كلما ازدادت وتيرة العنف الممارس من النظم المافياوية الجديدة تضاءلت إمكانية التفريق بينها وبين الهياكل القديمة التي لم تسقط بعد. هذه خلاصة من جملة الخلاصات التي وصل إليها المرء بعد طول اشتغال على المماهاة بين حالتين يصعب في العادة أن يحدث بينهما أيّ تماه: مصر وسوريا. في حالة مصر لدينا نظام أتت به «ثورة» لم تستسغ كثيراً فكرة القطيعة الجذرية. أما في سوريا «فالثورة» التي يجابهها «النظام» لا تعرف عن فكرة القطيعة إلا تمركزها حول السلالة الحاكمة وامتيازاتها. في الحالتين تغيب القطيعة بتأويلاتها الأكثر جذرية إن في السياسة أو في الاقتصاد، وتحضر بدلاً منها «أشكال تلفيقية» لا يفوتها أن تكون عنيفة ودموية كما في حالتنا للإيحاء بأشياء معينة من بينها قدرة الدم على أن يكون معادلاً وحيداً للقطيعة. هو لم يصبح كذلك بعد لأسباب موضوعية فات المنظّرين لسياسوية اقتلاع النظام من جذوره أن يشرحوها لمريديهم. فاتهم أيضاً أن الثورة في مصر قد بدأت تتجذّر باضطراد، بالضبط لأنها «تضحّي أكثر»، ولأنها تعرف أن التضحية طريق في اتجاهين: واحد للناس والطبقات الشعبية، وآخر للصوص الكبار وأصحاب الاحتكارات. في سوريا سلكت «الثورة» في كثير من الأحيان الطريق الثاني، ولو بدا أنها تفعل العكس بمعيّة الفقراء الذين يقودونها. ربّما كان المصريون محظوظين أكثر منا في ذلك، فلقد استيقظوا بعد سنتين من المراوحة في حضن الثورة الملونة على واقع فظّ نختبره يومياً هنا، ويتمثّل في تبديد الثمن الذي يدفعه الفقراء لقاء انتفاضهم المستمر ضد المافيات الحاكمة. بالطبع لا يحدث ذلك بمحض الصدفة أبداً، ففي مصر كما في سوريا وجد الرأسماليون المافياويون (الكومبرادور) وأصحاب الاحتكارات أن تدخّلهم في الانتفاض الجاري سيعود عليهم بالكثير في ما بعد. وهذه عملية معقّدة جداً، ويصعب غالباً التحكّم في ديناميتها بدليل التصدّعات التي بدأت تطاول الكومبرادور ذاته من جرّاء التدخّل ذاك. خذوا مثلاً حالة نجيب ساويرس. لم يقرّر هذا الرأسمالي إيقاف تدخّله في الثورة إلا بعد مساس المنتفضين بمصالحه المباشرة ــ المجمّع الذي يملكه على النيل ــ وتآكل أرباحه داخل مصر. سيكون من العبث بالنسبة إلى متموّل مثله أن يستمرّ في التدخّل وهو يرى بأمّ العين كيف تتضاءل قدرته على التأثير في الصراع لغير مصلحة الفقراء. لكن هنالك في المقابل من لم يستسلم بعد، ومن لم تمتلك دينامية الثورة القدرة على تهميشه والمساس بامتيازاته. وهؤلاء في الحقيقة كثر، وقد أصبحوا أكثر شراسة من ذي قبل في تدخّلاتهم وفي سعيهم لتدفيع الفقراء ثمن الانتفاض والتجرّؤ عليهم. لنقل إن التجرّؤ هنا لم يكن كاملاً، لأنّ «الثورة» في طورها الملوّن لم تبد معنية كثيراً بالمواجهة مع الرأسماليين قدر اعتنائها بمواجهة من يحرس امتيازاتهم (العسكر والأمن). لقد أهدر كثير من الوقت في العامين الماضيين على مجابهات ثبت بالدليل القاطع أنها لم تكن يوماً في صلب ما تريده الثورة لنفسها ولشعبها. ثمّة طبعاً بسالة كبيرة في تحطيم سلطة العسكر والأمن وكفّ يدهما عن التدّخل في السياسة، لكنْ ثمّة أيضاً رأسماليون يستفيدون من إطالة أمد هذه المواجهة لتحييد امتيازاتهم عن غضب الجماهير. من المفيد أحياناً أن يستخدم هذا الغضب