لا بد بداية من إزالة التباس شائع حول طبيعة الانتخابات البلدية عموماً. هذه الانتخابات سياسية بامتياز بحد ذاتها. وما الكلام عن تسييس الانتخابات البلدية غير قصور في الفهم أو تضليل. فالبلدية سلطة محلية منتخبة مباشرة من مواطني النطاق البلدي. وهي إدارة محلية تعنى بجميع شؤون المواطنين العامة في النطاق البلدي، وخصوصاً ما له علاقة بالتنمية المحلية والإدارة الذاتية، ومن حقها المراقبة في الشؤون الصحية والتربوية، فضلاً عن دور أمني معين لها. وهي تختلف عن الإدارة المحلية المعيَّنة من السلطة المركزية كالقائمقامين والمحافظين. فهم مجرد موظفين، بينما للبلدية شخصية اعتبارية، ولأعضاء المجلس البلدي حصانة الشخصيات المنتخبة لتمثيل مصالح المجتمع المحلي.
ويدور الكلام عادة على تسييس الانتخابات البلدية عندما تتدخل الأحزاب السياسية والقيادات المركزية والمحلية في الانتخابات البلدية. ولكن هذا أمر طبيعي، ولا يضيف شيئاً على صفة هذه الانتخابات، وليس هذا ما يجعلها انتخابات سياسية. وكثيراً ما يُقال إن مهمة البلدية تنحصر في التنمية والإدارة المحلية، وبالتالي فليس لها الطابع السياسي. هنا مصدر الجهل أو التضليل. فالتنمية رهان سياسي بالتحديد. التنمية تقوم على برنامج تنموي وتصور تنموي، وهو بالتحديد حقل سياسي أولاً وأخيراً، سواء كان ذلك مُدركاً ومُعلناً، أو لا. لكن المشكلة تنشأ عندما تطغى المصالح السياسية العامة للأحزاب أو القيادات المركزية والمحلية على المصالح المحلية، بحيث يُضحّى بهذه المصالح المحلية لمصلحة المواقع المركزية لحضور الأحزاب، وتغيب بالتالي برامج التنمية المحلية في الإعداد والتعبئة للمنافسة في الانتخابات البلدية.

غياب الشأن المحلي في الانتخابات البلدية الفرعية في القبيات

لم تكن رهانات هذه الانتخابات محلية على الإطلاق. والمنافسة الانتخابية لم تكن على علاقة مطلقاً بقضايا التنمية المحلية. فبرامج المرشحين لا مكان لها في التعبئة وفي اختيار المواطنين. بينما جرى التركيز على أمور أخرى، كتحقيق نصر للتيار الوطني الحر، أو هزيمة تيار المستقبل، أو استعادة كرامة البلدة، أو ما شابه من شعارات جعلت من الانتخابات البلدية مقدمة للانتخابات النيابية. ما جعل البعض يبالغ في اعتبارها مقدمة لفرض قانون الانتخابات النيابية وفق المقترح «الأرثوذكسي».
والغريب أنّ وسائل الإعلام لم تتوقف قطّ عند غياب الشأن المحلي في هذه الانتخابات البلدية. ومن هنا جاء إجماع التعليقات الصحافية متمحوراً حول ما سُمي «هزيمة» تيار المستقبل بشخص النائب هادي حبيش. وتصوير ذلك بأنه خسارة مدوية، ستنعكس حكماً في الانتخابات النيابية المقبلة. وذلك على الرغم من أن الجميع يعلم أن ثقل القبيات في الانتخابات النيابية ضعيف التأثير، مهما كانت عليه الدوائر الانتخابية.
وعندما نتحدث عن الشأن المحلي، نقصد به ما يعود إلى اختصاص العمل البلدي، ولا نقصد غياب الخصوصيات المحلية بالمطلق. ففي كل الانتخابات البلدية انعكاس للخصوصية المحلية. وهنا نسجل حقيقة أن وسائل الإعلام لم تتوقف أمام الرهانات المحلية الفعلية في هذه الانتخابات البلدية الفرعية في القبيات، بل اكتفت بما يطفو منها على السطح: مواجهة وهزيمة حبيش، كثرة الطامحين وتكتلهم... كذلك فإنها لم تُحسن الكشف عن الرهانات المحلية، وربطها بالرهانات المركزية الكبرى الفاعلة في لبنان اليوم، ومن ذلك حدة الاستقطاب الطائفي، ومادة التعبئة التي ينبني فيها هذا الاستقطاب في الوسط المسيحي، ومنه القبيات.

