من الطبيعي جدّاً أن تأتي ردود الفعل على «التحلّل» الجاري في مصر حالياً مصحوبة بقلق من إتيان الثورة على ما بقي قائماً هناك من مؤسّسات وهياكل للدولة. ليس مهماً الآن توضيح العكس لهؤلاء ووضع الأمور في نصابها لجهة مسؤولية السلطة الطبقية وحدها عن ذلك. سبق أن تطرّقنا لهذا الأمر هنا أكثر من مرّة، من باب تشريح انحيازات النظام الكفيلة وحدها بجرّ المجتمع إلى الفوضى الشاملة. وإذا عاودنا فعل الأمر ذاته فسنكون كمن يغضّ الطرف عن الخلط الذي تسبّب فيه انصراف قطاعات واسعة من الثوريين عن المجتمع وما سيعتمل به حال تفكّك السلطة وأجهزتها. الثغرة هنا كبيرة بلا شك ولا يمكن ملؤها بتطمينات قليلاً ما تجد لها صلة بالواقع وتعقيداته. لسبب لا يبدو لي مفهوماً تمتنع الكتلة التي أحدثت تعديلات فعلية داخل السلطة عن مصارحة القاعدة الأوسع من المصريين بما ينتظرهم في الأيام القادمة. فقد تضافر التقاعس ذاك مع الاستقرار الظاهري الذي أتى به صندوق الانتخاب ليوصلا إلى المجتمع صورة معقّمة عن الثورة لا تشبه تعقيدها ولا ما نعرفه عنها من صدام مستمرّ مع القاعدة الاجتماعية للسلطة. ثمّة ما يبشّر بوصول هذا الانطباع أخيراً إلى المصريين، أو إلى بعضهم. ولكن وصوله أتى ممزوجاً بمرارة شديدة يشعر بها هؤلاء تجاه من يفترض أنّهم يعرفون عن الثورة أكثر من غيرهم. في أكثر من مناسبة عبّرت الناشطة والصحافية الشجاعة نوارة نجم عن ذلك على طريقتها الخاصة. قالت مثلاً في ظهور تلفزيوني أخير لها إن أحد الأشخاص في الشارع قد بادرها بالقول: «اللي شبكنا يخلّصنا». وحين طلب منها تفسير الواقعة لجأت إلى تحليل سياسوي يربط تذمّر الناس، ومنهم الرجل ذاك، بمسؤولية الثوريين عن إيصال الإخوان إلى السلطة. قد يكون التفسير الذي لجأت إليه نجم هو الأقرب إلى «مزاج الشارع المصري» حالياً، إلا أن الأمزجة تتضارب أحياناً، فما تعتبره النخبة صواباً قد لا يكون كذلك بالنسبة إلى الطبقات الشعبية. لنتذكّر أنّ الأولوية بالنسبة إلى أولئك المفقرين ــ إلى جانب تحصيل حقوقهم ومكتسباتهم ــ هي حالة الفوضى التي تعاود الآن خلط الأوراق كما لم يحدث من قبل. سيكون للقطيعة المطلوبة مع الإخوان حظّها من اهتمام هؤلاء، ولكن ليس قبل أن تصلهم الصورة الكاملة للثورة وما ستفعله بالمجتمع. هم ينتظرون ذلك الآن من الثوريين المستعجلين لتغيير لا يبدو أنه يذهب أبعد من الاشتباك مع النّسق الاخواني المسيطر. على الطرفان أن يعرفا أوّلاً أنهما قد ولجا سكة «التغيير الدامي». وما سيحصل من الآن وصاعداً سواء كان اشتباكاً «محدوداً» مع السلطة أو صداماً مع انحيازاتها الاجتماعية لن يكون بلا ثمن. هم فعلوا ذلك سابقاً في الأيام الثمانية عشر «للثورة» وما أعقبها من مواجهات، لكن الثّمن اليوم سيكون مضاعفاً، وخصوصاً مع تزايد المؤشّرات إلى تحلّل السلطة وتركها للمجتمع عارياً من أي «حماية». الطبقات الشعبية هي أكثر المتماسّين مع هذا الانكشاف حاليّاً، وهي أيضاً أوّل من يدفع ثمنه. وما حصل بالأمس في شبرا (الاشتباك الأهلي بين عائلتين عقب خلاف على لعبة كرة قدم) وقبلها في الغربية (اقتصاص الأهالي من «مجرمين» يمتهنان خطف النساء) يؤكّد ذلك، ويفتح المجال واسعاً لمطالبة الكتلة الثورية بتطوير خطابها عن الثورة بما يتناسب وحالة الفوضى التي «يعجز» المجتمع حتى الآن عن استيعابها. لقد شهد المجتمع المصري في العامين الماضيين تحلّلاً ملحوظاً على المستوى الاجتماعي، وكان واضحاً أن أحداً من «الثوريين» لن يقدم على ربط ما يحدث اجتماعياً بآلية اشتغال «الثورة»، إن على مستوى مواجهتها للسلطة أو على مستوى صدامها مع القاعدة الاجتماعية لها. وفي الحالتين كانت الثورة تتفاعل بشكل مذهل وتدفع باتجاه التخلّي عن المقاربات النيوليبرالية الملوّنة المعمول بها إلى حينه. ثمّة مفارقة لا يمكن تفويتها هنا: شعور الناس المنتمين إلى الطبقات المسحوقة بهذا الصدام العنيف لا يتناسب مع ما يصل إليهم من تصوّرات عن الثورة وديناميتها. هم يرون أن السلطة في حالة تحلّل مستمر وان اختلفت مسمّيات من يشغلها (المجلس العسكري، الإخوان)، وأنّها عاجزة عن احتواء الصدام داخل المجتمع ــ لم يصل بعد إلى مرحلة الصدام بين طبقات اجتماعية ــ ولكنهم يحارون في تقديم تفسير ملائم لما يرونه. كيف يفعلون ذلك وهنالك من يخبرهم ليل نهار بأنّ الثورة قد انتهت وبأنّ ما يحدث اليوم هو نتاج المرحلة الانتقالية التي ستنتهي حال تسليم السلطة! لاحقاً سلّمت السلطة للمجلس العسكري السابق ولم تنته الفوضى، ثم أعيد نقلها مجدّداً من العسكر إلى «المدنيين» بعد الانتخابات الرئاسية وبقيت العجلة معطّلة. بالأساس لم تكن العجلة قد تأدلجت بعد حين أدرك فقراء المصريين ومن اصطدم منهم بالأمن عشيّة تاريخ 28 يناير 2011 أن تفكّك السلطة سيستمرّ وسيأخذ أشكالاً ليس بالضرورة أن تكون مرئية وتحت أعين المراقبين. لم يكونوا بحاجة إلى الإعلام ليقول لهم ذلك أو ليقول عكسه، فهم على علم وإن يكن «محدوداً» بدوره وبمصادر تمويله التي لا تعنى بالثورة إلا من باب تقاطعها مع مصالح هؤلاء المباشرة. وهذا ما جعل من مقولة «الثورة مستمرّة» التي عمّمها بعض هذا الإعلام مثار سخرية وتهكّم في كثير من الأحيان. «الثورة مستمرّة» ونهب حيتان المال للمفقرين والطبقات الشعبية مستمرّ أيضاً. «الثورة مستمرّة» وقمع أجهزة الشرطة للفعاليات الشعبية والعمّالية التي تحاصر أولئك الحيتان والاحتكاريين مستمرّ بدوره. «الثورة مستمرّة» على شاشات نجيب ساويرس (باع محطته مؤخراً لطارق بن عمار) ومحمد الأمين وعلاء الكحكي وليس من بين هؤلاء من هو مستعدّ للتضحية برأسماله الفعلي لقاء ترويجه الناعم «للثورة» ــ لم يكن خروج ساويرس وأسرته من مصر بعيداً عن ذلك رغم ادعائه العكس في لقائه التلفزيوني الأخير، ورغم عمل الاخوان باستمرار على وراثة حصّته من كعكة الاقتصاد ــ. حين يقال من على الشاشات للقاعدة الاجتماعية العريضة إنّ «الثورة مستمرة» فلا بد من توضيح تبعات ذلك القول، وإلّا فسنكون كمن يبيع الوهم للناس. بالطبع لم يعد ممكناً استمرار فعل ذلك بعدما لفظت الطبقات الشعبية كلّ الأوصياء عليها وكلّ المترسملين من أعداء الطبقة العاملة المعنيّة أكثر من غيرها بتجذير الثورة وتوسيع مروحة تحالفاتها. وما يجري حالياً من رضّات اجتماعية انّما يصبّ في مصلحة الطبقة تلك، حتى لو بدا ظاهرياً أن العكس هو الصحيح (بالنظر إلى الأثمان التي يدفعها الفقراء والمهمّشون قبل غيرهم عندما تعّم الفوضى). فهي لم تعد معنيّة بالمعارك التي تخاض باسمها، وما يعنيها فقط الآن هو كيفية تنظيم الفوضى التي أضحت واقعاً لا جدال في شأنه. الفوضى هنا ليست نتاجاً لتفكّك السلطة فحسب، بل لعجز القوى التي تولّت تفكيك هذه الأخيرة عن تقديم البديل أيضاً. ثمّة دينامية متصاعدة باضطراد في مواجهة سلطة الإخوان ورعاتها الإقليميين (قطر وتركيا ومن ورائهما الامبرياليات الغربية)، والأرجح أنها لن تتوقّف قبل إطاحة هؤلاء جميعاً. الطبقات الشعبية هي في صلب هذا التحرّك رغم انعدام الثقة بينها وبين من يقوده ظاهرياً، لكنّها في المقابل قلقة بخصوص الانحيازات التي تعبّر عنها بعض الاتجاهات اليمينية داخل المعارضة. هؤلاء أنفسهم هم الذين وقفوا مع السلطة أكثر من مرة حين كان يقتضي الظرف التلويح بسيناريو الفوضى! لطالما كانوا مع الفوضى إذا كانت ملوّنة وبعيدة عن امتيازاتهم واحتكاراتهم، وضدّها إذا أتت على الامتيازات تلك واقتلعتها من جذورها.
