في المعطيات والنتائج الواقعية، لم يعد النظام السوري قادراً على استعادة سيطرة تمكنه من استئناف سياساته الداخلية عموماً والخارجية (الممانعة) خصوصاً. ومعطيات ونتائج واقعية مماثلة، تشير إلى أنّ المعارضة، بكل تشكيلاتها المسلحة خصوصاً، عاجزة عن تحقيق هدفها في اسقاط النظام في وقت منظور (قريب نسبياً)، وفي إقامة نظام بديل ينقل سوريا إلى مناخات التعدد والمشاركة والديموقراطية.وفي المعطيات والنتائج الواقعية، أيضاً وأيضاً، أن اصرار كلا الطرفين، أي السلطة والمعارضة، على تحقيق أهدافهما الخاصة، إنما سيمرّ، إذا ما تحقق، بكم هائل من المآسي والقتل والدمار والتشظي والتفتيت. مما يجعل ما ذُكر وما لم يذكر من شعارات وأهداف، غير ذي موضوع أو معنى على الاطلاق!
مناسبة هذا الكلام الذي لا يحتاج إلى مناسبة لتكراره والالحاح عليه (لعلّه يخترق بعض العقول المصفَّحة أو المكابرة أو المغامرة أو المتاجرة) هو تزايد المواقف والتقاطعات، المناوِرة أو الصادقة، التي تجنح نحو تشجيع وتنظيم حوار بين أطراف الأزمة السورية، بعدما كانت ترفض ذلك فعلياً، داعمة ومشجعة، من هنا أو هناك، مشاريع الانتصار الكامل!
لا يبدأ الحوار وفق ما قال أخيراً السيد الأخضر الإبراهيمي (هل ما زال وسيطاً دولياً وعربياً) من تأليف وفد رسمي سوري «مقبول». هذا شرط مسبق ولّى زمانه. الوفد الذي سيفاوض باسم السلطة السورية سيكون بالأساس، مقبولاً منها وممثّلاً لها. وهو إن لم يكن كذلك يجب أن ترفضه المعارضة قبل سواها، لأن أي وفد لا يمثّل السلطة سيمثِّل على المعارضة، وستكون وظيفته المناورة وكسب الوقت، لا الانخراط الجدي في البحث عن حل واقعي وفعلي للأزمة السورية البالغة الخطورة والأضرار على الصعد كافة.
في امتداد ذلك لا بدّ من تأييد وتشجيع مبادرة الشيخ أحمد معاذ الخطيب، رئيس الائتلاف السوري، التي دشّن من خلالها استعداد فئات وازنة من «معارضة الخارج» للتخلي عن شرط التنحي المسبق للرئيس بشار الأسد. ولا شك أن مبادرة الخطيب قد تجاوزت الكثير من المطبات والمعوقات حتى الآن. وهي كسرت مرحلة الجمود، وشجعت (إضافةً إلى أسباب أخرى في الداخل السوري وفي خارجه) التفاعل الروسي ـ الأميركي الذي يُتوقع أن يتبلور ويتطور في الأسابيع والأشهر المقبلة.
ويستطيع الخطيب أن يوسع من هامش علاقاته مع «معارضة الداخل». ولا شك أنّه سيحظى بشريك ثمين إذا ما مدّ جسور حوار وثقة وتعاون مع «هيئة التنسيق الوطنية»، ومنسقها السيد حسن عبد العظيم ورفاقه في الداخل والخارج. ذلك أنّ الهيئة ثابرت على مواقفها وثوابتها. وهي تملك تشخيصاً واقتراحات هما أقرب إلى الصواب من أي جهة أخرى على ضفتي الصراع والأزمة السوريين (راجع خصوصاً مقال الأستاذ رجاء الناصر في «السفير» 20-2-2013).
أما المطلوب من السلطة السورية، فهو بالطبع، أكثر بكثير من سواها. وذلك بحكم الموقع والتأثير والمسوؤلية. ينبغي للسلطة أن تجنح فعلاً باتجاه الحوار. وترجمة ذلك أن تكون طرفاً فيه لا مسوؤلة عنه، كما جاء في مبادرة الرئيس بشار الأسد، التي أعلنها في دار الأوبرا في دمشق في السادس من الشهر الماضي. إنّ السلطة لا تستطيع أن تكون خصماً وحكماً في الوقت ذاته. هذا هو، للأسف، ما انتهت إليه الأزمة السورية التي بات يتطلب الحوار بشأنها اعتراف طرفي الأزمة أحدهما بالآخر، واحتكام الطرفين إلى جهة ثالثة لا يقتصر دورها على «ترجمة» مبادرة السلطة السورية، كما جزم الرئيس الأسد. هذه الجهة الثالثة هي، تحديداً، الأمم المتحدة عبر مؤسساتها ومندوبيها، وبدعم، طبعاً، من الجهات الدولية المتورطة والمنخرطة والمؤثرة في الأزمة السورية، وعلى نحو خاص روسيا والولايات المتحدة الأميركية. وبديهي أنّ على أصدقاء النظام السوري تشجيعه، بل الضغط عليه، لاعتماد هذه الآلية، وبالنتيجة هذا التحول في مواقفه ومقارباته. ونستذكر هنا ما ينبغي أن يكون عليه دور اليسار السوري، وخصوصاً الشيوعيين السوريين الذين عجزوا عن اعتماد سياسة متمايزة عن سياسة السلطة السورية بشأن أهمية الحوار وشروطه الواقعية المفضية إلى جعله أداة لحلّ الأزمة أو معبراً إلى ذلك. ولقد كرّس البيان الصادر عن الأحزاب الشيوعية العربية في اجتماعها الأخير في بيروت في أواخر العام الماضي الخلل المذكور، حين تبنى صيغة تجعل الحوار محصوراً بين النظام والذين يشاركونه مواقفه تقريباً، مستبعداً أي حوار مع «معارضة الخارج» وكل الذين يؤيدون «التدخل الخارجي والعنف والعسكرة والتطييث...». كأنّ الدنيا بألف خير (هذا فيما كانت روسيا تعدّ مبادرة الخطيب مكسباً وتحولاً، وتواصل جهودها من أجل استقباله وقبله استقبال وفد من معارضة الخارج - معارضة إسطنبول من ضمنها-).
إن قبول مبدأ الحوار فعلياً، لا بدّ أن ينطوي، صراحة أو ضمناً، على التخلي عن الأهداف القصوى. فالحوار مع طرف، هو اعتراف واقعي به لا أداة لإلغائه. ذلك يعني، أيضاً، إعداد كل ما هو ضروري، نظرياً وعملياً، سياسياً ولوجستياً، من أجل تسهيل الانخراط في الحوار، ومن ثم تقديم الأفكار والاقتراحات والبرامج، التي من شأنها الوصول إلى الاتفاق على تسوية يعمل الجميع من أجل
تنفيذها.
لقد حملت الأزمة لسوريا وشعبها أفدح الأضرار. وهي أيضاً ستُعرضهما لأفدح المخاطر إذا ما استمرت متفاقمة ومستعصية على الحلول والتسويات. ولقد استنفد طرفا الصراع الأساسيان مراهناتهما على الوقت أو على السلاح أو على التدخل الخارجي. إنّ الوقت لا يعمل لمصلحة أحد، فيما استمرار الأزمة يعمل دون شك، وبأخطر النتائج، ضد سوريا وشعبها ووحدتها ودورها، وضد الطرفين المتصارعين أيضاً، من خلال إنهاكهما والمزيد من استتباعهما. وتشير التجربة اللبنانية إلى أن انهاك الأطراف من جهة، وعجز هذه الأطراف عن بلوغ تسوية داخلية من جهة أخرى، هما الطريق المؤدي حتماً إلى افقاد البلد سيادته واستقراره، وإلى وضعه، في لحظة مناسبة، تحت الوصاية الخارجية. السلطة السورية يجب أن تدرك ذلك قبل سواها، لأنها واكبت التجربة اللبنانية المُرّة، وكانت شريكاً ولاعباً مؤثراً في مراحل أساسية من تفاقم أزمتها ومآسيها وتسوياتها.
الحوار الذي يتحدثون عنه الآن، لا يمكن، بالنتيجة، إلّا أن يؤدي إلى تمكين الشعب السوري من أن يختار ممثليه وحكامه على نحو حرّ وديموقراطي. يحصل ذلك ضمن آلية واضحة ومتبناة من قبل طرفي الصراع، ومحمية من قبل القوى والمؤسسات الدولية النافذة. ويحصل ذلك، حكماً، بعد التخلي عن العنف الرسمي والمعارِض، وبعد توفير الشروط لعودة النازحين في بلدهم وفي الخارج، وبعد تأمين الحد الأدنى من إعادة تحريك عجلة الحياة والخدمات بما يلبي الحدّ الأدنى من حاجات المواطن واستئناف حياته العادية.
لقد أدّت أسباب عديدة، خارجية وداخلية، إلى منع تعميم «النموذج الليبي» في التدخل العسكري الأطلسي. ويجب، في المقابل، منع تعميم «النموذج السوري» في جعل التغيير مستحيلاً بسبب استخدام سلطة ما لكل مقدرات البلاد العسكرية والأمنية والسياسية لمنعه. إنه مخاض تتراكم مخاطره ودروسه دونما رحمة أو مكابرة.
* كاتب وسياسي لبناني