يمتلك الشيعة في لبنان وفي العالمين العربي والإسلامي مخزوناً ثقافياً وفكرياً قيماً وفي غاية الأهمية، فهو يؤرخ لتجربة خطّ الإمامة وأثرها في بلورة مدرسة سياسية وفكرية، وفي صياغة إطار سلوكي محدد لطائفة بأكملها على مستوى الممارسة السياسية في الميدان. فهم تمكنوا أخيراً، خلال العقود القليلة الماضية، من تظهير هذه التجربة النموذجية واستحضار بصماتهم من التاريخ القديم والبعيد، كذلك الأمس القريب، حتى أصبحوا محطّ أنظار العديد من الأوساط السياسية والعلمية والفكرية ومراكز الأبحاث والدراسات التي أخذت تعنى جميعها بالتعمق في مراجعة الفكر والفقه لدى الشيعة، وهي مراجعة قد لا تخلو في كثير من الأحيان من بعض التشويه أو التأويل أو التحريف! فهل من علاقة بين نظرية الحداثة ونظرية الإمامة في مقاربة مشروع بناء مؤسسة الدولة وتأطير الأمة؟ وما هي المحدّدات الموضوعية للرؤية الفقهية والسياسية للشيعة في ممارسة السلطة وتقلد الحكم؟ينطلق الفكر السياسي الشيعي من تمسك أهل البيت منذ البداية بمبدأ الحرية السياسية الذي ينادي به الإسلام، كما يجعل منه القاعدة في ممارسة النشاط السياسي والتعبير عن الرأي، وكذلك مبدأ الحرية الدينية الذي تكفله صراحة الشريعة الإسلامية، حيث كان دائماً في صلب الدعوة إلى اعتناق الدين الإسلامي ونصرة أئمة أهل البيت. فالحريات السياسية والدينية التي تتحقق بها الكرامة الإنسانية لمجمل الأفراد والجماعات في إطار المجتمع الإسلامي هي في أساس نظام الحكم الإسلامي الذي سعى أئمة أهل البيت إلى إرساء دعائمه. والحراك الذي انتهجوه منذ زمن الإمام علي، ومن قبله في عهد الرسول، يدلل على التزام هذه المدرسة في السياسة والقيادة بمفهوم الحرية الإنسانية التي تقرها المواثيق الدولية الحديثة ذات الصلة بحقوق الإنسان والمواطن من ضمن رؤيتها الخاصة للنظام الذي يحقق المساواة والعدالة بين مختلف الناس.
يمثل نهج الإمام الحسن امتداداً لعهد والده الإمام علي بن أبي طالب في التعاطي إيجاباً مع السلطة القائمة، بغض النظر عن مدى شرعيتها، وذلك على قاعدة الحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية بمنع الفتنة وحقن دماء المسلمين والحؤول دون الاقتتال الداخلي بقصد الوصول إلى السلطة. وما عقد معاهدة الصلح مع معاوية سوى بهدف تحصين الوحدة الداخلية للمجتمع السياسي الإسلامي وتفادي احتمال اندلاع الحرب في ما بين المسلمين. بيد أن الإمام الحسن ظل متمسكاً بحق الاختلاف وبالتالي الحق في المعارضة السلمية تحت سقف الوحدة، الأمر الذي يدلّل على مكانة الحق في الاعتراض في كنف الفكر السياسي لمدرسة أهل البيت من منظور الارتكاز إلى مقولة الحرية السياسية التي تضمن استمرار هذا الجدال بين السلطة والمعارضة في إطار المنافسة الديموقراطية بحسب منطوق الحداثة في الغرب، لكن المسالمة في المواجهة السياسية أو المعارضة بقصد الإصلاح لم تحل دون نقض معاوية للصلح بتوريث السلطة إلى ولده يزيد خلافاً لنص المعاهدة مع الإمام الحسن. فما كان من الإمام الحسين بعد استشهاد أخيه سوى الإصرار على مطلب الإصلاح في الحكم حتى الشهادة. من هنا، تجسد تجربة الإمام الحسين مرحلة جديدة في مسيرة أهل البيت لجهة المضي في مناهضة الاستكبار حتى النهاية والتشبث بخيار التعبيرات الاحتجاجية في سياق التصدي والتصعيد في معركة المواجهة، التي بلغت حد التضحية بالذات من أجل القضية التي حمل لواءها على الدوام في مقابل التعنت والتصلب في الجهة المقابلة.