لم يكن في صالحهم أبداً أن تنتهي هذه الثنائية، فبقاؤهم من عدمه يتحدّد في ضوء استمرارها وحده. واستمرارها كان يعني إبقاء الثورة في حالة حيص بيص. الكتلة التي صنعت التغيير الشكلي كانت تعي ذلك، وكانت تعرف أيضاً أنّ الثمن الذي يتعيّن دفعه لقاء الإبقاء على «الثورة» في قوقعتها الملوّنة سيكون أقلّ بكثير على المجتمع من ثمن الدفع به داخلها. اعتقد أولئك الشباب وقتها أن «وحدة المجتمع» أهمّ من تغيير التراتبية الطبقية التي فرضتها السلطة عليه، وأنّ الطريق إلى صيانتها إنّما يمرّ بتغيير الممارسات لا السياسات أو الانحيازات. اليوم وبعدما انتفضت بورسعيد ــ معاودتها الهدوء بعد إيكال الجيش شؤون إدارتها أمر فيه نظر ــ و«لحقتها» على استحياء المنصورة وسوهاج و...إلخ يصبح لزاماً على هؤلاء أن يلحقوا هم بالمجتمع وطبقاته لا العكس. صحيح أن قوّة الدفع التي بدأت بها الانتفاضة كانت سياسيّة في «جوهرها» (الإعلان «الدستوري» الذي أصدره محمد مرسي في كانون الأول من العام الماضي) إلا أنّ تعديلات أساسية قد طاولت بنيتها فيما بعد. لم يعد الساسة والمترسملون الكبار أصحاب القرار في ما يجري من انتفاض ضدّ السلطة الاخوانية. بقي الأمر كذلك إلى أن حدث ما حدث في بورسعيد وباقي مدن القناة. ما أجبر السلطة على التراجع عن سيناريو الفوضى هناك هو قوّة المجتمع وتماسك الطبقة التي تقوده في هذه المرحلة. ولمن لا يعرف مثلا أهميّة الدور الذي لعبه عمّال بورسعيد في صياغة الانتفاض نقول لهم: لولا الإضرابات التي استمرّت داخل الموانئ والمصانع طيلة فترة المواجهات مع الأمن والشرطة لبدا المجتمع أكثر قابليّة للكسر من جانب السلطة ومجرميها. لنكن واضحين أكثر: ما حصل من تضافر لعناصر المقاومة في تلك المدينة كان نتاجاً للفوضى التي أحدثها هدم الثورة لسلطة القمع متمثّلة في الشرطة وقوّات الأمن. إذا كان هذا هو ما أخاف الثوريين وأرعبهم في البداية فما عليهم الآن إلّا النظر في حال بورسعيد غداة خروج ذراع السلطة منها! لم تعد الفوضى هي القاعدة هناك بل الاستثناء، والسبب في ذلك أنّ السلطة التي خرجت من بورسعيد لم تكن تعمل على تنظيمها ــ أي الفوضى، بل على تعميمها. وكانت حريصة على أن تفعل ذلك بمعيّة ومباركة قوى التخريب والتفكيك وهدم المجتمع. على الضفّة الأخرى كانت تقف الطبقة العاملة التي اشتغلت على تنظيم الفوضى وإبقائها في مواجهة السلطة وحدها، وما وصل منها إلى المجتمع وقواه الحيّة وطبقاته لم يكن ليؤثّر على سيرورة العملية الثورية. هكذا لا تعود الفوضى ذريعة لتمكين السلطة وأصحاب الرساميل من التدخّل في المسألة الاجتماعية كلّما أرادوا.
في حالة بورسعيد تغيّرت المعادلة كليّا، وغدا المجتمع بعمّاله ومفقريه وطبقته الوسطى صاحب اليد العليا. فحين يتدخّل المجتمع تخرج السلطة مدحورة رافعة راية الاستسلام. هكذا علّمتنا المدينة الباسلة كما يحبّ المصريون تسميتها. والحال أنّها لم تكن في صدد التحوّل إلى نموذج لولا نيّة السلطة في تركيعها، ولولا التقاعس الذي أبدته الكتلة الثورية أكثر من مرّة: مرّة في إيصال صورة واضحة عن الماهية التي تشتغل بموجبها الثورة، ومرّة أخرى في الحذر من انتقال الماهيّة تلك إلى داخل المجتمع.
* كاتب سوري