أظهرت الأزمة السورية مكامن الضعف في تركيا، التي راهن عليها الغرب من أجل مساعدة المعارضة ودعمها لاسقاط النظام في سوريا، وإيكالها تسهيل مد هذه المعارضة بكل العناصر اللوجستية والبشرية، إذ غدت تركيا محجة الغربيين وبنك المال الخليجي المتدفق ومركز استقبال الاسلاميين والمجاهدين القادمين من أصقاع الارض، ومخزناً للسلاح المتدفق من دول مجلس التعاون الخليجي وليبيا. وأضحت تركيا في طليعة الجهود الدولية للضغط على بشار الأسد لمغادرة السلطة. فأي جهاز استخبارات غربي قادر اليوم على احصاء أعداد المجاهدين المقيمين على أرضه واللاهثين للجهاد في سوريا بعلمه أو من دونه من خلال الحركة العسكرية والاستخبارية التركية. وفي هذا الأمر ما هو إيجابي بالنسبة إلى الغربيين وسلبي بالنسبة إلى الاسلام الجهادي، الذي وقع قسم منه في شرك الجهاد في سوريا، أما القسم الآخر، فهو جعل من الجهاد مهنة للارتزاق.حشد الاعلام السياسي الغربي منذ بداية الأزمة كل الامكانات على الحدود التركية ـــ السورية استعداداً لنقل وقائع اسقاط النظام، ولم يخطر له أن الأرضية التركية مليئة بالألغام السياسية الموقوتة. مع العلم أنّ الخبراء الاستراتيجيين الأتراك ركزوا انتباههم على احتمالات تطور الأزمة السورية، وتأثيرها في هذا الداخل بعدما استطاع الأسد الصمود وقمع المعارضة المسلحة في بلاده، ما أدى إلى احصاء العديد من التحديات التي تواجهها تركيا اليوم .
ما هي المكاسب التي كان يمكن أو يمكن تركيا أن تحصّلها من خلال سقوط النظام في سوريا؟ تكمن حسابات تركيا في رغبتين اثنتين، الأولى هي السيطرة السياسية عبر دعم وصول الاخوان إلى السلطة في سوريا، مما سيؤدي إلى حصولها وحلفاءها على مزيد من النفوذ السياسي في المنطقة، سيمتد حكماً إلى الأردن ولبنان وفلسطين. والرغبة الثانية اقتصادية وتجارية أي وضع اليد على الاقتصاد السوري بسبب التراجع الحاد في الاستهلاك وإلغاء تدفق رؤوس الأموال والاستثمارات، بناءً عليه سيكون الاقتصاد السوري بأمسّ الحاجة إلى الاستثمار التركي داخلياً، أما خارجياً، فستصبح سوريا بوابة البضائع التركية إلى دول المنطقة، فضلاً عن بروز العامل الأساس وهو الاستفادة من المشاريع المتعلقة بغاز المتوسط وانعكاسها على الداخل التركي الذي يمكنه أن يؤدي دور الخزان لتصدير الغاز إلى أوروبا.
لكن المخاطر على الداخل التي تواجهها تركيا من خلال صمود النظام السوري أدت إلى خلط الأوراق من جديد، ولعلّ أولى البوادر تجلت في المسألة الكردية. فلقد استثمر الأسد النزاع الدائر بين تركيا وحزب العمال الكردستاني وذلك بتشجيعه على المرور بكثافة عبر العراق من أجل دعم المواقع الكردية المتمركزة في شمال سوريا، كما سمح له حتى بالتحرك على طول الحدود السورية التركية بعد اخلاءالجيش السوري معظم مواقعه. لقد بدأ أكراد سوريا بتذوق طعم الحكم الذاتي منذ أن حرروا مدنهم، فمنعوا كلاًّ من القوات الحكومية والجيش السوري الحر من دخول أراضيهم.
وتوصلوا إلى إحداث نقطة ارتكاز ضد تركيا التي كان عليها مواجهة تهديد جديد يأتيها من حدودها الجنوبية، حيث أكثر من ثلث أعضاء حزب العمال الكردستاني هم من أصول سورية. إن سيطرة حزب العمال الكردستاني على المعارضة الكردية في سوريا جعل من معركة تركيا ضد هذا الحزب أكثر صعوبة.

