يمنع الوقوع ضحية السائد إمكان النقد ويعيق تبلور البدائل، إذ يستكين العقل على افتراض ديمومة الواقع ويجري توفير الجهد بانتظار «غودو». هذه هي حال الحزب الشيوعي اللبناني مع قضية التغيير الديموقراطي ومدخله، حسب الحزب نفسه، قانون انتخاب على أساس النسبية والدائرة الواحدة خارج القيد الطائفي. عندما دعا رئيس مجلس النواب نبيه بري إلى إنشاء «الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية»، سارع الأمين العام للحزب الشيوعي خالد حدادة إلى تسفيه هذه الدعوة باعتبارها دعوة صادرة عن زعيم طائفي. وجرى تجاهل أنّ بري هو رئيس السلطة التشريعية المطلوب دفعها لتشكيل هذه الهيئة المسكوت عنها منذ اتفاق الطائف. كذلك جرى التشكيك بدعوات قوى وشخصيات ومسؤولين إلى اعتماد النسبية، باعتبار هؤلاء جزءاًَ من النظام الطائفي. بالمقابل تهاون الحزب في إيصال الحراك الشبابي المتميز من أجل إسقاط النظام الطائفي إلى انتزاع مكاسب ملموسة كانت ممكنة، وغلب على أداء قيادته، خلافاً لشبابه، ميل للتوظيف ضيّق الأفق منطلقاً من قناعة باستحالة تحقيق منجز ما.

ويتبين، اليوم، أنّ ضرب الحراك الشبابي الكبير فتّت الجهود وخلق مشاعر إحباط، وهو ما يتجلى بهزالة التحركات الحالية وتعدد الداعين لها حتى ظهر أن هذه المسألة لا تعني رأياً عاماً واسعاً ومنتشراً. بمعنى آخر، فإن الحزب الشيوعي لا يصدق، من جهة، إمكان اضطرار الطبقة السياسية لتقديم تنازل في المجال السياسي الديموقراطي يلتقي مع موقفه ولا يثق، من جهة أخرى، بإمكان إجبار هذه الطبقة على تقديم التنازل المنشود من خلال تعظيم ضغط الشارع. فكيف، إذن، تتصور قيادة هذا الحزب العريق طريق إحداث «تغيير ما» في الحياة السياسية اللبنانية؟ من الواضح أنها لا تملك تصوّراً، وهذا ما لمسته القاعدة العريضة والمنتفضة مطالبة بالتغيير في الحزب أولاً.
لقد هيمنت الفكرة اليسارية المتعلقة بتغيير النظام الانتخابي، منذ تبنيها في برنامج الإصلاح المرحلي للحركة الوطنية، وهي تفرض نفسها بالتدريج على عدد من مكونات النظام السياسي القائم. لكن غياب الجرأة والخيال السياسي يكاد يطيح فرصة بدت سانحة لفترة من الوقت بفعل عوامل عديدة، أهمها تطورات المنطقة وتقدم مشاريع تفتيت دولها وإشعال الفتنة فيها. فالصراع الدائر في المنطقة بين محورين إقليميين ــ دوليين له، في لبنان، انعكاسات أكيدة واحتمالات مفتوحة تهدد، في معظمها، تماسك التحالف الطبقي المسيطر منذ التسعينيات. ذلك أنّ أركانه منقسمون سياسياً بين المحورين المتصارعين. وكان جلياً منذ أكثر من عام أنّ الشكل الطائفي للسيطرة الطبقية بات مهدداً بفعل تقدم التنابذ على التناغم بين مكونات النظام السياسي، وهو ما يدفع هذه الطبقة للتفتيش عن شكل أكثر ملاءمة لسيطرتها. ومع ذلك رفضت قيادة الحزب تبني تحليل قدمناه، وفيه أن الشكل الطائفي للسيطرة الطبقية لم يعد قابلاً للاستمرار، وأنّه بات ممكناً تسجيل خرق نوعي في قانون الانتخاب لجهة اعتماد النسبية خصوصاً، وفي التقدم خطوات على طريق إلغاء الطائفية السياسية. أبى العقل، في محدودية حركته وانفصالها عن الواقع وانغلاقها على الذات، تصديق أنّ ذلك ممكن رغم ما أظهرته الانتفاضات الشعبية العربية من قدرات نضالية كامنة واحتمالات تغيير ممكنة. فجرى التعامل باستخفاف لا يخلو من غلوّ مع الإشارات الصادرة عن بعض مكونات النظام الطائفي، كما جرى التعامل مع انفجار الشارع الشبابي، خصوصاً، باعتباره فشة خلق وصرخة في واد بدل السعي، كما اقترحنا في حينه، إلى تطويره وتوسيع قاعدة المشاركة فيه باتجاه خلق كتلة حرجة قادرة على فرض انتزاع مطالب عيانية ملموسة، في حينه. لقد أدّت هذه السياسات المترددة والمنفصلة عن الواقع، في حركته، إلى تقويض احتمال «فرض» النسبية من خلال الضغط الشعبي والسياسي، وهو ما أفسح المجال أمام تظهيرها كخطوة إصلاحية من لدن النظام نفسه. وبدل أن تتبلور وفق شروط الضغط الشعبي وتشكّل انتصاراً لنضال تراكمي يفتح الباب أمام تزخيم الحركة الشعبية، ها هي اليوم تتمظهر وفق شروط النظام السياسي ــ الطائفي أيّ بالحد الأقصى للتنازل الذي يمكن أن يقدم عليه تلقائياً. ومن زاوية بحت أخلاقية، يصبح أمراً غير مفهوم أن تتعالى صرخات الانتقاد من القوى الديموقراطية، وخصوصاً من الحزب الشيوعي في وجه قانون هجين، فهذا الحزب يتحمل بكل وضوح مسؤولية كبرى عن إجهاض الحراك الشبابي لإسقاط النظام الطائفي وعن اغتنام الفرصة الموضوعية التي أتاحتها التطورات الإقليمية لفرض تغيير نوعي في لبنان. ومن موقع العارف ببواطن الأمور، يجدر الاعتراف بأنّ أسباب هذه السياسات التي انتهجتها قيادة الشيوعي لا تقتصر على انحرافها اليميني، كما بينّا في موضع سابق، بل تعود أيضاً إلى انعدام الثقة بالذات والخوف من القيادات البديلة التي تبشر بإعادة الاعتبار إلى كفاحية الشيوعيين ونضالهم بين الجماهير.
* عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي اللبناني