العدالة هي من أكثر المفاهيم شيوعاً، وهي الهدف الأساسي لرسالات الأنبياء، وموئل البحث الفلسفي، وشعار العديد من الأحزاب والحركات. لكنها في الوقت نفسه من أقل المفاهيم أعمالاً وتسييلاً، ومن أندر القيم فعلاً وتطبيقاً. ولعل أسباباً عديدة تقف خلف تعطيل مفهوم العدالة عن أن يأخذ مداه، ويوظف طاقته، في أكثر من ميدان اجتماعي وغير اجتماعي.تبدأ الإشكالية في بعدها النظري، في دراية فلسفة العدالة وحقيقتها، حيث ينحو البعض إلى تقديم تفسيرات أقرب ما تكون إلى المعالجة اللغوية، التي تستبدل تعبيراً بآخر. فيما ينحو آخر إلى تقديم تفسير ينتقص من قيمة العدالة، أو يشوّه معناها. أو يحاول البعض أن يرى العدالة في نفسه، بمعنى أن يسقط رؤيته أو مصلحته أو ميله على العدالة، لتصبح نفسه معياراً لها، يصحبها أنى شاء ويميلها أنى اتجه هواه.
ثمّ يتجه البحث إلى الشروط الواجب توافرها لتحقيق العدالة، بعد أن نتجاوز البعد النظري، وهنا يحتاج الأمر إلى أن يتوافر في المرء الكثير من الشروط ذات البعد التربوي والأخلاقي والروحي، حتى يمكنه أن يقيم للعدالة علماً، فمن لم يتربّ على العدالة لا يستطيع أن يقيمها، ومن لم تنشأ أخلاقه عليها لا يمكنه أن يجربها، ومن لم تنصهر نفسه مع جوهرها لن يجد إلى تذوقها سبيلاً.
العدالة ليست مفهوماً تجريدياً يستعصي على التنزل إلى الواقع الاجتماعي، وليست حكراً على ميدان أو آخر، بل تتصف بالشمول لجميع أبعاد الاجتماع الإنساني، وهي لا تقبل التجزئة، بمعنى أن من ينشد العدالة في وادٍ لا يمكنه أن يهجرها في وادٍ آخر، وإلا دلّ على أنه ينشد سواها وإن تغنى بها. هي في حقيقتها أقرب إلى الذوقيات، تنال بالترقي لا بالتمني، موطنها النفوس لا النصوص، تنالها نفوس متعالية، فيما يهجرها كثيرون. لا يمكنها إلا أن تتجلى؛ فهي لا تقوى على كتمان السر. فمن كان عادلاً، فلا بد أن تحكي أفعالُه عدالتَه، وأن تظهر عدالته في جوارحه. ومن لم يحصل له ذلك، فهو لا يملك ناصيتها وإن أنشد لها من الشعر ديواناً. تسكن النفوس، لكنها تتجلى فعلاً وسيرة وجميل فعال. يغذيها العمل، لكنها هي من يصدره، وتعطي له هوية وكياناً.
أما في اجتماعنا السياسي، فإن العدالة ليست قيمة بذاتها، هي أداة من أدوات الصراع؛ الصراع على السلطة والدور والهوية، وهو يقود إلى الصراع على كل شيء، وفي كل شيء، على الجغرافيا، والديموغرافيا، والإدارة، والمؤسسات، والسياسة... وصولاً إلى قانون الانتخاب، بما هو مدخل لإعادة إنتاج السلطة وتوزيعها.
هنا الحاكم، نهم للسلطة، وهذا ما يجعل من كل حدوده نهمه، وميزانه مدى شبقه. هنا لا قاعدة نحتكم إليها، ولا عدالة نبني عليها. حدودك ما بلغت يداك والعدالة طوع لميل من هواك. مع أنه لو صلحت النيات واستقامت السجايا، فإن من أوليات السياسة أن تقوم على العدالة. وإن مقابل العدالة المنتقصة ليس نصف عدالة، بل هو ظلم بغض النظر عن درجته. وإن قانون انتخاب يقوم على الظلم والإقصاء والاحتكار والتمدد على حساب الآخرين والتغول عليهم، هو قانون غير عادل، ولن ينتج استقراراً، ولن يساعد الوطن على الخروج من أزماته، ولا يبني دولة، ولا يوصل إلى مدنية. ومن أعجب العجب في بلادنا، أن الجميع يغني للدولة، وينشد لبنائها، وهو يعرف أية وسيلة تقود إلى صناعتها على مستوى الفعل الانتخابي، لكنه لا يتوانى عن هجران كل ما يقود إلى بناء تلك الدولة ونقض أركانها، قبل أن يصيح الديك ثلاثاً.
إنّ نحر العدالة على مذبح الفعل الانتخابي يؤدي إلى التسيب في كل شيء. عندما نتفق على إقصاء العدالة، يعني أننا لن نتفق بعدها على شيء. لأنّه لن يبقى عندها أي ناظم لحياتنا السياسية، بما فيها قانون الانتخاب. وعندما نقصي العدالة كقانون، يعني أننا فتحنا أبواب الصراع على كل شيء؛ لأنه إذا لم نرضخ لقانون العدالة، فإن البديل قانون «وما ملكت يمناك».