المواجهة التركية: التعاون السياسي والاقتصادي مع كردستان العراق

يعود تغيير العلاقة بين تركيا وأكراد العراق إلى عاملين أساسيين، الأول الاحتلال الأميركي للعراق، والثاني وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. انقلبت المعادلات السابقة التي كانت تحكم العلاقة بين الجانبين، من التوتر والعداء إلى التعاون. ازدهرت حركة التجارة بين تركيا واقليم كردستان العراق، فالشركات التركية تستثمر في مجال المقاولات وإقامة مشاريع البنية التحتية، كما إقامة سكة حديد تربط بين إسطنبول وأربيل، فضلاً عن الخطوط الجوية. ودخلت تركيا بقوة على خط استثمار النفط والغاز في العراق، بعدما كانت حذرة عند غزو العراق عام 2003، من اعلان دولة كردية في الشمال، ومن تداعياتها المباشرة على وضع أكراد تركيا، الذين يزيد عددهم على عشرين مليوناً. رفضت في ذلك الوقت ضمّ كركوك إلى إقليم كردستان لقناعتها بأن مثل هذا الضمّ سيؤمن التمويل اللازم لإعلان إقامة دولة كردية.
إلا أنّ أكراد العراق مارسوا سياسة ضمنت حقوقهم ونجحت في إيجاد علاقة سلمية بين الإقليم والمركز (بغداد) طمأنت دول الجوار الجغرافي.
ساهمت الإدارة الأميركية في حماية سلامة الاقليم الكردي من تدخّل دول الجوار في شؤونه الداخلية، وكان ذلك بمثابة رسالة فهمتها تركيا.
وعلى أثرها ومع سياسة الانفتاح التي اعتمدها الأتراك، أصبح حجم التجارة المتبادلة بين الجانبين يحتل المرتبة الخامسة بين الدول التي تتعامل مع تركيا تجارياً، كما سعت تركيا إلى شراكة مع أكراد العراق لمحاربة حزب العمال الكردستاني، الذي يتخذ من المناطق الحدودية المشتركة مع إيران معقلاً لقواعده العسكرية، وصولاً إلى إيجاد حلّ للقضية الكردية في تركيا.
إن التنافس العلني بين إيران وتركيا على رسم سياسة العراق جعل أكراد العراق يرون في العلاقة مع تركيا مدخلاً إلى توطيد العلاقة مع الغرب الاميركي. ضمن هذا الإطار، دفعت الإدارة الأميركية الحليفين الجديدين إلى التنسيق عبر تشكيل لجنة ثلاثية لمكافحة حزب العمال الكردستاني، وإيجاد حالة من التنسيق المشترك.

أربيل بين القومية الكردية ولغة المصالح

تخشى تركيا «الحزام العربي»، وهو منطقة عسكرية تمتد على طول الحدود السورية مع تركيا (822 كلم) والعراق (600 كلم)، وصعّدت دورياتها الحدودية ورفعت عدد أفراد الأمن على الحدود، وأصدرت بطاقات هوية للاجئين السوريين في محاولة منها لمنع تسلل حزب العمال الكردستاني بين صفوفهم.
لا شك في أن فكرة كردستان الكبرى لا تزال مجرد حلم قومي لدى عموم الأكراد، إلا أنّ القيادة الكردية في العراق، وفي ظل الربيع العربي، تعمل على ضمان أن تكون كردستان السورية صديقةً لأربيل في ظل لامركزية يطالب بها أكراد سوريا. وهي بالاتفاق مع أنقرة تولّت تدريب الفارّين من الأكراد السوريين، لكي يعودوا إلى سوريا للعمل على إسقاط النظام السوري، وحاولت اربيل احتواء الجماعات الكردية المناوئة لحزب العمال الكردستاني. أشرف مسعود البرزاني على تأسيس المجلس الوطني الكردستاني، وهو تحالف ضم 15 مجموعة كردية سورية، في شهر أكتوبر 2011، لكن غياب حزب الاتحاد الديمقراطي عن هذا التحالف كان بسبب علاقة الحزب الوثيقة مع حزب العمال الكردستاني، ما حدا بالبرزاني نظراً إلى قوة الحزب وتأثيره في الأرض إلى عقد اجتماع في شهر يوليو للتوصل إلى اتفاق بين المجلس الوطني الكردي وحزب الاتحاد الديمقراطي، تحت اسم المجلس الكردي الأعلى. وجرى تأطير هذا الاتحاد قانونياً عبر اتفاقية أربيل في شهر يوليو 2012.

واشنطن شريك مباشر في الحوار بين الأتراك و«العمال»