في مكونات اللوائح الانتخابية

تواجهت في الانتخابات البلدية في القبيات لائحتان: اللائحة الأولى التي فازت بما يقارب أقل من 60% من الأصوات، وجاءت باسم «أرضي هويتي». جمعت هذه اللائحة تحالفاً ضمّ أولاً السيد عبدو عبدو، الرئيس السابق للبلدية المنحلة، وعصبه الأساسي قدرة مالية يتندر أهل القبيات في روايات عمليات شرائها «المفاتيح» والأصوات التي رفعت «الأسعار» بما لم يتوقعه الخصوم، ولم يتمكنوا من مجاراته فيها، رغم محاولاتهم في ذلك. لقد سال لعاب الناخبين مع موجة المزايدة في الدفع، فاعتمدوا مبدأ «إذا انحسبت عليك كول (اقبض) وبحلق عينيك». وضم ثانياً محالفة أسبق على الانتخابات ويعود تاريخها إلى مرحلة طرح شعار «أرضي كنيستي» منذ نحو سنتين، وهي «النواة الصلبة» المؤدلجة والمنظمة، أو العصب الشعبي والتنظيمي لهذه اللائحة، وقوامها جهات ثلاث: الأولى، قواتيون «قدامى» أو «تصحيحيون» وفق عبارات البعض، وهم يتشكلون حول مجموعة صغيرة من مسؤولين سابقين في الجهاز الأمني والعسكري (ميليشيا) للقوات اللبنانية. وهم يتحدثون لغة «عونية» وفق آخر مفرداتها التي تعود إلى منطق «حلف الأقليات» بوجه الغالبية السنية. وهم ورثة مفهوم «الغرباء» و«أمن المجتمع المسيحي»، ويترجمون ذلك على مساحة القبيات بمنطق وتعبئة السنية ــ فوبيا، اعتراضاً وردّاً على مقولة ومنهج جعجع «فليحكم الإخوان». وقوام هذه المحالفة «النواة الصلبة» من الجهة ثانية، عونيون أصدق توصيف لهم أنهم يضعون قبعات أورانج على رؤوس فالانج، فقبعاتهم البرتقالية تعتمرها رؤوس قواتية على طراز القوات الميليشيوية وزمنها. وهم يتفاخرون بأمرين: التحالف مع الشيعة والمواجهة مع السنّة.
أما الجهة الثالثة، فهي تنظيم حزب الكتائب اللبنانية المتكون من بقايا كتائبية ضعيفة الحضور وبعض القواتيين المتناقضين أيضاً مع قيادة التنظيم الفعلي للقوات، ومن المعروف أن تناقضهم هذا هو الذي دفعهم إلى فتح مكتب للكتائب في البلدة.
ولقد رفعت لائحة «أرضي هويتي» علمي القوات والكتائب ليتوسطهما علم التيار الوطني الحر على منابرها وشعارها: وحدة القوى المسيحية.
التفّت حول هذه الثنائية المتكونة من ثالوث «النواة الصلبة» وعصبية المال السياسي لرئيس البلدية المنحلة، مجموعة من الشخصيات الحالمة بأداء دور سياسي، فجاءت بمثابة «كومبارس» في العملية الانتخابية في القبيات، ومنهم الوزير والنائب الأسبق مخايل الضاهر الذي وجد فرصته مواتية ليقتص من النائب الحالي هادي حبيش. وليس هناك من شك في أن تعددية مكونات لائحة «أرضي هويتي»، مهما كان حجم بعض مكوناتها ضعيفاً، أعطتها قدرة تجييرية تجمعت في مواجهة اللائحة الثانية.
اللائحة الثانية التي جمعت نحو أكثر من 40% من أصوات المقترعين، وجاءت باسم «القبيات بالقلب»، وقوامها النائب هادي حبيش من جهة، وحزب القوات اللبنانية المعترف به من القيادة الرسمية، جعجع، من جهة ثانية. ومن المعروف أن للنائب حبيش شعبية فعلية في القبيات تراكمت من أيام والده الوزير والنائب الأسبق فوزي حبيش، وحافظ عليها من خلال قدرته على تقديم الخدمات عبر موقعه في تيار المستقبل وفي أجهزة السلطة المركزية والفرعية وفي بعض المؤسسات الخاصة كالمصارف والشركات...
أما حزب القوات اللبنانية في القبيات، فهو يعاني من الأزمة نفسها التي يعانيها الحزب مركزياً، وفي الكثير من المناطق اللبنانية. فالقيادة المحلية (في القبيات وعكار) للقوات موضع اعتراض العناصر القواتية صاحبة التاريخ الميليشيوي الذين يعدّون أنفسهم أَولى بتصدّر مواقع القيادة والقرار الحزبيين، وتعاني أيضاً من صراعات الطموحات السياسية، فالبعض منها يعدّ نفسه أحقّ من غيره من القوات بالترشح للانتخابات النيابية، أو هو أحق من النائب حبيش برعاية تيار المستقبل له. لكن العطب الأكبر في الحزب هو بروز القواتيين من أصحاب التاريخ الميليشيوي واعتراضهم على قيادة محلية لم تشارك في القتال والعمل الأمني للحزب. فضلاً عن اعتراضهم على الخط العام الذي رسمه سمير جعجع، ومن هنا وجدوا أنفسهم أقرب إلى «لغة» عون والسنية ــ فوبيا. ومن هنا جاء بعض ضعف اللائحة الثانية من غياب تماسك القواتيين مع لائحة حزبهم.

