لم يكن شباب هذا الجيل السوري يتوقع أن يعاصر تلك اللحظة المفصلية من التاريخ. إنه ذلك الجيل الذي عاصر سوريا في زمن الرئيس الراحل حافظ الأسد إلى ابنه الرئيس بشار الأسد، وزمن الأزمة السورية المدمّرة. ذلك الجيل الذي عرف سوريا يوم كان يتوجّه باللباس العسكري الزيتي إلى المدرسة، عصر طلائع البعث وشبيبة الثورة، ليستبدله بآخر أكثر أناقة يدلّ على حالة وعي تربوي ـــ طارئ ـــ في الدولة، لينتهي الآن بعصر «جبهة النصرة» التي حوّلت المدارس إلى متاريس، وجعلت من أطفال المناطق «المحرّرة» سفاحين وقاطعي رؤوس.
إنّ الأزمة السورية بتركيبتها المعقدة وتطوراتها المتسارعة تفرض على المجتمع السوري عموماً، وشبابه خصوصاً، أن يواكب هذه الأزمة بسرعة أكبر من محركات الأزمة النفاثة وبعقلية أكثر ذكاءً ومرونةً من دهاء موجّهي الأزمة الخارجيين.
إنّ أي تنظيم لحالة الفوضى الضاربة في جذور المجتمع لا تكون إلا بعملية سياسية شاملة تقودها أحزاب وطنية عصرية قادرة على استيعاب طاقات الشباب التواقة إلى التغيير الشامل. إن هذه القدرات الشابة تشبه السيول المنحدرة من أعالي الجبال، فإن لم تجد سدّاً منيعاً أو بحيرة تخزّنها لتستفيد من مياهها في دورة الحياة، فإنها تستمر في جرف كل ما تصادفه في وجهها ليتحوّل خيرها دماراً قبل أن تغور في الأرض.
إن أحد أكبر الملومين في الأزمة الجارية في البلاد هو تقاعس الأحزاب الأيديولوجية في الفترة الماضية عن أداء دورها وواجبها الطبيعي في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وانغماسها في صراعاتها الداخلية، والمنافسة العقيمة مع مثيلاتها من الأحزاب القومية والعلمانية والوطنية، بدلاً من أن تنضوي هذه الأحزاب جميعها تحت «تحالف علماني» وطني الهوية لمواجهة هجمة الإسلام الأصولي ـــ السياسي الهادف لتدمير المجتمع والهوية الوطنية للدولة ومؤسساتها. من المستغرب أنّ هذه الأحزاب التي جاءت بنظرة شاملة لعلاج أمراض المجتمع، بات اهتمامها مقتصراً على القشور والخلاف على التفاسير الحرفية لأقوال مؤسسيها ومفكريها، بما يشبه تفسيرات الآيات المقدسة في الرسالات السماوية التي نتجت عنها المذاهب والطوائف المتناحرة فيما بعد، فضلاً عن أن هذه الأحزاب التي وصلت إلى العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، في عصر التكنولوجيا وسرعة المعلومات، ما زالت تتعاطى مع المشاكل السياسية والمجتمعية والاقتصادية بنفس الطريقة التي اتبعتها في النصف الأول من القرن الماضي! فلم تطوّر أساليب التواصل والاتصال لديها، ولم تستفد من عصر تكنولوجيا المعلومات في تطوير وسائل إيصال أفكارها إلى الشعب في سبيل الوصول إلى أكبر شريحة من المجتمع. فاكتفت جميعها بصحف فقيرة هزيلة التزمت اللغة الخشبية طريقةً وحيدةً لمخاطبة مجتمع بات متعطشاً إلى لغة حديثة في الخطاب يحتاج إليها الآن في أحد أكثر مفارق التاريخ خطورة!
لا تتوقف أخطاء هذه الأحزاب هنا، بل تمتد إلى نقطة أخطر وهي عدم امتلاكها رؤية استراتيجية واضحة تربط حاضرها بواقع الصراع الإقليمي ـــ العالمي على منطقة المشرق العربي وتداعياته عليها، إضافةً إلى فشلها في بناء منظومة مؤسساتية حقيقية تكون مثالاً مصغراً عملياً لبنية الدولة المستقبلية. أما أخطرها، فهو غياب القرار المستقل لهذه الأحزاب، الذي بات مُصادَراً لدى أشخاص متسلقين يعملون في الدوائر العليا لهذه الأحزاب لحساباتهم الخاصة ولحساب جهات مرتبطة.
إلا أنّ المضحك المبكي هو عندما ترمي هذه الأحزاب بفشلها على الشارع الفوضوي المشتت، الذي فشلت باستقطابه بعد إغراقه في شعارات براقة ومنطلقات نظرية لم تعرف قياداتها الفاشلة طريقة براغماتية لتحويل مبادئها النظرية والإصلاحية إلى مشاريع عملية وخطط ملموسة توفّر لهذه الأحزاب ثقة ودعم الشعب، وتمثّل عامل جذب لفئات واسعة من جيل الشباب الذي تقع عليه مسؤولية النهوض بالمجتمع، لكنّ هذه الأحزاب وفي ظل نهجها الخاطئ المتّبع، لم يبتعد عنها الشعب فحسب، بل نفر أيضاً من صفوفها الكثير من الأعضاء الشباب الفاعلين، الذين أصيبوا بخيبات أمل نزلت على رؤوسهم كالصاعقة، فرفضوا أن يتحملوا نتائج فشل قادتهم وأخطائهم، ليجدوا أنفسهم خارج الدائرة الحزبية بعد آمال ومحاولات مريرة للتغيير لم تنجح ـــ للأسف ـــ بإحداث أي خرق في جسم القادة الهرمين الذين حمّلوا هذه الأحزاب أمراضهم وجعلوها تشيخ معهم.
إن من أهم ما تناسته هذه الأحزاب التي بنى معظمها عقيدته الفكرية على أسس علمية، أن نظرية التطوّر يمكن تطبيقها أيضاً على حركة المجتمع وتطوره، إذ إن الكائن الذي لا يتكيّف مع ظروف الحياة الجديدة يندثر لتحل مكانه كائنات أخرى أكثر قدرةً على البقاء والاستمرار. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى هذه الأحزاب، فإن لم تدق ناقوس الخطر للبدء بورش عمل حقيقية تقودها كفاءات شابة مثقفة واعية تنقذ وجود هذه الأحزاب والعقائد والبلاد قبل فوات الأوان، فلسوف تحلّ مكان الأحزاب الوطنية والقومية والعلمانية «تيارات مرحلية» تقوم على أسس طائفية ومذهبية ومناطقية وعشائرية وطبقية تلبّي واقع الأمراض المزري في البلاد، وتقضي على مساحة الأمل الباقية للنهوض بمجتمع مدني يُبنى على أساس المواطنة والمساواة وفصل الدين عن الدولة. لذا، فنحن الشباب السوري الواعي، هدفنا أن نورّث بلادنا معافاةً قوية للأجيال القادمة من الشباب، قبل أن يتهمونا كما اتهمنا نحن أهلنا وأجدادنا من قبلنا بالقصور والفشل السياسي.
* كاتب سوري ـــ لوس أنجلوس