إن مؤدى إقصاء العدالة الانتخابية عن الاجتماع السياسي اللبناني هو الفوضى، والصراع المنفلت، والذرائعية غير المنضبطة، والتأسيس لتفكيك الدولة عروة عروة، وإيجاد نقيضها من القبليات السياسية والاحتماء بها، وتعزيز الطائفية، والرجوع القهقرى إلى عصر ما قبل الدولة، وتوفير بيئة خصبة للفساد وعدم الاستقرار، وإيجاد ديناميات مطردة لتدمير المجتمع، وتعطيل أية قدرة لديه على الإصلاح وبناء الدولة المدنية العادلة.
نحن لا نسرف في القول في بياننا لتداعيات عدم الارتكاز على العدالة في الفعل الانتخابي، لأن أي اجتماع سياسي، لا يتوافر فيه ناظم قيمي ليحتكم إليه، ويُذعن لمترتباته، فمعنى ذلك التأسيس للانفلات، وللانتظام في ذلك الاجتماع، ولجعل منطق التغلب بديلاً لمنطق القيم، وهو ما يفتح شهية مجمل الأطراف والمكونات السياسية وغير السياسية على ممارسة التغلب، والسعي الدؤوب إلى تغيير موازين القوى، والاستعانة بالخارج، وإيجاد بيئة خصبة للصراع المستديم على السلطة، وتناتش الدولة ومؤسساتها.
إن معنى التخلي عن العدالة هو الانزلاق إلى اللاعدالة، وما يؤدي إليه ذلك من دفع المجتمع والدولة إلى الانحدار، بمعزل عن الدرك الذي يبلغه؛ إذ إن من يقبل باللاعدالة على مستوى الفعل الانتخابي، هو حاضر لأن يقبل بها في مجالات أخرى: سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية. وإذا تبين أن الاجتماع السياسي يقبل التواطؤ على العدالة في ميدان، فمعناه أنه يقبل التواطؤ عليها في بقية الميادين، وإن من يقبل أن يجافي العدالة عند أول اختبار، فهو يقبل مجافاتها في كل دار أو نهار.
إن من يفتقر إلى العدالة في نفسه لا ينتظر منه أن يجريها في فعله وسياسته، سواء على مستوى قانون الانتخاب، أو أي أمر آخر يهم الوطن والمواطن؛ لأن العدالة في الفعل والممارسة لا تتخلف عن العدالة في النفس والوجدان، ولأن العدالة إذا تشكلت حقيقتها، لا تتخلف عنها تجلياتها. كذلك لا تجزئة فيها، ولا تفكيك بين مترتباتها، فمن كان ينادي بالعدالة في ميدان، فصدقُه أن ينادي بها في جميع الميادين، ومن هجرها في آن، فدليل على أنه يغفل في كل آنٍ وحين. وإذا كانت الدولة لا يبنيها إلا رجالها، فإنّ العدالة لا يقيمها إلا أبناؤها الشرعيون.
ألا تعني الديموقراطية صحة التمثيل؟ ألا تؤدي صحة التمثيل إلى انتظام القانون الانتخابي على أساس العدالة غير منقوصة؟ ألا تستلزم عدالة ذلك القانون إعطاء كل ذي حق حقه، على مستوى التمثيل الانتخابي؟ ألا يقود ذلك إلى أن يأخذ كلٌّ بحسب حجمه التمثيلي، لا زائداً ولا منقوصاً؟ ألا يوصل ما تقدم إلى أن النسبية غير المقطعة على مساحة الوطن، هي التعبير الأوحد عن تلك العدالة؟ ألا نستنتج مما سبق أن النسبية العابرة للطوائف والمذاهب والجغرافيا، هي التعبير الحصري عن العدالة الانتخابية؟ وإن من كان ينطق صدقاً أنه يلتزم الديموقراطية ويريد الدولة المدنية، فما عليه إلا أن يقبل بالنسبية مع الدائرة الواحدة على مستوى الوطن كل الوطن، حتى يأخذ كلٌّ حقه غير منقوص أو مزود، بهذا نؤسس للعدالة في الوطن.
إن هذا القانون يمتلك العديد من الإيجابيات التي ينبغي الوقوف عندها ملياً، منها أنه يسهم إلى حدّ بعيد في قطع الشهية على التغول الانتخابي. ومنها أنه يسهم في تظهير الواقع السياسي اللبناني كما هو، من دون أي تشوه أو تزييف. ومنها أنه يؤدي إلى تمثيل الجميع، وإتاحة الفرصة لجميع المكونات اللبنانية لتحمل مسؤولياتها الوطنية. ومنها أنه يدفع إلى الاعتدال وتعزيزه في اجتماعنا السياسي اللبناني، لأنه لن يستطيع عندها أي مكون لبناني وحده أو إذا اجتمع معه آخر، أن يحكم بمفرده أو بمعية ذلك الآخر، بل سيحتاج الأمر إلى تشكيل ائتلاف واسع لممارسة الحكم، وهذا يعني ضرورة أن تعمد مجمل مكونات الاجتماع السياسي اللبناني إلى التصالح مع بعضها، والتواصل في ما بينها، لإعادة إنتاج السلطة. وهو ما يدفع جميع المكونات السياسية إلى إعادة تشكيل مشروعها السياسي، بطريقة تأخذ في الاعتبار هواجس بقية المكونات ومصالحها وتطلعاتها، وهو ما يؤدي إلى إعادة تشكيل خطاب سياسي، تواصلي، وتقريبي، وحواري، يعمل من أجل تعزيز ثقافة العيش المشترك، وبناء علاقات سويّة وصحية بين جميع المكونات السياسية في لبنان، وإعادة بناء الدولة على أساس قيم العدالة بدءاً من قانون الانتخاب.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية