للاستبداد أساليب كثيرة ومتعددة لضبط المجتمع وإبقائه في ظل هيمنته، إلا أنّ أهمها عمله الدائم على خنق أي بديل محتمل عبر إجهاض كل الاحتمالات الممكنة بتلويثها بأمراضه وتشويه سمعتها وضرب جذورها الاجتماعية لتبقى مجرد نخب معزولة.وإذا كانت الاستبدادات تختلف فيما بينها بالدرجة، فإنّ أخطرها هو ذلك الذي يقتل الاحتمالات وهي لم تزل جنيناً، غير مكتف بالقتل، عاملاً على خلق أجواء وبيئة محيطة تتكفل هي بأداء مهمته بفعل الخوف الذي تنتجه الضحية من تلقاء ذاتها كنتيجة لما مورس عليها، باحثة عن خلاص فردي ما، ليس إلا وهماً في نهاية المطاف، وإلى هذا النوع من الاستبدادات العقيمة ينتمي النظام السوري وقبله العراقي، اللذان دمّرا الداخل، جاعلين من مهمة التغيير داخلياً شبه مستحيلة، مهيئين الأرضية للخارج لفعل فعله التدميري بطبيعة الحال.
عدم وجود البديل وتهتّك البنية المجتمعة الداخلية التي عمل النظام على إبقائها في حالة دون وطنية مع احتكار استخدام الورقة الطائفية والإثنية لنفسه بقوة العنف لمنع الآخرين من مجرد الحديث بها، يعطي النظام ورقة رابحة (بالنسبة إليه) حين تندلع الثورة ضده، بحيث يصبح الشعب الساعي إلى التحرر من سطوة الاستبداد أمام خيارين لا ثالث لهما: إما قبول تسوية يسعى النظام إلى أن تكون بشروطه، أو دخول بوابة العنف وتمزق الدولة واستنزاف الاقتصاد والوقوف على بوابة الحرب الأهلية، وهذا ما نقرأه في شعار «الأسد أو لا أحد، الأسد أو نحرق البلد»، لنكون أمام حالة انسداد ثوري وفق لغة المفكر هاشم صالح.
الانسداد هذا يضع القوى الوطنية السورية (التي هي حالات فردية بالكاد تتكوّن سياسياً، أكثر منها قوى بالمعنى السياسي للكلمة!) أمام معضلة حقيقية، تتمثل في البحث عن خيار يضمن رحيل الاستبداد وعدم الوقوع في الفراغ وتدمير الدولة الوطنية، ولما كان الاستبداد والقوى الخارجية ذات المصالح المتعددة يتعاونان (ولو على نحو غير مباشر) لحرق أي سفينة نجاة، فإن الموقف الذي تقف فيه هذه القوى الوطنية لا يغدو موضع حسد، فهي تتعرض لسهام شعبها الباحث عن إسقاط النظام بأية وسيلة بسبب العنف والدمار والوحشية التي وُجهت بها من النظام، مما يسبب اختفاء العقل لمصلحة الغرائز التي يفعل النظام والأطراف الخارجية (إعلامياً وسياسياً) على تصعيدها إلى أعلى حد، غير مدرك (الشعب) أنه مجرد وقود للسلطة وللخارج الذي ارتمت في أحضانه بعض أطياف المعارضة السورية. وتتعرض القوى الوطنية هذه، لحرب ضروس من قوى دولية وشطر آخر من المعارضة لأنها تقف عامل كبح بوجه مصالحها، فضلاً عن كونها تحت مرمى النظام المباشر فتكون مهمة إسكات صوتها وخنقه أسهل، ولعل ما حصل مع عبد العزيز الخيّر وماهر طحان ومازن درويش وحسين غرير وغيرهم مثالاً.
وإذا كان هدف الانتفاضة إسقاط الاستبداد ومنع سقوط البلد وتفككه وخرابه، فإن هذا الانسداد يضع الجميع أمام خيارين أحلاهما مر: إسقاط الاستبداد بكامل رموزه عبر الحل العسكري، بما يعني الاستمرار في تدمير الدولة السورية لمصلحة قوى خارجية، أو بقاء ما بقي من البلد عبر تسوية مع من لم تتلوث أيديهم بدم السوريين من النظام بما يعنيه ذلك من تنازلات تتطلبها أية تسوية، وهو ما يشبه تجرّع السم في حالة شعب رفع «الموت ولا المذلة» شعاراً لانتفاضته.
إن الإصرار على الخيار الأول يعني تدمير البلد، وهو ما يحصل فعلاً، فالنظام لم يعد يملك غيره خياراً، وهو مصرّ على المضي فيه حتى النهاية، كحال أي استبداد ما لم تردعه موازين قوى لا يبدو أنها تتكوّن في الحالة السورية. نتيجة هذا الخيار محكومة بأمرين: نهاية النظام والبلد معاً، أو أن يبقى النظام على رأس هذا الخراب سنوات مقبلة (البشير نموذجاً، وبقاء صدام من عام 1990 حتى عام 2003).
وللدلالة على كارثية هذه الرؤية يكفي سرد ما قاله الخبير الاقتصادي المعارض عارف دليلة: «الخسائر، في اعتقادي، وصلت إلى ما لا يقل عن 200 مليار دولار حالياً، فيما نحتاج إلى 25 عاماً لإعادة سوريا إلى ما كانت عليه قبل 15 مارس 2011»، وإذا استمر الأمر سنة أخرى، فسيتضاعف الرقم وتمتد سنوات الخراب السوري، بما يعنيه ذلك من إضاعة أجيال من مستقبل سوريا وتدميرها.
يبدو لأيّ عاقل أن الخيار السابق، لم يعد خياراً بقدر ما هو انتحار وكارثة، ورغم ذلك يبدو البحث في الخيار الثاني صعباً جداً وشبه مستحيل حتى هذه اللحظة، وخاصة أن حال لسان كثير من الثائرين لا يزال يقول: هل نقبل بقاء النظام بعد كل الثمن الذي دفع؟ وهل نكافئه على مجازره؟ لتواجهه أسئلة مضادة: وهل يضمن هذا الطريق سقوط النظام؟ وماذا ينفع الانتصار بعد تدمير البلد؟
أمام هذا الانسداد لا بدّ من التسوية التي يجب أن يدفع من خلالها الطرفان ثمن فشلهما ونجاحهما في آن واحد، فالنظام فشل في قمع الانتفاضة، ونجح في البقاء حتى اللحظة مع تدمير كل شيء، والمعارضة نجحت في تجذير الانتفاضة وإبقائها حية سنتين رغم كل العنف، وفشلت في إسقاط النظام سلمياً وعسكرياً، حين نجح النظام في جرها لأن تكون طرفاً في التدمير بمساعدة قوى خارجية، رضيت أن تكون أداة لها، فضلاً عن فشلها في كل ما طالبت به (حماية المدنيين، حظر جوي، تدخل خارجي،...).
لكن لا يعني ذلك التسوية بأي ثمن، لا معنى لأية تسوية (وهي لن تكون بأية حال) إلا بشرط إنهاء التوريث، وتفكيك الاستبداد في بناه العميقة، أي تصفية الدولة العميقة بأجهزتها الأمنية، وإخضاع تلك الأجهزة للقرار السياسي والقضائي (بما فيها سلطة الحكومة والرئاسة)، ووضع أسس عدالة انتقالية تضمن للضحايا وللمعتقلين كرامتهم، وأن تكون قائمة على أساس العامل الوطني لا العامل الشخصي الذي لا تزال السلطة والمعارضة تقاربان الأمور من منظاره، وإلا فالخراب قادم، هو ما يبدو الاحتمال الأبرز، فنحن أمام نظام أضحت اللغة عاجزة عن وصف همجيته، ويبدو أنه عاجز عن قبول أية تسوية من هذا النوع، بسبب بنيته العميقة والعقيمة في آن واحد، وأمام معارضة خارجية لم تكن إلا وقوداً للخارج وممراً لتدمير وطنها، والأسوأ من الطرفين أن ثمة بنية اجتماعية متهكتة بدأت تفرز ما غرسه فيها الاستبداد من أمراض، مستجيبة بذلك لأفعال الطرفين السابقين بردود فعل تخرج الموروث الديني/ الطائفي/ المذهبي اللاعقلاني، استجابة لدول خارجية تغذي هذا الميل (إيران، قطر، السعودية، أنقرة) مما يدمر أي تراكم مدني/ سياسي/ عقلاني، لنكون أمام مفارقة تحكم الحالة السورية: انتفاضة تهدم الاستبداد بيد، وتدمر منجزاتها باليد الأخرى!
ومع ذلك لا بديل عما يحصل، فمن قلب هذا الصراع ستخرج زهرة الحرية، ليبقى النضال مستمراً سنوات قادمة باتجاه جعل الحرية توصل إلى ديمقراطية حقيقية مؤسساتية، تجابه السلطات الوليدة من جهة، والموروث الشعبوي/ الديني/ الاجتماعي الذي أخرجته هذه الانتفاضات إلى العلن. وحده الانخراط في الانتفاضة ما يضعنا على الطريق الصحيح، أما الندب والوقوف على أبواب التاريخ الذي يسير، فليسا إلا تكريساً لبقاء الاستبداد الذي لن يبقى بأي شكل من الأشكال.
* كاتب وشاعر سوري