رغم أنه فقد جاذبيته أمام المشتغلين بمتابعة الأزمة السورية إلا أن عدَّاد السنين لها قارب على الانتقال إلى السنة السادسة، ولا تزال تفاصيلها بكل مساراتها وميادينها تتصدر قائمة الأخبار في جميع وسائل الإعلام في العالم. وتختلف مساحة التغطية الإخبارية وزخمها تبعاً لارتباط الجهة القائمة أو المسؤولة أو الممولة لكل وسيلة إعلام مع طرف أو عدد من الأطراف المشاركة بشكل أو بآخر في ما يجري على الأرض، وتسهم بتشكيل المشهد السوري الحالي بكل تشعباته وتشابكاته وتعقيده.
على عدَّاد المجموعات والفصائل والتنظيمات والحركات والفرق التي تتصارع في سوريا، اقترب الرقم من المئتين. رقمٌ يُعتبر سابقةً في تاريخ الصراعات والأزمات في العالم، ويتصدر تنظيما «داعش» و«جبهة النصرة» الإرهابيان قائمة هذه المجموعات ليأتي بعد ذلك كم كبير من المجموعات المسلحة التي استجلبت من التاريخ كل الأسماء والعناوين الإشكالية التي تزيد من حدة الاختلاف والشروخ. وتؤكد الذهنيات غير السوية التي تجتر خلافاتها وتؤججها عبر التاريخ.
لا يعترف عدَّاد
المهجرين والنازحين إلا بالملايين

أمَّا على عدَّاد الحكومات والهيئات والأحزاب والحركات والتجمعات والتيارات السياسية التي تدعي أنها تمثل الحراك أو أحد مكوناته، يطالعنا رقم كبير يعدُّ بالعشرات، جميعها تدعي أنها تمثل الشعب السوري وفي الحقيقة أنَّ كل شكل من الاشكال السابقة يرتبط وينفذ مشروعاً خاصاً لجهة ما، إقليمية أو دولية أو داخلية بتوجهات معينة بعيدة كل البعد عن مصلحة الشعب السوري والدولة السورية.
على عدَّاد أرواح السوريين الذين قَضَوا نتيجة هذه الصراعات، تختلف الأرقام ولا يمكن لأحد أن يحصرها بدقة، إلا أن الجميع متفق أنها بمئات الآلاف.
لا يعترف عدَّاد المهجرين والنازحين داخلياً وخارجياً إلا بالملايين، وهي كثيرة تجاوزت نصف سكان سوريا.
يبقى عدَّاد المليارات الذي يلهث بشراهة خلف تكاليف الدمار وتكاليف إعادة البناء والاستثمار، هو أكثر العدادات التي تتابعها أعين الذين يملكون قرار إيقاف نزيف هذه الازمة حين تبلغ هذه الأرقام قيماً تُرضي جشعهم الذي أشعل النيران في المنطقة برمتها وليس في سوريا فحسب.
للدراويش والسُّذَّج والحالمين وأتباع المنابر السياسية والدبلوماسية، وأسرى الإعلام صاحب الدور الأول في تصنيع الرأي العام والتجييش والتضليل ونقل الواقع والحقيقة وراعي المشاريع الخارجية والداخلية والمشاريع المضادة لكل منهما، لكل ما سبق هنالك عدَّاد المبادرات وخطط السلام وخرائط طريق الخروج من الأزمات والوعود والمقترحات وكثيرٌ مما يعتبر من الوصفات المخدرة والمهدئة إلى حين إنضاج الطبخة التي يعمل عليها بجد واجتهاد اللاعبون الكبار في لعبة الأمم. هذا العدَّاد سخيٌ أيضاً في أرقامه، ولا مشكلة لديه في عدم التوقف كما في قضية العرب الأولى فلسطين.
تحالفان اثنان فقط على عدَّاد التحالفات العسكرية تشكّلا لمحاربة الإرهاب في سوريا، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والثاني بقيادة الاتحاد الروسي، وكل منهما خلفه حلفاؤه التاريخيون.
عدَّادات كثيرة تتكامل في ما بينها لترسم المشهد السوري. مشهد بدأت ملامح الصراع فيه تتبلور بشكل يُظهر للعيان أن الصراع على الأرض في سورية ليس سوى مسرحاً إضافياً أغرق في دمويته للصراع بين المحورين المتصارعين تاريخياً في العالم حول مناطق النفوذ واقتسام الثروات وتأمين شرايين الاقتصاد لكل منهما. والصورة في سوريا الآن تجلَّت بواقعٍ أوضح بكثير مما يدعيه البعض، فلقد أعلن صانعو الأزمة ولاعبوها الحقيقيون عن أنفسهم، وأعلنوا دون مواربة أو حَرَج دوافعها وغاياتها، كما انكشفت تفاصيلها وشخوصها. وتبيّن أن الإرهاب كان السلاح الأمضى الذي تم استخدامه لتحقيق الغايات المطلوبة وعلى رأسها إسقاط الدولة السورية، حيث أُرسلت إلى سوريا التنظيمات الإرهابية المختلفةِ الارتباطات والمرجعيات، وتم تقديم كل الدعم المطلوب لها وبكل الاشكال المتاحة وعبر مسميات كثيرة... وللأسف كان المسمى الأهم الذي تم استخدامه واستثماره في سبيل ذلك هو «الثورة السورية» التي رفع شعارها من يسعى لتدمير سوريا، وانساق خلفها الكثير من الشعب رغبة منهم في الانتقال إلى سوريا أفضل، وظناً منهم أن من رفع هذا الشعار صادقٌ في نيته وأهدافه. إلا أن المخطط المرسوم كان يقضي باستخدام هذا المسمى لرفع نسبة التجنيد والتجييش، ولتغليف الأفعال الإرهابية والممارسات الوحشية والهمجية للتنظيمات الإرهابية العاملة تحت إمرة رعاة هذا المخطط وداعميه. فكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس والمعايير، وكان ثمن ذلك مرتفعاً جداً على كل العدَّادات والمؤشرات.
بالعودة للمشهد السوري الحالي، وبعد تفقد المشاركين الحقيقيين فيه، نجد أن «الثورة السورية» هي أكبر الغائبين، وإن كانت أكثر المسميات استخداماً وحضوراً على ألسنة شخوص هذا المشهد ومكوناته. لذلك يتحتم علينا - وإن لم نكن أول من يفعل ذلك – أن ننعي ما سمي «الثورة السورية»، وذلك احتراماً لمعنى الثورة الحقيقي والنزيه والمستقل عن أي مشروع ليست بوصلته مصلحة الوطن والمواطن. ولا بد لنا أيضاً أن ننعي «الثورة السورية» حفاظاً على ماء وجه من اعتقد بقيامها منذ البداية، وصدَّق أن الأطراف التي تدَّعي رعايتها ودعمها كانت لتسمح بها لو أنَّها فعلاً بمعايير الثورة الحقيقية التي منطلقها وغايتها مصلحة سورية الدولة والشعب. لكن الطريف أننا مهما بحثنا بين أكوام الجثث التي تتالت على عدَّادها أرقامٌ عصيةٌ على التسجيل فإننا لن نجد لهذه «الثورة» جثةً نتلمسها لنتيقن من وجودها. والمؤلم أنَّ عدم وجود جثة لها هو ما يستند إليه الكثيرون في تبرير وجودها وامتطاء خيول وهمها.
* اعلامي سوري