في سير العملية الانتخابية

في اسم كل واحدة من اللائحتين. في الحياة العادية أسماء الأبناء أسرار الآباء. أما في السياسة ومعاركها، وخصوصاً الانتخابات، فالتسمية فن قائم بذاته، وفيها سر الرهان السياسي والانتخابي. فماذا يعني اختيار كل واحد من اسمي اللائحتين؟ وما دوره التعبوي؟ وبالتالي ما تأثيره في العملية الانتخابية؟
لم يتوقف غير القليل من الإعلام عند اسم كل من اللائحتين المتنافستين، ومتى حصل كان ذلك سطحياً. لائحة «أرضي هويتي» كانت مبادرة وواضحة وهجومية، بعكس لائحة «القبيات في القلب» التي اتسم سلوكها بالتردد وبردّ الفعل والغموض، على ما تقوم به اللائحة الأولى.
استمدت اللائحة الأولى اسمها من مراكمة سابقة بسنتين تقريباً على الانتخابات البلدية، ومن هذه المراكمة اشتُقّ اسمها «أرضي هويتي». وهي تسمية مستمدة من شعار «أرضي كنيستي» الذي رُفع عالياً جداً خلال زيارة البطريرك الراعي لعكار. نشأ شعار «أرضي كنيستي» انطلاقاً من الزعم بوجود خطر «سُني» يستهدف عقارات القبيات. علماً بأن كل ما أشيع في مسألة عقارات البلدة ينحصر تماماً في عقارين.
الأول يملكه سُني من بلدة عكار العتيقة، ورثه عن أبيه الذي اشتراه منذ أكثر من أربعة عقود، ولا شائبة في البيع باعتراف الجميع. ولكنه اعتبر خرقاً «سنياً» لنطاق القبيات العقاري يجب إزالته كي لا يعكر الصفاء الماروني للبلدة. (مع العلم أن في القبيات نحو مئة عقار اشتراها سنّة من الجوار القبياتي، ونواة حيين سنيين في البلدة يقيم فيهما سنّة. بالمقابل، ثمة الكثير من العقارات التي اشتراها البعض من أبناء القبيات وكانت تعود ملكيتها إلى سنّة من الجوار).
والعقار الثاني باعه أحد أبناء القبيات لسنّي من عكار العتيقة، والعقار يقع في منطقة عكار العتيقة العقارية، حيث لكثير من أهالي القبيات عقارات ملكيتها تاريخية. بالطبع تعرّض بائع هذا العقار لهجوم عنيف من بعض أبناء القبيات، وهُجِّر من البلدة منذ نحو سنة. ولم يشفع به تاريخه التربوي (كان مديراً لثانوية القبيات الرسمية لنحو عقدين من الزمن، ولا تاريخه السياسي، فهو من قدامى حزب الكتائب. وكان منزله في القبيات، ومنزل ذويه في البرازيل، مقصد الراحل الشيخ بيار الجميل الجد).لقد صيغت مشكلة عقارية ضخمة انطلاقاً من قضية هذين العقارين، وحيكت حولها مقولة «الخطر السني» المتربص بأملاك القبيات لطمس هويتها. ومن هنا بدأت تتشكل تدريجاً عصبية ما سميت «النواة الصلبة» في اللائحة الأولى. وفي الجو العام لتعمق البعد الطائفي لدى أطياف مجتمع المشرق العربي عموماً، وفي ضوء مجريات الأمور في العراق وسورية ولبنان وجدت دعوة التخويف من السنّة مقبولية ما أسهمت في بناء «النواة الصلبة» التي أحسنت استثمار التخويف من السنّة والحفاظ على الهوية؛ فجاءت الانتخابات البلدية فرصة مواتية لتتبلور هذه «النواة الصلبة» كقوة صاعدة في القبيات قادت الانتخابات البلدية تحت شعار «أرضي هويتي».
هذا بينما كانت محالفة لائحة حبيش ــ القوات مترددة، يتنازعها ميلان: المحافظة على العلاقات الطبيعية مع سنّة جوار القبيات، وعلى جمهور قبياتي لتكون ممثلة للمسيحيين. حبيش لحاجاته الانتخابية كنائب في تيار المستقبل، والقوات المرتبطة بقيادة جعجع الداعي إلى التحالف مع السنّة. فلا هي قادرة (أو راغبة) على تبني منطق معاداة السنّة، ولا هي قادرة (أو راغبة) على مواجهة تيار المعاداة للسنّة في الوسط القبياتي. لقد تهيبت المواجهة مع خصومها في مادة وموضوع التعبئة للانتخابات البلدية، وفضلت المراوغة: فكان لسان حالها يردد «ألا لا يزايدن أحد علينا في محبة القبيات». وسمّت لائحتها «القبيات في القلب».
اللائحة الأولى على موقف حاسم وواضح: الخطر على القبيات سُني، ما يستدعي المزيد من الوحدة المسيحية، والشيعي إلينا أقرب. تعالوا إلى حلف الأقليات. ولنعمل على إسقاط لائحة حبيش ــ القوات؛ فهي امتداد «سلفي» في الداخل القبياتي، ما يستوجب التصدي له وإسقاطه، وصولاً إلى طرده من القبيات. وهكذا وجدت اللائحة الثانية نفسها في موقع الدفاع عن هويتها القبياتية، بل المسيحية أيضاً. وعمدت، من باب رد التهم ومن باب اتهام الخصم أيضاً، إلى اتهام حزب الله بالتدخل انتخابياً في القبيات، مشيرة إلى الخطر الشيعي وسعيه إلى توسيع سيطرته في مناطق عكار. ومن هنا نقرأ الدور الذي أداه المتقاعدون وبعض الضباط على ما يُشاع في التحريض على اللائحة الثانية تحت عنوان التهجم على الجيش في قضية حادثة الكويخات ومقتل الشيخ عبد الواحد ومرافقه.
لقد تواطأ طرفا الصراع، دون أي تنسيق بينهما، على طمس الرهانات الفعلية للانتخابات البلدية: الإدارة والتنمية المحليتين. وجعلا من الهوية ومن رد الخطر موضوع هذه الانتخابات.