لعل أوّل مفاوضات غير مباشرة بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية تعود إلى سنة 1993، عبر وساطة جلال طالباني، وباءت بالفشل نتيجة ممانعة مراكز القوى القومية التقليدية التركية حلّ القضية الكردية سلمياً.
أما جولة المفاوضات الثانية، فكانت أيضاً غير مباشرة، سنة 1997، حين أرسل رئيس الوزراء التركي، وقتئذ، نجم الدين أربكان، رسائل إلى أوجلان. وانتهت هذه المبادرة عند إطاحة أربكان.
الجولة الثالثة من المفاوضات كانت مباشرة، وبدأت بلقاءات أجرتها السلطات التركية مع أوجلان، بعد اختطافه ومحاكمته وسجنه الانفراديّ في جزيرة إيميرلي في بحر مرمرة عام 1999. هذه اللقاءات كانت تجري على نحو رسمي، وبتفويض من حكومة بولند أجاويد وهيئة الأركان التركية، لكن هذه المفاوضات انقطعت. كانت تنقطع المفاوضات وتبدأ من حين لآخر في زمن حكومة حزب العدالة والتنمية. أطول جولة مفاوضات كانت تلك السرية المباشرة، التي احتضنتها العاصمة النروجية أوسلو، من سنة 2008 لغاية شهر يوليو 2011، وتوقفت على نحو مفاجئ. ومع اندلاع الثورة السورية، وظهور الكردستاني كعامل استراتيجيّ وحاسم في سوريا والمنطقة، ازدادت الحاجة الملحّة والحيوية إلى احتواء هذا الحزب. عبّر الصراع بين الكردستاني وتركيا عن نفسه في الساحة السوريّة بأشكال مختلفة، بحيث يسعى الكردستاني إلى الاستفادة من الأزمة السورية، بغية تعزيز موقفه التفاوضي مع أنقرة وتحقيق مكاسب سياسية في تركيا، التي حاولت تحت مسميات عدة الاصطدام به عسكرياً، مما حدا بواشنطن إلى لجمها عبر سحب القوّات التركية من الحدود مع سوريا، تفادياً لإشعال المناطق الكرديّة بحرب يكون العمّال الكردستاني الرابح الأكبر فيها على نحو مباشر، والنظام السوري، على نحو غير مباشر.
وكانت واشنطن قد دخلت في أواخر صيف 2012 جدياً على خط الحوار مع أوجلان وضمان جدية الحكومة التركية والتزام أردوغان بالحلّ السلمي.
ما الخطوات الأولية في خارطة الطريق للحلّ السلمي؟ تطمح الحكومة التركية إلى أن يبدأ حزب العمّال بإعلان وقف اطلاق النار. ومن ثم يمكن أن تجري الحكومة تعديلات وإصلاحات دستوريّة على صعيد حلّ القضية الكردية في تركيا. تخضع عملية التفاوض للتجاذب الخطر، فعملية اغتيال الناشطات الكرديات في باريس سعّرت الاتهامات المتبادلة بين العمال والاستخبارات التركية، في الوقت الذي كانت تدور فيه المعارك بين المعارضة السورية المسلحة المدعومة من تركيا والمقاتلين الأكراد. وفيما المفاوضات مستمرة بين الطرفين، أعلن أردوغان رفضه الاعتراف بوجود قضية كردية في تركيا. هي معركة الضغط من الحكومة التركية لجعل طاولة المفاوضات مفتوحة وكسب نقاط، فيما رد حزب العمال على الخطة التي عرضتها الحكومة، التي تنصّ على أن يبدأ المتمردون الأكراد هدنة رسمية اليوم (21 مارس)، وأن ينهوا الانسحاب في شهر أغسطس من العام ذاته. ويتوقف الجدول الزمني على إقرار تركيا إصلاحات تعزز حقوق الأقلية الكردية، على أن يتعهد أوجلان الحفاظ على وحدة تركيا، ولا يطالب بحكم ذاتي للأكراد.
تطمح تركيا إلى جعل الكردستاني يلقي السلاح وينخرط في السياسة التركيّة، فبعدما فشل البعد القومي التركي في استمالة الأكراد الذين رفعوا شعار الحكم الذاتي في ظل الدولة التركية المركزية، يسعى أردوغان إلى استمالتهم باسم الاسلام التركي الديمقراطي، وادخالهم في الدفاع عن المشاريع والطموحات التركيّة. ويعتقد بامكانية الاستفادة من الوزن السياسي للعمال الكردستاني في سوريا، للوقوف في وجه إيران والعراق.
والسؤال الرئيسي هل يمكن حزب العمال الكردستاني الاكتفاء بالاعتراف بهويته الثقافية في ظل وجود اقليم كردي في العراق يتمتع بحرية؟ وهل ينتظر أوجلان اطلاق سراحه، ليستعيد من بعدها حرية العمل السياسي للتحاور في المسائل السياسية الاساسية؟ وهي المطالبة بعقد اجتماعي جديد؟
هل ستستطيع الحكومة التركية أن تلبي التوقعات المرتفعة للأكراد، حيث يصرح غلاة حزب العدالة والتنمية «لن يكون هنالك اتحاد فدرالي في هذا البلد». كيف يمكن أن تتبلور الممارسة السياسة الفعلية لرجال الدولة في التعامل مع حقوق الأكراد الثقافية، إضافة إلى طموحات الفدرلة الذي يرى فيه كثير من الأتراك انزلاقاً نحو الانفصال. هذه الأسئلة برسم ما يدور في أروقة صناع القرار الغربي، الذين لا يرون حلولاً للاقليات والاثنيات في الشرق الأوسط إلا عبر الفدراليات بعد القضاء على الدول القومية، أي دول سايكس ـــ بيكو. وما دعم الحكومات الاسلامية المنتخبة في وجه المعارضات سوى سيناريو لمقدمات عنفية لا يمكنها الانتهاء سوى بالفدراليات المطروحة على طاولة المصالح الاقتصادية الجديدة.
* أستاذة وباحثة في علم الاجتماع السياسي