وفق حسابات صموئيل هنتغتون، فإن الربيع العربي الذي بدأ في نهاية عام 2010 يعدّ الموجة الرابعة للديمقراطية، إذ بدأت الموجة الأولى من الدمقرطة مع نهاية الحرب العالمية الأولى، وكانت الموجة الثالثة في نيسان (أبريل) سنة 1974 مع إطاحة النظام الفاشستي في البرتغال، وصولاً إلى الديمقراطيات الناشئة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1989. وإلى حد ما، خيّب الربيع العربي ظنون مارتن كرامر، الذي كان قد رسم صورة تشاؤمية لمنطقة الشرق الأوسط، حين استثناها من دخول عصر الدمقرطة، وأنها مناوئة تكوينياً لليبرالية السياسية... لكن، يبقى كرامر مصيباً بعض الشيء حين يعاد تشكيل صورة الشرق الأوسط على ضوء التجابه المبرمج بين موجتين: الديمقراطية والأصولية المتطرفة، حيث يشهد العالم العربي قدراً ضئيلاً من الدمقرطة في مقابل تدجيج مهول لأدوات العنف والسادية العبثية المحمولة على خطاب ديني عنفي. فنحن ما زلنا أمام فجوة قياسية بين مستويات الحرية والديمقراطية في العالم العربي مقارنة بالديمقراطيات العريقة وحتى الناشئة. إلا أن الثابت، حتى الآن، أن نضالاً متزايداً نحو الانتقال الديمقراطي تقوده قوى سياسية واجتماعية في معظم بلدان الشرق الأوسط، وتسعى بأمانة خالصة إلى استكمال شروط الانتقال الديمقراطي.
لا يزال هناك من يعتقد بصعوبة، إن لم يكن باستحالة، التحوّل الديمقراطي في بعض الأنظمة الهجينة، باعتبارها النموذج السائد في بلدان العرب، بسبب التواشج بين هجينية النظام والاقتصاد الريعي الذي يمثّل عنصر الإعاقة الفاعل للتحول الديمقراطي. بدا حتى الآن أن تجربتيْ تونس ومصر، دع عنك تجربتي ليبيا واليمن المجهضتين وسوريا والبحرين المفرغتين، عسيرتان على العبور نحو ديمقراطية مكتملة النمو، فهما تتموضعان في المنطقة الرمادية بين التسلّطية والديمقراطية أو ما يصطلح على تسميته «ديمقراطية معيبة»، أي ديمقراطية غير ليبرالية.
حتى وقت قريب، كان لبنان هو الاستثناء الوحيد في البلاد العربية المؤهلة لنيل دمغة الديمقراطية، مع التحفّظات المشروعة التي يبديها منظّرو السياسة اللبنانية من أن ثمة ديمقراطية بلا ديمقراطيين في هذا البلد، أو حرية بلا ديمقراطية، لكن يبقى أن (الرئيس السابق، ورئيس الوزراء السابق) كان يمكن رؤيتهما في لبنان حصرياً، أما اليوم، فقد بتنا نرى (السابق) بعد الرئيس ورئيس الوزراء في أكثر من بلد عربي. هناك دون شك مناخ سياسي وثقافي متحوّل في الشرق الأوسط، يعكس التحوّل البنيوي في المجتمع والدولة معاً، وبالرغم من الصعوبات التي تواجه قوى الإصلاح في الخليج لناحية الانخراط في حركة التحويل الديمقراطي، فإن زخم التعبئة السياسية الشعبية في العوالم المفتوحة يبدو كاسحاً، ومن شأنه استدراج القوى الخاملة لناحية تسجيل حضور في مضمار السباق نحو التحول السياسي الشامل في المنطقة.