النتيجة

ليس هناك من شك في أن لائحة «أرضي هويتي» حققت فوزاً ساحقاً: كامل أعضاء المجلس البلدي (18 عضواً)، مع فارق في الأصوات بلغ في متوسطه نحو 650 صوتاً. لكن الأهمية لا تتوقف هنا، بل قل ليست هنا. لقد تشكلت في القبيات قوة صاعدة متجاوزة لأحزابها، تحت عباءة وحدة القبيات ونقاء سكانها المسيحيين، وهي تندرج في سياق إعادة بناء وحدة المسيحيين (الطائفة). وهذا ما يعبّر عن منحيين. الأول، منحى غلبة منطق الطائفة ووحدتها، ومن مفاعيله القضاء على الزعامة التقليدية المتمردة عليها. وهذا ما حاول مخايل الضاهر اللحاق به من موقع الضعيف الذي تتهاوى زعامته، وما حاول تجنبه حبيش والالتفاف حوله، وهو على طريق التهاوي أيضاً، إذا ما استمرت الأمور على هذا السياق. والثاني، منحى غلبة منطق الطائفة المندرجة أو الساعية إلى الاندراج في «حلف الأقليات» على منطق القوى المسيحية المتحالفة مع الأغلبية السنية. هذا المنطق هو الذي جعل القبيات المارونية تنتخب بلديتها على إيقاع وارتدادات الفتنة السنية الشيعية.
إلى أين سيقود هذا المنطق؟ الأمر مرهون بمشروعي كل من السنة والشيعة في المشرق العربي والإسلامي. هذا إن كان هناك من مشروع سني، في مواجهة مع المشروع الشيعي. يبقى السؤال معلقاً بانتظار الآتي من صراع العصبيات الطائفية في المنطقة.
* أستاذ جامعي