على نحو يجرّد الامتيازات تلك من صفتها الاحتكارية، ويعيدها ملكاً للشعب بشكل أو بآخر. حصل شيء من هذا القبيل مع أكثر من منشأة صناعية مصرية آلت إدارتها فعلياً إلى العمّال بعد هرب أصحابها إلى خارج البلاد لأسباب تخصّ التهرب الضريبي أو الامتناع عن دفع أجور العمال. سيمضي الكثير من الوقت علينا في سوريا قبل أن نتعلّم فعل شيء مماثل. فالانتفاض هنا لفرط ما جوبه بتحدّيات، تبدأ بالبطش الأمني والعسكري ولا تنتهي باستيلاء رأسماليات مافياوية مجاورة عليه (تركية تحديداً)، لم يتح له أن يطرح على ذاته وعلينا سؤال الاقتصاد وعلاقته بالتضحيات الجارية على نحو ما هو حاصل في مصر اليوم. ما زلنا هنا في صدد الخلط الذي تمارسه الحرب بقصدية قلّ نظيرها، وتنهى عبره أيّ فكرة تتناول سبل تداول الأزمة بقصد تقنينها ــ تفنيدها اقتصادياً مثلاً ــ. مع العلم أن الحروب الأهلية عادة ما تكون ذريعة لمعاودة التفكير في أشكال مزاولة السياسة والنشاط الاقتصادي معاً. والحال أنّ محاولة جنينية قد جرت في بدايات الحراك لاختبار فكرتنا عن الاقتصاد وعلاقته بالثورة (الإضراب العام)، لكنها ما لبثت أن انطفأت لكثرة ما لاقته من عنف أمني، ولقلّة ما حظي به الاقتصاد من اهتمام لدى من أطلق هذه «الثورة». في ما بعد تعقّدت الأمور كثيراً، وما كان ممكناً قبل التدخّلين المافياويين النظامي والمسلح أصبح مستحيلاً بعدهما. ما عاد بالإمكان أن يقول المرء شيئاً عن ضرورة إدماج العامل الاقتصادي في المعركة ضدّ النظام، وعدنا بالتالي إلى المربّع الذي يترك للدم وحده أن يصوغ علاقتنا بالنظام و«بالقطيعة» المطلوبة معه. بالقياس إلينا يبدو المصريون وكأنهم قطعوا أميالاً لا أشواطاً فحسب. ستسمع الكثير هناك عن الدور الذي باتت تحظى به الاضرابات العمالية في تعميق أزمة النظام. بالطبع لم يكن ذلك ليحصل لولا الضريبة التي دفعتها الطبقات الشعبية من دمها، ولولا الشرط التاريخي الذي أتاح للضريبة تلك أن تفعل فعلها في مواجهة النظام سواء بهيكله المباركي القديم أو بقوقعته الاخوانية الجديدة. والشرط ذاك الذي لم يتوافر لدينا في سوريا حتى الآن هو تفكيك جهاز القمع الذي لا يعنى بشيء قدر اعتنائه بمطاردة أيّ حراك يجاهر برغبته في تنظيم نشاطه على أساس طبقي. سنجد أنفسنا بالضرورة ونحن نناقش كيفية حصول ذلك ــ كيفية تفكيك الجهاز ــ أمام سؤال الدم مجدداً. وهو سؤال تتفرّع عنه جملة أسئلة من أهمّها: كيف تكون التضحية طريقاً إلى القطيعة، لا معادلاً لها؟ لنتفق أوّلاً أن القطيعة بمعناها الجذري لم يحصل أن حدثت بعد لا في سوريا ولا في مصر. والفارق بيننا وبين المصريين أنهم يعترفون بعدم حدوثها، في حين ننكر نحن ذلك على طول الخط. عادة ما يتذرّع السوريون لتبرير إنكارهم ذاك بفداحة ما لاقوه من قمع، وبغياب أيّ مساندة تعينهم على أن يكونوا أكثر بقليل من «مجرّد ضحايا». الضحية أو الشهيد هنا هي السردية الفعلية التي استطاعت «الثورة» صياغتها، وخارجها «لا وجود لأيّ سردية أخرى». في مصر وتونس كان هنالك شهداء وضحايا أيضاً، لكنهم كانوا سردية فحسب من ضمن سرديات أخرى كثيرة من بينها، مثلاً أن يكون للثورة جسم يحملها ويتقدّم الطبقات الاجتماعية التي تشكل متنها الأساسي. هذا الجسم حمل في تونس اسم