لم يعد الحديث عن سيناريوهات ووتائر التغيير مغرياً، إن كان بطيئاً أو سريعاً، إن كان جزئياً أو شاملاً، فالانخراط الجمعي وغير المسبوق يتجاوز حديثاً مريباً كهذا، وإن جدوى الفعل التغييري هي ما تتقرر عفوياً وتلقائياً، وإن المشاركين فيه يقررون الأسقف مهما بلغت الأثمان، التي باتت معروفة (فصل من الوظيفة، الحرمان من السفر، الاعتقال، وصولاً إلى قتل المتظاهرين).
ما هو أشدّ وضوحاً أكثر من أي وقت مضى، أن ثمة إصراراً لدى حكّام الخليج على البقاء ضمن حيز «العجز الديمقراطي»، وتوفير كل الشروط المضادة للانتقال الديمقراطي. في السعودية، كما في دول خليجية أخرى، قد يبدو مخاض التحوّل السياسي عسيراً نسبياً، لكنه بحسب المعطيات الراهنة وبحسب الوتيرة المتسارعة للأحداث منذ الاعلان عن بدء ربيع الثورة في 11 آذار (مارس) من عام 2011، فقد كفّ مواطنو مملكة الصمت عن تعليق آمالهم على التغيير القادم من أعلى، فجملة القرارات الصادرة عن الملك طيلة العامين الماضيين، وكذلك الوعود المؤجّلة لم تعد تلفت الانتباه كما في السابق، فقد أشعل الأهالي ثورتهم في العالم الافتراضي (تويتر وفيسبوك) في المرحلة الأولى، ولا تزال تضطرم، فيما انتقل جزء من هذه الثورة إلى الواقع، حيث بات خطاب الربيع مشاعاً في الصحافة، وفي المنتديات الثقافية، والمواقع الحوارية، والجمعيات الحقوقية، والملتقيات السياسية، والنشاط الفني (بات اليوتيوب قناة تعبير فاعلة لبرامج كوميدية ساخرة ونقدية للأوضاع). وبات من الصعب السيطرة على الثورة الشعبية في العالم الافتراضي، فقد اعترف وزير الاعلام عبد العزيز خوجه في 14 شباط (فبراير) الماضي بصعوبة قيام وزارته بمراقبة كل ما ينشر في «تويتر»، وبالمناسبة فإن خوجه أحد المغرّدين الدائمين في هذا الموقع.
والحال، أن مواقع التواصل الاجتماعي تحوّلت إلى ما يشبه مركز حوار وطني حقيقي يضم كل المكوّنات ودون تمييز أو قيود، وهو بحد ذاته يلفت من وجه ما إلى فشل الحوار الوطني في السعودية الذي بدأ في حزيران (يونيو) عام 2003، إذ لم تؤدّ جولاته التسعة إلى نتائج فاعلة على الأرض تفضي إلى تغييرات بنيوية في الدولة أو جوهرية في سياساتها. في الحد الأدنى، أخفق المركز في استصدار تشريع يجرّم التشجيع على الكراهية الدينية والمذهبية، حيث لا تزال أدبيات السجال الطائفي ونشاطاتها بوتيرة أسرع وبرعاية الدولة، عبر وزارة الشؤون الاسلامية!
ووفق قناعة راسخة، يدرك الإصلاحيون أن الشرط الجوهري لنجاح الحوار هو الحرية، إذ لا يمكن لحوار أن يحقق أغراضه في ظل بنية استبدادية، ولذلك انهال المواطنون على مواقع التواصل الاجتماعي لأنها خارج الرقابة، وليس فيها سلطة لأحد على أحد، ولهذا السبب تصبح ثورة تويتر، ثورة حرية بالنسبة إلى مواطني المملكة السعودية.
ومن ميزات الحراك السياسي الالكتروني أنه يجعل النخبوي المتآزر مع السلطة معزولاً، ومفضوحاً أيضاً، ففي العالم الافتراضي وحده المتماهي مع حقوق الناس، والمتمرّد على كل أشكال التزييف لإرادتهم يصبح رمزاً وطنياً. صحيح أن هناك من يتعمّد إفساد الحراك السياسي الشعبي برسالته الديمقراطية المنضوية فيه عبر مشاغلات سجالية جانبية مدقعة، حيث لم يبق للنظام السعودي سوى الورقة المذهبية للعب بها كآخر رهاناته للحد من تدفّق موجة الربيع الثوري إلى كل المناطق، وإلى المركز على وجه الخصوص، لكن يرفض التيار الإصلاحي العابر للطوائف والمناطق الانزلاق نحو مهاترات أيديولوجية عابثة. فقد بات كثيرون في التيار على وعي تام ومحكم بأن الخطاب الطائفي المكفول رسمياً من النظام السعودي يستهدف المشروع الاصلاحي، وليس الغرض منه تحصين العقائد أو حتى تطهيرها.
لأول مرة منذ عقود طويلة، إن لم يكن منذ نشأة الدولة السعودية، تصبح هناك مواجهة يكون فيها ميزان القوى لمصلحة المجتمع، حيث تخوض السلطة السعودية معركة غير متكافئة مع المجتمع الحاضر بكثافة في مواقع التواصل الاجتماعي (هناك 3 ملايين مغرّد ناشط في توتير و6 ملايين في الفيسبوك بحسب آخر الاحصاءات، وتحتل المملكة المرتبة الأولى على مستوى الشرق الأوسط في مجال استخدام تويتر والمرتبة الـ18 على مستوى العالم). ثمة تسهيلات غير مسبوقة تمنحها مواقع الاتصال الاجتماعي للمجتمع في القدرة على الحشد والتعبئة. وليتخيّل المرء كيف سيكون المشهد في الأعوام القليلة المقبلة في ظل هذا التحوّل المتسارع وغير المنضبط في الحراك الشعبي، في ظل استغلال مواقع التواصل الاجتماعي كملاذات آمنة لكل القوى المقموعة والمقهورة، وما توفّره من مساحات واسعة للتعبير عن الآراء والمواقف. ولأولئك المتابعين لنشاطات ملايين المغرّدين السعوديين في تويتر بإمكانهم الاطّلاع على عشرات الحملات المعروفة بـ«هاشتاغات»، التي أرغمت النظام السعودي بقياداته العليا والدنيا على التفاعل معها والردّ عليها سلباً وإيجاباً.
ومع اقتراب الذكرى السنوية الثانية لانطلاقة الاحتجاجات في المملكة، تبدو صورة الحشد الأمني الهائل في كل أرجاء المملكة في 11 آذار 2011 حاضرة، وهو ما كشف عن مخزون الهلع الكامن في السلطة إزاء ما تبعثه الاحتجاجات من مخاوف على مستقبل الدولة السعودية، الأمر الذي تطلّب استنفاراً دينياً شاملاً ومن كل المستويات، بحيث جرى استغلال شبكة المساجد البالغ عددها 80 ألف مسجد في المملكة لجهة التحذير من التظاهرات والخروج على الحاكم، وطُبعت فتاوى تحريم التظاهر بأعداد هائلة. وصدر تعميم رسمي أخيراً إلى أئمة المساجد في بريدة، القريبة من العاصمة الرياض، لإعادة التذكير بحرمة التظاهر ضد الدولة. يستكمل التدبير الديني إجرءات أمنية ومالية موازية، رغم أنه لا آثار لها حاسمة كما في السابق.
ما تنبئ به تلك التغييرات المتسارعة أن نمط العلاقة بين المواطن والسلطة لم يعد هو ذاته الذي كان قبل الربيع العربي، فثمة وعي جديد لدى الأفراد والجماعات يتكوّن في ظل الثورة الرقمية والثورات العربية. ورغم المناكفة الساذجة التي يحاول النظام السعودي افتعالها، فإن شروطاً جديدة أوجدها الربيع العربي، وعلى الدول أن تعي أن مياه الأنهار لا تعود إلى منابعها ثانية.
* كاتب وناشط سياسي