يتيح الفكر السياسي لدى الطائفة الشيعية إمكانية تكوّن وبروز تعددية سياسية وحزبية في داخل المجتمع بالنظر إلى دور نظرية الاجتهاد في الفقه الشيعي، حيث تفسح في المجال أمام تكون وصعود المرجعية الدينية وكذلك القيادة السياسية، لكن أيضاً تعدد المرجعيات الفقهية على مستوى مؤسسة القيادة للطائفة والدولة في ظل نظام الحكم الإسلامي كما في إطار أي نظام سياسي واجتماعي. فقد تختلف هذه المرجعيات والقيادات في تقدير بعض الأمور وإصدار الأحكام الشرعية بشأنها، لكن التقليد التاريخي بحسب منطوق الشريعة الإسلامية والأدبيات الفقهية للمذهب الجعفري يقضي باحترام هذا التنوع في الأفكار وبالتالي قبول هذا التعدد في اتجاهات الرأي، ليس فقط على مستوى حرية إبداء هذا الرأي، لكن أيضاً على مستوى المشروعية السياسية والشرعية التي تنبثق من التقليد للمرجعية. هكذا تتمايز المرجعيات الدينية لدى الطائفة الشيعية بعضها عن بعض، وتتباين في بعض المواقف والتوجهات إزاء القضايا العامة أو المطروحة على الساحة، بحيث يعكس هذا التباين، أو أقله هذا الاختلاف في الاتجاهات السياسية والفكرية، مناخاً مؤاتياً لحصول واستمرار الحوار العقلاني على قاعدة النقد البناء داخل الطائفة وكذلك مع بقية المذاهب أو الفرق الإسلامية. بهذا المعنى، تسهم مؤسسة الاجتهاد في مكافحة حالة التفرد والإقصاء وفي إرساء نظام من الحرية انطلاقاً من مسألة احترام الرأي الآخر وقبوله، الأمر الذي يقود في نهاية المطاف إلى تكريس إمكانية المفاضلة المنهجية في الاختيار وفي نشوء المرجعية من رحم النخب المثقفة والمجهتدة، فصعود المرجعية إلى موقع القيادة في زمن الغيبة محكوم بالتحليل السياسي بالإطار الذي تفرضه النصوص والأحكام في الفقه والشريعة بقصد التسيير السليم لشؤون العامة والأمة. تمثل تجربة الجمهورية الإسلامية في إيران نموذجاً متميزاً للحاكمية السياسية المعاصرة وفق رؤية أئمة أهل بيت النبوة للدولة والحكم في العصر الحديث؛ فقد تمكن العقل السياسي للنخب المثقفة والحاكمة في إيران من الفقهاء ورجال الدين من استنباط وتظهير طريقة فهمها وتجسيدها لنظرية الفصل بين السلطات العامة الدستورية بإنشاء واستحداث الأجهزة المختلفة التي تناط بها مختلف الاختصاصات والصلاحيات على قاعدة التخصص في تحديد المسؤوليات والتوازن في ممارسة المهام. إن النظام السياسي والدستوري لولاية الفقيه الذي ابتكره ببراعة علماء الشيعة في إيران، وفي طليعتهم الإمام الراحل الخميني، لتسيير عجلة الحكم على منهاج أهل البيت في غياب الإمام المهدي، يتضمن قانوناً واجتهاداً وجود عدد من الهيئات السياسية والإدارية، كمجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور ومجلس تشخيص مصلحة النظام إلى جانب الحكومة، وعلى رأسها رئيس الجمهورية وهو رئيس الدولة، وفي أعلى التسلسل الهرمي الولي الفقيه والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية، من باب توزيع الأعباء المنبثقة عن ممارسة السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على المؤسسات الحكومية والرسمية بطريقة متقنة. هكذا يدلل وصول الشيعة من أتباع المذهب الجعفري إلى السلطة حديثاً على التزام هذه المدرسة السياسية التاريخية بضرورة فصل السلطات في إطار السعي من أجل إقامة الحكم الرشيد أو أقله التمهيد في عصر الغيبة لقيام الحكم العادل حين ظهور الإمام المنتظر، وهو الأمر الذي ينطوي على إرادة الحؤول دون التركز في السلطة وتالياً الاستبداد بلغة القانون الدستوري.
تحظى الرؤية السياسية لمدرسة أهل البيت في التاريخ القديم والحديث كما المعاصر بمكانة متقدمة وأهمية خاصة في كيفية مقاربة مسألة السلطة ومقولة الحكم في الدولة الإسلامية وكذلك في إطار الدولة الحديثة. وهي تبدو أقرب إلى اليسار منها إلى اليمين من حيث التموضع السياسي والأيديولوجي لجهة المطالبة بالإصلاح والعدالة الاجتماعية، بل إن الفكر السياسي لخطّ الإمامة هو في الصميم نموذج خاص ومتكامل لمفهوم اليسار السياسي العام. فهو ينطوي على مقاربة منهجية جديرة بالدراسة والتحليل لمؤسسة السلطة على صعيد القيادة. تعنى مدرسة الإمامة بتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وكذلك نظرية الحق ورابطة الولاء وغيرها من العناصر أو المحددات التي تتصل بدينامية استمرار عجلة سلطة الحكم وكذلك التداول السلمي للسلطة وصولاً إلى تأمين استمرارية مؤسسة القيادة واستقرارها وتصويب وجهة المسار العام للفئة الحاكمة، فضلاً عن دور النخب المستنيرة في العملية السياسية.
تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على الفكر السياسي للنخب المثقفة الشيعية التي تنتمي إلى المذهب الجعفري عبر التاريخ انطلاقاً من تجربة أئمة أهل البيت واستناداً إلى الفقه الشيعي. ليس المقصود بطبيعة الحال الدعوة إلى تقليد أو اعتماد طريقة الفهم والتعبير في العقل السياسي الشيعي، وهي لا تصلح بالتأكيد للتطبيق بالكامل في لبنان، لكنها في المقابل تعكس تجربة خاصة وفريدة في ممارسة السلطة والحكم وحتى في نشوء القيادة وصعودها. فالمضي في تصويب السهام على نظرية الولي الفقيه بطريقة عبثية إنما ينال من الخلفية الثقافية والتاريخية لهذه التجربة الحديثة في إشارة إلى تجربة أهل البيت ومن ثم علماء الشيعة في التراث الإسلامي والحضاري. ولا يسعنا في الختام سوى التشديد على كون هذه المدرسة السياسية والفقهية واحدة من أبرز المدارس السياسية والمذاهب الفكرية في التاريخ وفي العالم، شأنها في ذلك شأن بقية المناهج أو النظريات الغربية والشرقية أو الاستشراقية في الليبرالية والرأسمالية والاشتراكية والشيوعية والماركسية والديموقراطية الاجتماعية...
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا