من المفارقات العجيبة، وربّما الغريبة، أنّ الانتفاضة الأولى اندلعت عام 1987، والثانية عام 2000، والثالثة، التي تُوحي بعض وسائل الإعلام، وعدد من السياسيين الفلسطينيين وأبطال شبكات التواصل الاجتماعي والفضائيات، ستندلع هذا العام 2013. أولاً لأنّ الفارق في السنوات يجب أنْ يكون 13 عاماً، وثانياً، لأنّ التقدير الاستراتيجي لدولة الاحتلال قرّر على نحو غير قابل للطعن أنّ العام الجاري سيكون عام الحسم في كلّ ما يتعلّق بالمسألة الفلسطينيّة. والسؤال الذي يتحتّم علينا مواجهته بمسؤولية وطنيّة وعلى نحو علمي وعملي، دون تغليب المشاعر على العقل، هو كالتالي: هل الشعب العربي الفلسطيني في الضفة الغربية الذي يئن تحت نير أطول احتلال في العالم عرفه التاريخ الحديث، ويُعاني الأمرّين من مقاول الاحتلال الثانويّ، أي سلطة رام الله وأجهزتها الأمنيّة المتساوقة مع الصهاينة، قولاً وفعلاً، بات قادراً ومهيئاً لقيادة انتفاضة جديدة، مع كلّ تداعياتها وإسقاطاتها التكتيكية والاستراتيجية؟ وبما أنّ الربط بين الانتفاضتين الأولى والثانية، والانتفاضة المفترضة، أو المحتملة، أو التي تعشش في عقول وقلوب العديدين، يجب أن تندلع هذه السنة، لكي يُسجّل الشعب الفلسطيني سابقة في العالم تتمثل في أنّه ينتفض كلّ 13 عاماً، كأننّا أمام أكبر صحن تبولة أو أكبر صحن كنافة، فهذا الزمان وهنا المكان للتذكير بأنّ الانتفاضة الأولى اندلعت عندما كانت قوّات الاحتلال تحتل جميع المدن في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحضر بكثافة كبيرة في المجمعات الفلسطينية. الأمر الذي أدّى إلى تأجيج المواجهات وإيقاع الخسائر المادية والبشرية في صفوف جيش الـ«التحرير» الإسرائيلي. الانتفاضة الأولى بدأت عفوياً لأنّ المناخ السياسي والاجتماعي كان جاهزاً للانفجار. إثر ذلك تشكلت القيادة الوطنية الموحدة من الفصائل وأدارت الانتفاضة، لكن بعدها تشكلّت القيادة في الخارج، وبدأت من تونس بالتحكم في الانتفاضة، وأخضعت قيادة الداخل لها لأنّها كانت منذ البداية بصدد استثمار الانتفاضة وصولاً إلى دولة التسوية. حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لم تكُن موجودة على الخريطة، انتهت الانتفاضة الأولى، وقادت الفلسطينيين إلى مؤتمر مدريد عام 1991، وبعد عامين (1993) وُقّع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير ودولة الأكثرية اليهودية. واليوم بعد مرور عشرين عاماً على الاتفاق المذكور، لا حاجة إلى سبر أغواره لأنّه قاد الشعب الفلسطيني إلى مرحلة ما قبل التهلكة.
■ ■ ■


أما في ما يخص الانتفاضة الثانية، التي اندلعت في أيلول (سبتمبر) من عام 2000، وقادها الرئيس الشهيد، ياسر عرفات، على نحو مباشر أوْ بواسطة أعوانه، فقد جلبت على الشعب الفلسطينيّ من طرفي ما يُسمى الخط الأخضر الويلات، الضفة الغربية جرى احتلالها مرّة أخرى بأمر مباشر من مجرم الحرب، أرييل شارون، في العملية المسماة إسرائيلياً عملية السور الواقي، في آذار (مارس) من عام 2002. وفي نهاية الشهر عينه عقد العرب مؤتمر القمّة في بيروت، واتخذوا قراراً بطرح المبادرة العربية للاستسلام. الكيان الاستعماري ـــ الاشكنازي رفض المبادرة وما زال، على الرغم من أنّ وزير الأمن في تلك الفترة، بنيامين بن أليعازر، صرّح لصحيفة «معاريف» العبرية بأنّ المبادرة العربية هي أكبر إنجاز للحركة الصهيونية منذ تأسيسها. وتكفي الإشارة في هذه العجالة إلى أنّ دول «الربيع العربي»، بعد مرور عامين على الـ«ثورات» من تونس إلى ليبيا، مروراً بمصر، باتت أقرب إلى الدول الفاشلة، التي تعتمد سياسياً واقتصادياً على رأس حربة الأشرار في العالم قاطبة، الولايات المتحدّة الأميركية، هذه الدولة العظمى التي تُتقن فنّ الابتزاز لتحقيق مآربها في المنطقة، وفي مقدّمتها الحفاظ على أمن إسرائيل وضمان تفوقها العسكريّ والاقتصادي والتكنولوجي على جميع الدول العربية مجتمعةً. وهكذا، ففي حين إنهاء الانتفاضة الأولى إلى صيغة أوسلو-ستان، أي تكريس الاعتراف القيادي الفلسطيني الرسمي بإسرائيل، فقد جرى استثمار الانتفاضة الثانية لتكريس الاعتراف الرسمي العربي بالكيان. وهكذا، أكدت الانتفاضتان على خطورة القيادات في تصفية نضالات الجماهير.

■ ■ ■


وعودٌ على بدء: هل الانتفاضة المفترضة أو المحتملة باتت الحل؟ نقول، ولا نجزم، ونؤكد على عدم الفصل، إنّ سكان الضفة الغربية لا يُمكن أن يقوموا بالانتفاضة نيابة عن الشعب الفلسطينيّ في جميع أماكن وجوده، بما في ذلك الشتات. ذلك أنّه من غير المعقول أن يقوم الشعب، أيّ شعب في العالم، بالانتفاض ضد المحتل، وهو يعاني مرضاً مزمناً، والذي نسميه مجازاً الشرذمة، فقطاع غزّة خارج اللعبة، لأنّ حماس تسيطر عليه منذ تموز (يوليو) من عام 2007، وجميع المحاولات لرأب الصدع بينها وبين حركة فتح باءت بالفشل، لأسباب عدة، أهّمها أنّ فتح أعلنت ارتماءها في أحضان أميركا وإسرائيل والدول الأوروبية المانحة، وتبنّت خيار المفاوضات، فيما حماس ما زالت، على الورق فقط، متمسكةً بخيار المقاومة، وباعت نفسها لوكلاء الإمبريالية في الشرق الأوسط، قطر والعربية السعودية ومصر، نعم مصر. وبما أنّ الفصيلين المركزيين على الساحة الفلسطينية لن يصلا إلى توافق الحد الأدنى، فَمَنْ سيقود الانتفاضة الثالثة؟ ذلك أنّه قبل الشروع في دفع الشعب الفلسطينيّ إلى الانتفاض يجب التخطيط والجواب عن السؤال المفصليّ: ماذا نُريد أن نُحقق من الانتفاضة الثالثة؟ هل في ظلّ عدم تكافؤ القوى بين الاحتلال والشعب الذي يرزح تحت نير الاحتلال، هناك بصيص من الأمل لتحقيق إنجازات تفرض نفسها على الأرض؟ الشعب الفلسطيني، وتحديداً في الضفة الغربيّة، هو ليس مجموعة كبيرة من فئران التجارب وتحقيق النزوات لهذه الدولة أو ذلك الفصيل، وبالتالي، نقترح على مؤيدي الانتفاضة الثالثة الترّوي، لأنّه كما يقول مثلنا العاميّ الفصيح «إنّ الصراخ على قدّ الوجع». فالانتفاضة العشوائيّة ستدخل الشعب العربي الفلسطيني في متاهات هو في غنى عنها في هذه الفترة بالذات، كما أنّه من الأهميّة بمكان أن نأخذ بالحسبان أنّ الأجهزة الأمنيّة التابعة للرئيس غير الرئيس، محمود عبّاس، والتي بفضلها انخفض عدد العمليات الإرهابية ضدّ الاحتلال وقطعان المستوطنين، كما قال الجنرال آفي مزراحي، قائد المنطقة الوسطى في الجيش الإسرائيلي، أنْ نأخذ بالحسبان أنّ عناصر هذه الأجهزة ستُساعد الإسرائيليين تحت مُسّمى التنسيق الأمنيّ، في وأد الانتفاضة، فضلاً عن أنّ القيادة المتنفذة في سلطة رام الله ليست معنية بالانتفاضة، لأنّها تدخل في إطار أعمال العنف، التي يمقتها عباس وزمرة المنتفعين التي تُحيطه في المقاطعة وخارجها. كأننّا نريد القول إنّ الانتفاضة الثالثة إذا ما استمرت عملية تصنيعها بدل أن تكون طبيعية وعفوية، فإنّ المقصود بها عقد التسوية النهائيّة لتصفية القضية الفلسطينيّة، ومن ثم السير باتجاه تطبيع عربي نهائي مع إسرائيل. وهذا هو الفرق بين أن يناضل الناس لإبقاء القضية حيّة وأن يجري توريطهم في اشتباك شامل هو مسؤولية كل الأمة العربية، لا فلسطينيي الضفة فقط.

■ ■ ■


خلاصة الكلام: الانتفاضة ضدّ الاحتلال تصب في مصلحة إسرائيل التي تبحث عن الأسباب والذرائع للتملص من العودة إلى ما يُطلق عليها العملية السلمية. الانتفاضة الحقيقيّة التي يجب على الشعب الفلسطيني أن يُبادر إليها يجب أنْ تكون موجهة ضدّ قيادة سلطة رام الله، التي استحوذت بطرق التفافية على القرار الفلسطينيّ، ومحاولة إعادتها إلى رُشدها أو القضاء عليها سياسياً. الانتفاضة الفلسطينيّة في قطاع غزة يجب أن تكون ضدّ حركة حماس التي تحكم بالحديد والنار سكان القطاع، وتزعم تبّني خيار المقاومة زوراً وبُهتاناً. الانتفاضة يجب أن تعمل من أجل البحث عن الخيار الثالث، لا فتح ولا حماس، نحن اليوم أكثر من أيّ وقت مضى، بحاجة ماسّة إلى قيادة وطنية مسؤولة تُحدد البوصلة، التي أفقدتنا إيّاها القيادة في غزة وفي رام الله. نعم، يا نبض الضفة أعلنها ثورة، أعلنها ثورة ضدّ وكلاء الاحتلال. نعم يا نبض غزّة أعلنها ثورة ضدّ وكلاء الرجعية العربية، وعندئذ لكلّ حادث حديث.
* كاتب من فلسطينيي 48