إلى أنطون سعادة كلامٌ مطويّ منذ عقد ونيّف حان نشره

فاتحةُ العصفِ هو... وصحوة الشروق.
فيه، ما زال البوح أقل احمراراً من شهقةِ الجُلّنار، والكلام أقلّ رفرفة من صواري السفائن الآتية.
معه، لا تزال المفردة تفرّ من إسارِ الجملةِ كما الدُّرْج... لهّاثةً ترومُ نبضَ الأفق.
به، استفاق النسغ في يباس العروق، عسَّلَ في الدوالي، حيث لا يخلد القلم إلى غمدِ الهناءة، ولا تنكفئ فوهة البندقية إلى خشبها المطليّ.
إنه الأرقُ المياوم يفردُ في مطالع الغناء قامته.
هو البياض الذي أربك سواد الحبر، ورَعَشَ في صباح الصحائف.

■ ■ ■


فاتحةُ العصف هو... من إصراره يُستعاد فضاء الوهج والصراط المستقيم.
منذ ذلك الوميض، اندلعَ في الصمت، وقلب الأسرَّةَ على الغافين، وهدلَ في طافحات السلال.
منذُها، من غزّة القرن الذي انكسر انسكبَ كما الريح في هَيَمانِ زوبعة.
منذها، رأى خواتيم الضنى والتفتت فشهر زنده في وجه قلنسوةِ يهوَه وياقاتِ الانعزال. هبَّش محميات الطوائف والمذاهب وممالك الجلابيب والقلانس والعمائم واللحى المستفيضة جوراً. منذها، أفردَ لقوّة الحق تباشير الدروب، وافتتح في هلال يرتاح على وسادةِ الغموض شبّاك المعرفة.
وقتها، انتضى العقل شرعاً هادياً طلّاعاً في بلاد تُساسُ بالهوى والنزوات.
امتشقَ عقله وقلمه وما توافر من رصاص وخرج إلى الناس معلناً سخطه على المفسدين... على التمزّق والتبهلل والتطيُّف والتمذهب... على المرتزقة وقطّاع الطرق وعكاكيز الأجنبي.
لذلك ما أحبَّهُ الماكرون وباعةُ الضمائر ونخّاسو الأفكار الرثّة وورثة عصور الخصيان والمماليك وتجّار الملح الزنخ، لكنه ما هاب ولا هادنَ ولم يرفّ له جفن أمام ضعف الآخرين... أو أمام طاغوتهم.
ولأنّه فاتحةُ العصف آمن بالقادم من الزمان... نادى أجيالاً وبقي في ارتعاشِ كلّ ربيع يورق في المروج الناصعة، ويلمع في اصطخاب الندى وكبرياء زهرة المشمش البلدي.

■ ■ ■


أتى، صحوة الشمس في انطفاء الخريف، لون الذهب حين يضحك الصفصاف، وتجوال نايٍ في حورِ النهايات الفارعة. ولأنّه العصف تناقلت الريح عطره من العرزال ورأس بيروت إلى هامات الجبال القصيّة، فامّحت المسافات وهرعت المواويل إلى حناجر الطيور والأوراق إلى الفروع، والصفو إلى الأنهر الطافحة. ولأنّه شهقة الشروق في فم الليل ما أحبّته عواصم الظلام فتتبّعت وهجه مثل ذئاب تروم سانحة كي تنشب أنيابها.

■ ■ ■


هو الذي كان يعرف أن أهله قد عاثوا منذ زمان قصيّ مضى في هذه الكرة البيضوية حروفاً وزيتاً، ثم خبوا وتعضّموا وتكلّسوا وتشرنقوا تحت جلابيب وأردية وطرابيش تُحْكِمُ إزارَ العقل... فهَمزَ البحر كي يوقظ الشطوط الغافية.
هو الذي كان يعرف أن هذين البلاد قد دبكت في ساحات القرون وسيّرت أصابعها في الجهات... ثم سيّرها البرابرة والسلاطين وجموع التتار إلى جبّانة الخنوع... فهرع كما النصل المضيء والذراع القادرة إلى تهشيم الشاهدة الباردة.
هو الذي جاء ليطلق العنان لأحلام الأطفال، ويزركش مراييلهم في ربيع الآتي من الأزمنة.
هو الذي كان من مطلع القرن الذي مشى وحتى منتصفه الدامي، وفي حمأةِ الغيابات الفادحة والهجرات القسرية، يومي ويصرخ بالقادمين أنّ الآتيات مكفهرّة والبلاد تهرع إلى هاويتها، فأتلفوا وقاتلوا.
هو الذي أطلّ من طائرةٍ أعادته إلى رمل بيروت، خيالاً في وقفة العزّ، منسكباً وسط الحلبة يمسك بأيدي الآتين، ينفخ في أوردتهم جذوة الاحتدام... يخبرهم بأنّه تيّاهٌ بهم ويدفعهم كي يهطلوا في ريعان الوطن المدمّى عقباناً ويماماً وأقواس قزح. هو القريب منهم كما النبض، وبهم اشتبكَ الورد بعطره والغمام بالقطرات الأولى ونشيق التراب المأثوم منذ يفاعة كنعان... وقف بينهم وتحلّقوا به... فانهمر.

■ ■ ■


ها هي اليد تعلي النشيد هتّافةً. ها هي كتف العلى تطلقها صيّاحة، والسبّابة تغرم بالزناد. ها هو فاتحةُ الأيام القادمة ومهماز العصف وصحوةُ الشروق.
ها هو صوته يلهب ظهر الصمت... ثم يندري في المفازة.

■ ■ ■


الرجل أوقدها... أما أنتم وبعد دهر على أيّ نارٍ تصطلون... وفي أيّ رسيسٍ تتمرّغون؟!
* كاتب وباحث لبناني