في 10 أيار 1932، عندما علّق الدستور وحلّ مجلس النواب وأقال الحكومة وعيّن شارل دباس رئيساً للجمهورية، بعدما شعر بميول أكثرية النواب إلى انتخاب الشيخ محمد الجسر، أين كانت حقوق المسلمين يومها؟
في المقابل، يسجّل لمشروع اللقاء الارثوذكسي نقطة إيجابية ونصف نقطة. النقطة الإيجابية هي اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة، ونصف النقطة يتمثل في النسبية وتكتمل عند وضعها ضمن إطار وطني.
في الختام، لا بدّ وليس هناك من مهرب سوى اعتماد قانون انتخابي على أساس النسبية ولبنان دائرة انتخابية واحدة ضمن نظام أحزاب وبرامج وطنية عامة وشاملة. وإلى أن يتحقق ذلك دمتم ودام الوطن بخير.
* باحث في الشؤون القانونية