من يبرّئ الأمن الأردني من حادثة موت أحد نزلاء مركز إصلاح وتأهيل الجويدة (إحدى مناطق عمان) منذ أيام؟ ومن يمتلك الثقة حيال نزاهة التحقيق بواقعة إطلاق رجل أمن ستة أعيرة نارية على مواطن آخر صبيحة الثلاثاء؟ وهل تعيد السلطة إنتاج العنف الاجتماعي المتزايد بين مواطنيها؟ رغم أنها ليست بريئة من أسباب وقوعه، ولا حكيمة في معالجته، وإن كررت ادعاءاتها بشأن استخدام «الأمن الناعم». في دولة الأمن الناعم، تُوثق تقارير المركز الوطني لحقوق الإنسان 122 شكوى ضد مديرية الأمن العام، و78 ضد وزارة الداخلية، و46 ضد دائرة الاستخبارات العامة، لتمثل 43% من مجموع الشكاوى المقدمة في العام الواحد. وفي دولة الأمن الناعم يُشهر السلاح داخل المؤسسات التعليمية والبرلمان، وتشير الاحصائيات الحكومية إلى وجود 350 ألف قطعة سلاح مرخصة، وترجح التقديرات غير الرسمية ضعفي أو ثلاثة أضعاف هذا الرقم من الأسلحة غير المرخصة.
سعت الدولة الأردنية منذ تأسيسها إلى تفتيت الروابط والبنى الاجتماعية القائمة، مخفقة في تذويبها وانصهارها داخل دولة المؤسسات والقانون، وجلّ ما أنجزته هو استبدالها نفوذ العشائر والوجاهات التقليدية بـ«دولة العشيرة» من خلال أجهزتها الأمنية، التي قضت على كل حراك أو هبة شعبية حاولت تغيير الواقع سلباً أو إيجاباً، وكان يجري التعامل مع جميع أشكال العنف على اختلاف بواعثه السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية بعقلية بدائية تساوي بين هذه البواعث. وتنزع احتمالات تصاعده الآنية في تجاهل تام للشروط التاريخية التي أنتجت العنف بوصفه خروجاً على السلطة وتجاوزاتها.
خلال الأعوام الأخيرة التي شهدت ولادة الحراك الشعبي في الأردن، لم يستطع النظام التخلي عن رؤيته الأساسية تجاه الدولة وشعبه، وقامت أجهزته بتفكيك مطالبات الاحتجاج على قاعدة انحراف أصحابها عن جادة الصواب، وتبنيهم أجندات مشبوهة من شأنها ضرب الوحدة الوطنية وتدمير النسيج الاجتماعي الواحد. وجرى اختراق الحراكات في اتجاهين: اغتيال صورة المشاركين فيها، وإعادة تشكيلها وفق انقسامات المجتمع العمودية: أردني/ فلسطيني، شمال/ جنوب. وأخفت الصورة التي روّجها النظام لنفسه حول انضباط أجهزته الأمنية في التعامل مع النشطاء السياسيين ممارسات أخرى من العنف والترهيب، سواء في تضييق الخناق على فرص العمل أمام هؤلاء الناشطين، وابتزاز بعضهم بتسجيلات صوتية ومصوّرة لعلاقاتهم العاطفية أو أسرارهم الشخصية لضمان صمتهم وتوقفهم عن العمل العام. نتيجة لذلك، يعتقد النظام الأردني بانتصاره على الحراك، وتفرّده برسم رؤية الإصلاح المنشود ومحدداته، عبر إصراره على إجراء الانتخابات النيابية وفق القانون الذي يريد، وإعادة تكليف عبد الله النسور، رئيس الوزراء السابق، تأليف الحكومة الجديدة التي ستواصل تحرير الأسعار التزاماً بتوصيات صندوق النقد الدولي، ولن تحيد كذلك عن توجيهات حلفائه الإقليميين والدوليين في ما يخص إدارتها ملفات المنطقة.
يقودنا هذا التحليل إلى قراءة مختلفة لاعتداءات رجال أمن الأخيرة، فالمسألة تتجاوز عدم قدرتهم على الفصل بين آرائهم الذاتية التي تجرّم مواطناً يشتبه في تعاطيه المسكرات والمخدرات وحفظ النظام وهو مهمتهم الأساسية. فالسلوك المتوقع لرجل الأمن هو اللجوء إلى العنف المفرط نتيجة شعوره بانتصار قيادته بعد عامين من التأهب ومواجهته الجموع دون احتكاك معها (باستثناء اعتصامات 24 آذار 2011، و15 تموز 2011، و14 تشرين ثاني 2012).
كما أنّ الاختلاف حول هيبة الدولة ومكانتها في نفوس المواطنين المحبطين قد يؤدي إلى تكرار اعتداءات الأمن في سعي منه إلى تعزيز قوة السلطة وإحكام سيطرتها على المجتمع، ما سيبني ذاكرة شعبية عدائية إزاءه تشبه نظيرتها المصرية خلال السنوات الخمس التي سبقت ثورة يناير. ملاحظة أخيرة تستدعيها مظاهر الاحباط بين الأردنيين، الذين يعزفون عن الانخراط في الأحزاب والاتحادات والنقابات العمالية ومؤسسات المجتمع المدني، ويلجأون إلى وسائل بديلة للرد على العنف الذي يقع عليهم، حيث يسارعون إلى تكذيب رواية السلطة، كما تفعل ـــ اليوم ـــ عشيرة الخطاطبة التي رفضت تسلم جثة ابنها وقبول تقرير الأمن العام الذي يُنكر قيام أي من مرتباته بالاعتداء عليه، مطالبة بإعادة تشريح الجثة التي تشي صورها المسربة للإعلام بخلاف ذلك.
ما يخشاه الجميع أن تنقلب الحال ذات يوم تفشل فيه الجهات الرسمية بتنفيذ حلّها الجاهز، دوماً، والمتمثل في التصالح بين رجل الأمن بوصفه ابن عشيرة وذوي المعتدى عليه، كونه ابن عشيرة أخرى، ولا ينتمي كلاهما إلى دولة يحكمها القانون. وحينها قد تتقمص فئة اجتماعية ما أدوار السلطة نفسها، وتفرض الفوضى شريعة فوق كل الشرائع!
* كاتب أردني