الاتحاد العام التونسي للشغل، وفي مصر أسماء مختلفة لنقابات وتنظيمات عمالية لم تكتف بأن تكون الثورة عنواناً للشهادة فحسب. هي كذلك طبعاً وجزء من كينونتها مرتبط بأسماء من سفحت دماؤهم على الإسفلت فداء لها. غير أن للتضحية وجهاً آخر لا يعبأ به من يكتب التاريخ الرسمي للثورة (وهؤلاء نيوليبراليون في معظمهم ومعادون غالباً لفكرة ارتباط الثورة بالطبقة العاملة وتضحياتها). حين يحصل، مثلاً، أن يصاب عامل أمام مصنعه وهو ينفّذ إضراباً عن العمل في مواجهة قمع متعدّد الطبقات: الشرطة من جهة وربّ العمل من جهة أخرى، فهذا يعني أن الثورة قد كسبت شيئاً إضافياً، رغم أنّ العامل قد يواجه في هذه الحالة احتمال الطرد أو الإيقاف عن العمل. وهذا أمر يحدث في مصر وتونس طوال الوقت، لكنه بالكاد يحصل هنا، وإذا حصل فلن يجد من يتكلّم عنه سواء كان من النظام أو من المعارضة. هذه القضايا ليست في صلب اهتماماتنا الآن، ولن تكون كذلك في الأمد المنظور لأنّ التركيز عليها سيصرف النظر عن عملية الرسملة الجارية لاقتصاد الحرب. ثمّة مستفيدون من النّهب سيصبحون عاطلين من العمل فيما لو لاقت سردية ربط «التثوير» بالاقتصاد من يتلقّفها. وحتى ذلك الحين سيبقى الأساس في هذا الربط هو مصر وتونس لا سوريا ومافيات حربها الأهلية. لنكن واضحين أكثر في ما خصّ هذه الجدلية داخل مصر. بالأمس فقط أغلق رجل الأعمال المصري فرج عامر سلسلة مصانعه وطرد منها آلاف العمّال لمجرّد تجرّؤ هؤلاء على مطالبته برفع أجورهم التي لا تساوي في حال من الأحوال ربع ما يحصل عليه الإداريون والفنّيون الأعلى أجراً. والمشكلة أنّه عندما أقدم على ذلك لم يجد في مواجهته أحداً ممّن يتنطّحون يومياً للمنافحة عن القضاء والمحكمة الدستورية العليا والإعلام والجيش و...الخ. سيجعل ذلك من «المبالغة» في تقويم العلاقة بين الثورة وقضايا العمّال هناك أمراً محرجاً. لكن مهلاً. الأرجح أن الكلام عن المبالغة هنا هو المحرج، لأن واقع الحال يشير إلى ثبات استثنائي في مقارعة العمّال لأرباب العمل وإلى مساندة لا تقلّ استثنائية لهؤلاء في مسعاهم لتجذير الثورة، ونقلها إلى الضفّة الأخرى. ضفّة الربط بين التضحية والقطيعة. لقد ضحّى المصريون ومن ضمنهم العمّال بالكثير أثناء الأيام الثمانية عشر للثورة ظنّاً منهم أنّ ما فعلوه حينها كان قطيعة مع النظام بشكل أو بآخر. وعندما اكتشفوا العكس عاودوا تقديم التضحيات وبذل الدماء لكن من دون أن يجعلوا منها معادلاً وحيداً للقطيعة. حين يفعلون ذلك يكونون في صدد إنهاء الثورة لا استكمالها أو تجذيرها. الثورة لديهم الآن ليست الإضرابات القطاعية فحسب، ولا زجاجة المولوتوف في مواجهة الأمن وحدها. فلسفة الثورة بالأساس قائمة على نفي الأمرين ما لم يكونا مرتبطين. وارتباطهما هو ما يجعل القطيعة ممكنة ويفتح لها الطريق. هي لم تحدث حتى الآن، ولكي يحصل ذلك لا بدّ من تضحيات. وهذه الأخيرة قائمة في سوريا أكثر بكثير من مصر وتونس، لكنها تفتقر إلى المنظومة والمتن والسياق الايديولوجي. إذا وجد السياق فستجد طريقها ــ أي التضحيات ــ إلى القطيعة، أما إذا لم يوجد، كما هي الحال الآن، فسنستمرّ في التصنيم، وفي إسباغ صفة القطيعة على أيّ فعل نأتيه في مواجهة النظام. * كاتب سوري